“احذروا، الكلام اللي كان اتعمل من 7 أو 8 سنين مش هيتكرر تاني في مصر”، كانت هذه الكلمات التي أعقبها تصفيق حاد للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 عنوانًا واضحًا للمرحلة التي تلت 30 يونيو/ حزيران 2013.
تلك الرؤية تبنّتها كل مؤسسات الدولة، وسعت السلطة إلى ترجمتها واقعًا للتأثير في الجماهير، مستخدمة أدواتها الناعمة كالفن والسينما والدراما لتشويه ثورة يناير، وتحميلها كل المشكلات التي عانى ويعاني منها المصريون حتى تلك التي بدأت قبل الثورة.
ولضمان ترجمة تلك الرؤية إلى واقع، لجأت السلطة للسيطرة على البنية التحتية للإنتاج الفني والإعلامي، وتوجيه الفنانين للسير في هذا الاتجاه.
من الاحتفاء إلى التشويه
بعد 3 شهور فقط على الثورة، تأجّلت الدورة الـ 37 للمهرجان السينمائي المصري الدولي، وحلت محلها احتفالية جمعية الفيلم بثورة 25 يناير، حاول خلالها الشباب تقديم عدد من الأفلام القصيرة عن نبض الشارع كفيلم “جمعة الرحيل” و”شهيد الثورة”.
عرضت الاحتفالية حينها أفلامًا قديمة جديدة عكست أجواء الظلم والقهر وتنبّأت بالثورة، منها “الجوع” و”البريء” و”هي فوضى”، والأهم أنها نفضت الغبار عن أفلام غيّبتها الرقابة السياسية عقودًا من الزمن، كفليم “زائر الفجر” الذي مُنع بعد أسبوع عرضه بأمر من الرئيس الراحل أنور السادات.
في العام التالي للثورة، احتفت الجمعية ذاتها، التي تعدّ الأقدم من نوعها في مصر، بأفلام وثائقية سجّلت تفاصيل الثورة المصرية، تقديرًا لأهميتها في التأريخ للثورة، بينما أُلغيت مهرجانات فنية دولية بالقاهرة خلال الفترة ذاتها.
منظمو الاحتفال أرادوا حينها من خلال هذا المهرجان -الذي خُصص أساسًا للأفلام الروائية- التأكيد على أن السينما المصرية هي دائمًا في قلب المعركة من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، وأنها وسيلة مُثلى لتوثيق ثورة الشعب على حكّامه المستبدين.
أصبح كل عمل درامي أو سينمائي جديد يثير الانقسام بين من يرى فيه توثيقًا تاريخيًّا أو استخدامًا سياسيًّا.
لكن الإنتاج السينمائي والروائي حينها لم يكن حسب وجهة نظر بعض النقّاد كافيًا للتعبير عن تلك المرحلة المهمة في تاريخ مصر، خاصة أن الأفلام كانت تُتنج بأجندة مطلوبة مقابل التمويل.
كحال المصريين، استبشر الفن والسينما بشكل خاص بعهد جديد يتراجع فيه مقص الرقيب السياسي، وتتعزز نسائم الحرية، لكن بعد سنوات قليلة لم يعد هذا الفن يعبّر في الأساس عن صورة الثورة الحقيقية، بل أصبح كل عمل درامي أو سينمائي جديد يثير الانقسام بين من يرى فيه توثيقًا تاريخيًّا أو استخدامًا سياسيًّا.
أعمال فنية برعاية السيسي
في نصوص الدستور المنسي “يناير ثورة شعب”، وفيما عدا ذلك، هي لحظة خراب تعمل الشاشات الصغيرة والكبيرة ليل نهار لشيطنتها باعتبارها فكرة يجب أن توأد قبل أن تولد.
وفي أكثر من مناسبة، توجّه السيسي إلى الممثلين وصنّاع الأفلام للتأكيد على دورهم في فترة حكمه، وفي خطاب تودُّد معتاد ألقاه خلال احتفالات وزارة الداخلية بعيد الشرطة، في العام الأول لتوليه السلطة، وجّه السيسي حديثه إلى الإعلام والفن، وتساءل: “محتاجين تبقى تجربتنا ثرية، مين هيتصدى لدا؟ مين هيعمل الوعي دا؟”، مخاطبًا الفنان أحمد السقا والفنانة يسرا: “والله هتتحاسبوا على دا”.
