ترجمة نون بوست
تأتي الذكرى الـ12 اليوم لمشاركة مصر في الربيع العربي، حين أدت 18 يومًا من الانتفاض الشعبي إلى الإطاحة بالديكتاتور حسني مبارك الذي امتد حكمه 30 عامًا.
بعد استقالة مبارك القسرية في 11 فبراير/شباط 2011، عقدت مصر سلسلة من الانتخابات والاستفتاءات الحرة النزيهة، وصوتت لأول مرة لانتخاب رئيس مدني، محمد مرسي.
لكن الدولة المصرية العميقة التي تقودها القوات المسلحة لم تكن راضية مطلقًا عن قيادة مرسي أو أي حاكم مدني للبلاد، لذا تعاون الجيش مع فلول مبارك والليبراليين المعاديين للديمقراطية ووسائل الإعلام والشرطة للقيام بانقلاب عسكري ضد مرسي في يوليو/تموز 2013.
وقد قاد عبد الفتاح السيسي – الذي عمل وزيرًا للدفاع في عهد مرسي – هذا الانقلاب والانتقال الوطني نحو الاستبداد المطلق، انتُخب السيسي كرئيس في انتخابات صورية عام 2014 ومنذ رئاسته قاد انتهاكًا غير مسبوق لحقوق الإنسان وقضى على المعارضة المصرية، ووضع أسسًا قانونية لحكمه الاستبدادي.
في أثناء حملته الانتخابية وفي الأيام الأولى لحكمه، وعد السيسي المصريين بالازدهار الاقتصادي، لكنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا، والآن تواجه مصر أزمة اقتصادية غير مسبوقة، قد تؤدي في النهاية إلى الإطاحة به.
إدارة اقتصادية فاشلة
حصل الانقلاب على تمويل مالي من ديكتاتوريات الخليج الخائفة من تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، ففي 2013 تلقى السيسي منح قدرها عشرات ملايين الدولارات من السعودية والإمارات، وبالإضافة إلى هذه المنح، اقترض النظام المصري قروضًا هائلة من السعودية والإمارات وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والصين وصندوق النقد العربي وبنك التنمية الإفريقي.
أدى ضعف الجنيه إلى زيادة هائلة في أسعار السلع المستوردة، ما ساهم في زيادة التضخم، ففي الشهر الماضي وصلت نسبة التضخم إلى 22%
ومع ذلك، فبدلًا من إنفاق هذه الأموال المتدفقة على التعليم والرعاية الصحية والإسكان المناسب ومشاريع تحقق عائدات، اختار النظام بدلًا من ذلك إنفاق المليارات على مشاريع زائفة تغذي اقتصاد الجيش المصري مثل: الطرق والقطار أحادي الخط “مونوريل” والقصور الرئاسية والفنادق الفاخرة، كما اشترى السيسي العام الماضي طائرة رئاسية ضخمة جديدة بمبلغ 500 مليون دولار.
في 2016، بدأ إنشاء مدينة العاصمة الإدارية بمبلغ قدره 50 مليار دولار، هذه العاصمة الجديدة التي تضم أطول ناطحة سحاب في إفريقيا ومسجدًا ضخمًا، ملأت جيوب الشركات المملوكة للجيش، وهي مصممة خصيصًا لخدمة النخبة المصرية الثرية.
جدير بالذكر أن المجمعات الأمنية والعسكرية في العاصمة الجديدة ومكانها البعيد نسبيًا – 45 كيلومترًا عن القاهرة – تبدو كحماية من أي ثورات مستقبلية محتملة.
فاقمت جائحة كورونا عام 2020 والحرب الروسية الأوكرانية عام 2022 من الظروف الاقتصادية البائسة بالفعل في مصر، ففي هذا الشهر، بعد عام من بداية الغزو الروسي لأوكرانيا ونحو 3 أعوام من بداية الجائحة، تراجعت قيمة الجنيه المصري حيث انخفضت قيمته إلى نحو 29 جنيهًا مصريًا مقابل الدولار، ومن المتوقع أن ينخفض أكثر في الأشهر القادمة.