-مقطع فيديو لحديث السيسي للفنانيين-
منذ ذلك الحين، بُثّت أعمال فنية وسينمائية عديدة، وبدت الدراما السياسية وكأنها ورثت الموعد السنوي لأغراض ليس من بينها الكسب والإضحاك، ومع كل عمل فني كان الجدل سيد الموقف، خصوصًا أن الكثير منها اُستخدم سياسيًّا لتكريس وجهة نظر النظام الذي استهدف شيطنة الثورة.
أصبح التشكيك في الثورة رسالة كل عمل فني، وحمل السقا رسالة السيسي على عاتقه حتى قبل أن ينطق بها، فجسّد دور البطولة في فيلم “الجزيرة 2″، الذي تبنّى الرواية الرسمية المعادية للثورة، وركّز على فكرة المؤامرة التي جعلت من الثورة سببًا لاقتحام السجون، وجعلت من المتظاهرين في الفيلم جماعات إرهابية.
كان من السهل على صنّاع الفيلم تسكين الإسقاطات السياسية الواضحة في رأس الجمهور المسيَّس، ورغم ما يتّسم به الفيلم من وضوح، ثمة الكثير بحسب البعض ممّا يمكن تفسيره ثوريًّا، مثل جماعة “الرحالة” التي اتخذت في الفيلم شكلًا من أشكال المعارضة السياسية، وصعدت إلى السطح عقب ثورة يناير، في إشارة إلى جماعات الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين.
ولأن النظام في مصر لا يسمح لأي عمل فني بالخروج إلى النور إلا إذا كان راضيًا عن الرسائل الضمنية التي يمررها للجمهور، عُرض فيلم “عيار ناري” لأول مرة عام 2018 ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي الذي يترأّسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، وكان أول إنتاج سينمائي له.
قدّم الفيلم رؤية مثيرة للجدل عن ثورة يناير، وحمل راية التشكيك بشأن شهداء الثورة، وغسل أيدي الداخلية من دمائهم، كأن صنّاعه ينتقمون من الثورة بتشويه سيرة شهدائها وتمرير الرسالة السياسية التي أثارت كل هذا الاهتمام.
كذلك استهدفت الدراما استثارة الحس الوطني لدى الجماهير كما في فيلم “الممر” (2019)، الذي أشاد به السيسي ومدح أبطاله، وعبّر عن رضاه بهذا العمل، مشيرًا إلى أنهم “عبّروا عن شجاعة المصري الذي لا يتخاذل أمام التحدي”.
لم تكن تلك المرة الأخيرة التي يشيد فيها السيسي بعمل فني، فقد أشاد لاحقًا بمسلسل “الاختيار” الذي أُنتج بمشاركة هيئة الشؤون المعنوية في الجيش المصري، وأعاد التذكير بأحداث معاصرة لضحايا العمليات الإرهابية في سيناء، وصولًا إلى سرد رواية أثارت الانقسامات حول أحداث سياسية شهدتها مصر خلال حكم الرئيس محمد مرسي.
-كلمة السيسي لأبطال مسلسل “الاختيار”-
في حين قال السيسي إن الهدف من هذا المسلسل هو “أن نسجّل بأمانة وإخلاص وشرف في وقت ينعدم فيه الشرف والصدق”، وصفه المنتجون بالعمل الدرامي التوثيقي الهادف لإيصال رسائل سياسية من خلال الفن، في حين يرى منتقدوه أنه يقدّم وجهة نظر أحادية للأحداث تزيِّف التاريخ الحديث الذي عاصره المصريون.
سبق كل ذلك مسلسل “العرَّاف” الذي أثار تساؤلات بتناوله فكرة أن البطل (الفنان عادل إمام)، وهو نصّاب محترف، يترشح بعد هروبه من السجن لرئاسة الجمهورية.
عُرض المسلسل بعد الانقلاب ما دفع البعض لاعتبار أن في ذلك إشارة إلى أن القضية المشار إليها هي المتّهم فيها قياديين من جماعة الإخوان المسلمين بالهروب من السجون، ثم تقلُّد مناصب سياسية بعد الثورة.
العجيب أن هذا المسلسل بدأ إنتاجه في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، والذي شهد سقفًا عاليًا لحرية التعبير، ولم يتعرّض صانعو المسلسل لأي مضايقات من السلطات أو غيرها.
يأبى قطاع معتبر من المصريين التماهي مع كل ما يُنتج برعاية السلطات، ويُبثّ على الشاشات الصغيرة والكبيرة.
إلى جانب ذلك، سعى النظام إلى تمجيد شخصيات على قيد الحياة ولا تزال في مناصبها مثل الرئيس المصري نفسه، الذي سعى مسلسل “الاختيار 3” إلى تمجيده في صورة القائد الأسطورة الذي أُريد له أن يظهر في مهمة رسولية لإنقاذ مصر، في حين صوَّر الرئيس مرسي بأسلوب شيطنة الخصم، وجاء في صورة المهزوز.
وفي عام 2017، أُعلن عن إنتاج فيلم “أيام الغضب والثورة” الذي تغيّر اسمه إلى “سرّي للغاية”، ويستعرض سيناريو الفيلم الأضخم إنتاجيًّا -الذي يجسّد السقا دور البطولة فيه ويخرجه محمد سامي- دور اللواء عبد الفتاح السيسي في الفترة التي مرّت بها البلاد بين يناير/ كانون الثاني 2011 و30 يونيو/ حزيران 2013، لكن تصوير الفيلم أُوقف فجأة بأوامر عليا بسبب ما تسرّب عن “سوء مستواه الفني”، ولا يزال مصيره غامضًا.
في مقابل التخوين والتشكيك والتشويه للثورة ورموزها، حاول صنّاع السينما والدراما تحسين صورة الشرطة والجيش المصري، ورسم صورة لأجهزة أمن تشبه دول الثلج السعيدة البعيدة، جميع ضباطها باختلاف رتبهم -ما عدا الفريق سامي عنان المغيَّب- محترمون ومتفانون، لكن رغم كل ذلك يأبى قطاع معتبر من المصريين التماهي مع كل ما يُنتج برعاية السلطات، ويُبثّ على الشاشات الصغيرة والكبيرة.
نحو مزيد من الرقابة
لم يخفَ على السلطات دور الإعلام منذ اليوم الأول للانقلاب، فجعلته أحد أبرز بنود خارطة الطريق، والذي تُرجم سريعًا بإغلاق قنوات فضائية وصحف، وسجن إعلاميين وملاحقة آخرين.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تحوّل الإعلام سريعًا إلى صوت للسلطة لا غيرها، وتجلّت عسكرة الدولة في الفن والسياسة والمشاريع القومية وغيرها من أوجُه الحياة، وظهر الزي العسكري في كل أمر يخصّ المواطن.
لكي ينضبط المشهد، استعادت الرقابة دورها كأداة عقابية لمنع التعرض للسلطة أو الجيش أو الشرطة بما يسيء لها أو ينتقص من هيبتها، وكان ذلك من خلال إعلام المخابرات الذي سيطر على سوق الفضائيات المصرية، وتحكّم في الأعمال الفنية والشخصيات المشاركة أيضًا.
أسهمت هذه الأدوات في رسم الصورة التي تودّ لها السلطة في مصر أن تكتمل عن المرحلة الماضية في البلاد، فمنعت أفلامًا تغرد خارج السرب، مثل فيلم “نوَّارة” (2015) الذي ينتهي بهزيمة الثورة، وعُرض في وقت يشهد شيطنة الثورة، واتهام مؤيديها بالتضليل وانعدام المسؤولية، وفي حين حظي بإشادة واسعة، وحصد جوائز عالمية، مُنع من العرض في جامعة القاهرة لأسباب غير واضحة.
كما واجهت السلطات المصرية اتهامات باستخدام سلاح الرقابة لمنع خروج بعض الأعمال الفنية إلى النور مثل فيلم “اشتباك” (2016)، الذي قدّم حالة الاستقطاب بين المصريين، واتهم المخرج محمد دياب جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بفرض عبارة تهاجم جماعة الإخوان، وإلا لن يُسمح بإنتاجه أو عرضه تجاريًّا.
إلى ذلك، كل من لم يَسِر في ركب النظام تمَّ تهميشه وعزله ووصمه بالعار والخيانة، حتى لو كان ممّن لعبوا دورًا مهمًّا في التحضير والمساعدة في الانقلاب على الديمقراطية الوليدة.