أدى ضعف الجنيه إلى زيادة هائلة في أسعار السلع المستوردة، ما ساهم في زيادة التضخم، ففي الشهر الماضي وصلت نسبة التضخم إلى 22%، ولم تعد الطبقة المصرية المتوسطة – التي تعاني من خفض كبير للدعم – قادرة على تلبية احتياجاتها.
دولة متسولة
كان لهذه القروض آثار ضارة على الاقتصاد المصري، فقد أوجدت ما اعتبره الخبراء “أزمة ديون” وأدت إلى مزيد من تحكم الجيش في الاقتصاد، قال تقرير لسي إن إن مؤخرًا إن مصر أصبحت “مدمنة على الديون”، بينما قال البروفيسور روبرت سبرينغبورغ إن السيسي حول مصر إلى دولة متسولة.
نتيجة هذه القروض المفرطة، أصبح جزء كبير من إنفاق الحكومة المصرية مخصصًا تمامًا لسداد الديون، لقد أساءت الدولة إدارة هذه الديون بشكل كبير.
قال ستيفان رول – رئيس قسم أبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية – إن القروض استُخدمت بشكل أساسي لحماية أصول القوات المسلحة وتمويل المشاريع الضخمة التي يجني منها الجيش نقودًا كثيرًا، ومواصلة بناء الجيش”، ففي عهد السيسي تضاعف الدين الأجنبي 3 مرات ليصل إلى ما يقرب من 160 مليار دولار.
اعتمدت نجاة السيسي المستمرة على دعم السعودية والإمارات والسيسي يعلم ذلك، حتى إنه في أحداث أخيرة حاول شكرهم كثيرًا لدعمهم المستمر للاقتصاد حتى إنه قال إن مصر لم يكن ليستمر وجودها لولا مساعدتهم.
لكن هذه الأموال الخليجية المجانية ستنضب أو على الأقل ستصبح قليلة، وهي حقيقة أوضحها السيسي في خطاباته العامة، ففي صيف 2022، استغل مؤتمرًا صحفيًا كفرصة لسؤال أشقائه في الخليج عن مساعدات إضافية، وكرر هذا الطلب في عدة أحداث أخرى.
في أواخر 2022، تغيرت لهجة السيسي إلى لهجة يائسة، فقد بدا أنه يعلم بأن مساعدات الخليج لن تأتي أو على الأقل لن تكون أساسية كما كان يأمل، ففي خطابه في نوفمبر/تشرين الثاني قال: “حتى أشقائنا وأصدقائنا في الخليج تشكلت لديهم قناعة راسخة بأن الدولة المصرية لن تستطيع الوقوف على قدميها مرة أخرى، إنهم يعتقدون أيضًا أن الدعم الذي قدموه لمصر خلال عدة سنوات خلق ثقافة الاعتمادية”.
تخبرنا كلمات السيسي أن حلفاءه في الرياض وأبو ظبي سأموا من إرسال الأموال إلى مصر دون أن يروا أي نتائج إيجابية.
حصص الملكية
رغم أن السعودية والإمارات كشفتا عن عدم رغبتهما في إرسال المزيد من الإعانات والقروض، فقد كشفتا عن استعدادهما لشراء أصول مصرية مملوكة للدولة بما في ذلك شركات وبنوك، يرى نقاد السيسي أنه بيع لمؤسسات مصرية مهمة مدرة للدخل.
يجب أن نقرأ مناشدات السيسي اليائسة في سياق الخطابات الأخرى، التي يشعر في بعضها بالقلق الشديد على مصيره، خاصة بشأن احتمالية قيام ثورة شعبية أخرى
في 2022، استثمرت الإمارات في عدد من الشركات المصرية، بينما أسست السعودية شركة الاستثمار السعودي المصري التي تملك الآن ما قيمته مئات ملايين الدولارات من الأسهم في الشركات المصرية.
تفكر الحكومة المصرية أيضًا في بيع قناة السويس للمساعدة في سداد الديون، وهي احتمالية أثارت الخوف والغضب بين المصريين، لكن الحكومة أنكرت خططها لبيع القناة، هناك سببان على الأقل يجعلان الخوف من بيع القناة مبررًا.