الحديث هنا عن المخرج خالد يوسف الذي صوّر احتجاجات 30 يونيو/ حزيران، لكن هذا لم يشفع له معارضته التعديلات الدستورية لصالح السيسي وقضية جزيرتَي تيران وصنافير عندما كان نائبًا للبرلمان المصري، حتى توصّل مع السلطات المصرية إلى صيغة تضمن عودته إلى مصر دون تبعات بعد غياب دام نحو سنتَين خارج البلاد.
ولم يعد أمام يوسف الذي كُرِّم كأحد سينمائيي ثورة يناير وغيره من صنّاع الفن ممّن شاركوا في الثورة من الفنانين والمخرجين، إلا التشكيك في الثورة وتشويهها أو تجاهُل السياسة تمامًا في أفلامهم والتزام الصمت حتى إشعار آخر، أو تقديم مواقف سياسية تتبنّى وجهة نظر السلطة وتحظى بموافقة الرقيب، وإلا يواجهون مصير زملائهم من أمثال عمرو واكد وخالد أبو النجا.
وكأن الثورة لم تحدث
بعد 12 عامًا مرّت على ثورة يناير، التي غيّرت وجه مصر عام 2011، بل وجه العالم العربي، لم يعد من الممكن الحديث عن الثورة باعتبارها “ثورة”، فما زالت تُحجب أصوات أغانيها، وتتلاشى معالمها من طيّات الكتب والجدران التي تزيّنت يومًا ما بشعاراتها وصورها.
حتى الرسومات والجرافيتي التي زيّنت يومًا جدران المباني في الشوارع المؤدية إلى رمز الثورة، ميدان التحرير، واحتفت بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وأرّخت مشاهد من يوميات الثورة، وجسّدت وجوهًا رحلت خلالها، طُمست ولم يبقَ منها أي أثر.
مع عودة حكم العسكر، عادت فنون الشارع التي كانت تعكس روح الثورة إلى المربع الأول، وبدأت المحاولات للحدّ من حق التظاهر وملاحقة فناني الجرافيتي، ومع ذلك وجدت طريقها إلى التوثيق بعدسات المصورين، وجُمعت في كتاب “جدران الحرية”، لكن بعد صدوره واجه منعًا من الرقابة المصرية التي حظرت دخول نسخ جديدة منه عام 2015.
أُعيدت كتابة التاريخ على صفحات الكتب المدرسية وفي الأعمال الفنية بلغة تمجّد السلطات الحاكمة حاليًّا، وتروّج لها، وتكرّس مفاهيمها لأجيال بعضها ربما لم يكن شاهدًا على الثورة حينها.
وعلى ذكر الكتب، لم تتوقف محاولات طمس ثورة يناير عند هذا الحد، فقد أُجريت تعديلات كلّفت ملايين الدولارات لتغيير المناهج الدراسية، لا سيما كتب التاريخ والتربية الوطنية لإزالة كل ما يتعلق بثورة يناير.
“كأن الثورة لم تحدث”، هذا هو العنوان الذي اختارته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في أبريل/ نيسان 2016، حين تناولت ما وصفته بـ”محاولة تطهير السلطات المصرية للمناهج الدراسية من أي إشارة مهما كانت عابرة للثورات وقيمها”.
حال المناهج الدراسية كحال الأعمال الفنية، فهذا الاجتزاء الممنهَج للثورة لم يخلق فجوة كبيرة في التاريخ المعاصر فحسب، بل أُعيدت كتابة التاريخ على صفحات الكتب المدرسية وفي الأعمال الفنية بلغة تمجّد السلطات الحاكمة حاليًّا، وتروّج لها، وتكرّس مفاهيمها لأجيال بعضها ربما لم يكن شاهدًا على الثورة حينها.
ورغم محاولات إخفاء كل ما يتعلق بثورة يناير، ما زالت تُفتح النوافذ على أحداث ذلك العام عبر أغاني الثورة، وذاك أثر فني آخر استمرَّ في التشكُّل خلال الثورة وبعدها رغم نيله نصيبه من الحجب أيضًا، فقد مُنعت أغاني الثورة من الوصول إلى المصريين على المنصات الرسمية ووسائل الأعلام، لكنها ظلت حية على المنصات الرقمية، ويُعاد نشرها حتى اليوم مع كل ذكرى للثورة التي لا تزال ذاكرة المصريين تحفل بأحداثها وصورها وألحانها، وإن استمرت محاولات محوها كأنها لم تكن يومًا.