أولًا وكما ذكرنا سابقًا، فقد استولت الإمارات والسعودية بالفعل على ملكية أصول مملوكة للدولة، ثانيًا؛ نقل السيسي بالفعل ملكية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية مقابل الدعم الاقتصادي المستمر من السعودية.
يجب أن نقرأ مناشدات السيسي اليائسة في سياق الخطابات الأخرى، التي يشعر في بعضها بالقلق الشديد على مصيره، خاصة بشأن احتمالية قيام ثورة شعبية أخرى.
حاول السيسي والأجهزة الإعلامية الخاضعة لسيطرته مرارًا وتكرارًا منع المصريين من الشكوى بشأن الفقر المستمر، في لقاء بشهر نوفمبر/تشرين الثاني قال السيسي إن مصر في وضعها الحاليّ لا تتحمل النقد، وقال أيضًا إن هذه الانتقادات مزعجة للغاية.
في نفس اللقاء، أكد السيسي أن المصريين يعانون من نقص فهم الحقائق السياسية وأن من لا يفهم يجب أن لا يتحدث، وفي عدة خطابات أخرى طلب من المصريين التوقف عن الهراء، هذه التحذيرات بالتوقف عن النقد ليست جديدة، فلسنوات أعرب السيسي عن ضيقه من التغطية الإعلامية الناقدة ووصف النقاد بأنهم “أهل الشهر”، وفي خطاب أقدم قال “لا تسمعوا لأحد سواي”.
الكشف عن العتاب
استغل السيسي أيضًا الخطابات الأخيرة كفرصة لوصف جهود الحكومة غير العادية لإنقاذ مصر من كارثة، وللتأكيد على أن مشكلات مصر أكبر من القدرة على حلها.
لقد عزز السيسي من سلطته على كل مؤسسات الدولة للحد من احتمالية التظاهر في أي من ميادين المدينة، وخلق أجواءً من الخوف، لذلك فكل دعوات التظاهر السابقة وآخرها في نوفمبر/تشرين الثاني فشلت في تحقيق الزخم
في خطاب بالشهر الماضي قال السيسي: “أقسم بالله، لا يمكن لأحد أن يقوم بأكثر مما قمت به”، وفي خطاب آخر قال: “لا يستطيع أي رئيس في العالم أن يحل هذه المشكلات”، يرى السيسي أن مشكلات مصر شديدة الصعوبة حتى إن الرؤساء السابقين لم يستطيعوا حلها.
ربما الأكثر دلالة، تعليقات السيسي عن المظاهرات الضخمة التي بدأت يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011، فتعليقاته كانت تمثل انتقادًا حادًا وخروجًا واضحًا عن الخطابات السابقة التي احتفت دائمًا بهذه الثورة العظيمة كدليل على شجاعة وعزة المصريين.
تشير تعليقات السيسي إلى قلقه من احتمالية وقوع ثورة أخرى، فكما وثّقت في مقال بشهر نوفمبر/تشرين الثاني، فإن السيسي حذر المصريين من التظاهر قائلًا إن طريق الاحتجاج الوطني يخيفه وإنه قد يتسبب في هلاك أي أمة ويجب أن لا يتكرر في مصر مطلقًا.
هذه التصريحات وغيرها تشير إلى قلق السيسي الشديد، إذا لم يكن يعتقد باحتمالية وقوع مظاهرات، فلم يكن بحاجة إلى التصريح بهذه التحذيرات المتكررة.
في الحقيقة، لقد عزز السيسي من سلطته على كل مؤسسات الدولة للحد من احتمالية التظاهر في أي من ميادين المدينة، وخلق أجواءً من الخوف، لذلك فكل دعوات التظاهر السابقة وآخرها في نوفمبر/تشرين الثاني فشلت في تحقيق الزخم.
ومع ذلك، سيكون من الحماقة أن ننفي احتمالية وقوع أي ثورة أخرى، فعندما يصبح الناس بائسين بما فيه الكفاية، لن يهم حينها حجم وقوة الحضور الأمني في ميادين المدينة، ولن يهم بُعد العاصمة الجديدة، فحتى كلمات السيسي نفسه تشير إلى أنه يدرك ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي