تثبت ثورة يناير عامًا بعد آخر أنها اللوحة الأكثر نقاءً، الجذر الأقوى امتدادًا في عمق الذاكرة، العصية على أتربة التشويه وغبار الطمس، مهما علا صوت خصومها وامتلكوا من أدوات الهدم والتفتيت، لتظل أيقونة العزة والكرامة لشعب ما تحرك إلا لأجل استنهاض عزته المسلوبة وكرامته المهدرة على أقدام أنظمة سلطوية مستبدة.
وعلى مدار العقد الأخير تعرضت ثورة يناير إلى حملات تشويه لم يتعرض لها حدث ما على مر التاريخ، ربما، ولولا أن أبطال تلك المعركة التاريخية وشخوصها على قيد الحياة، يتناقلون سردياتها بأصواتهم وأرواحهم، ويعاينون تفاصيلها الحقيقية على مرأى الحقيقة ومسمعها، لربما كان الوضع مختلفًا، ولربما كانت الثورة نقمة أو وصمة عار في جبين الدولة المصرية كما هو حال عشرات الوقائع والأحداث التي خضعت للتزييف الممنهج فنُقلت على غير حقيقتها حتى صار التاريخ في كثير من فصوله مسألة شخصية تخضع للأهواء، ومن ثم لا يمكن الاستناد إليها في توثيق أي من المحطات والمنعطفات التاريخية.
ومنذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر عام 2014 وهو يضع يناير نصب عين استهدافه، فلا خطاب له أو كلمة على مدار تلك السنوات إلا ويلقي باللوم على الثورة ويحملها فشل نظامه في إدارة المرحلة، بل ويتجاوز ذلك إلى الحديث عن كونها “مؤامرة” تستهدف أركان الدولة، فيما تعرض المشاركون فيها إلى سهام التخوين، في انقلاب واضح على مواقفه السابقة حين كان وزيرًا للدفاع إبان عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي وبعدها في العام الأول من الحكم حين كان يمجد الثورة ويقدرها، لكن يبدو أنه التمجيد الناجم عن كونها السبب الذي أوصله إلى سدة الحكم بعدما كان بعيدًا بمئات الكيلومترات عن دائرة الترشيحات.
تشويه ممنهج للثورة
قبل يومين تحديدًا وفي 23 يناير/كانون الثاني الحاليّ اتهم الرئيس السيسي ثورة يناير بأنها كانت تهدف إلى هدم الجيش والشرطة، ففي كلمته خلال الاحتفال بعيد الشرطة الذي يوافق ذكرى الثورة قال: “محاولات هدم الشرطة والجيش مستمرة منذ سنوات، كانت هناك محاولة منذ 10 سنين أو أكثر. إن الهدم يحصل والجناح ده (الجيش والشرطة) ما يبقاش موجود علشان البلد تتاخد”، وتابع “نكسر الشرطة ليه، علشان ناخد البلد، نكسر الجيش ليه علشان ناخد البلد، أو نضيعها”.
ويتناغم هذا التشويه للثورة مع مواقف الرئيس خلال السنوات الماضية، ففي 28 ديسمبر/كانون الأول 2021، قال السيسي: “لن ينسى 2011، والمفروض يا مصريين متنسوهاش (لا تنسوها) أبدًا في كل إجراء بتعملوه وكل خطوة بتتحركوها”، متسائلًا: “عرفتم ليه بلدكم كانت هتتخرب وتضيع في 2011؟”، وتابع “اللي أنقذكم ربنا وحده اللي أنقذ البلد من مصاير الخراب والدمار لأجل خاطر الـ100 مليون والبسطاء والغلابة ولحكمة إلهية”، وتساءل: “يبقى إحنا نكرر نفس المسار تاني؟ لا والله”.
الهجوم تكرر مرة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول 2021 في الاحتفالية التي أقيمت بمناسبة الذكرى الـ46 لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، حين قال: “لو مكنش 2011 (في إشارة إلى ثورة 25 يناير) كان هيبقى فيه اتفاق قوي وسهل يراعي مصلحة الطرفين.. لكن لما البلد كشفت ضهرها – وأنا آسف – وعرَّت كتفها، فأي حاجة تتعمل بقى (أي أنها أصبحت فريسة سهلة لكل من يريد أن يتلاعب بها)”.
وفي 14 من سبتمبر/أيلول 2021، وخلال كلمته في أحد مؤتمرات الشباب السنوية، قال: “لم نكن مستعدين عام 2011 لمواجهة التطورات الكبرى التي وقعت.. البلد تحركت صحيح، لكن السد كان قد أقيم بالفعل، وأؤكد هنا أن الشباب الطاهر الذي قاد الحراك أراد مصلحة البلاد”، وتابع غاضبًا من اتهامات المقاول الفنان محمد علي له بالفساد “البلاد تدفع – وستظل تدفع – ثمن ذلك الخطأ الوحيد (ثورة يناير 2011)”.
كما وصف السيسي الثورة بأنها مؤامرة ضد وزارة الداخلية والدفاع، قائلًا: “المؤامرة التي حدثت في 2011 كانت على وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، لأن من يريد ضرب مصر لا بد أن يبدأ بهما” وذلك في سبتمبر/أيلول 2019، وكان قد هاجمها في أكتوبر/تشرين الأول 2018 حين قال: “ما حدث في 2011 هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ، فالبعض قدم للناس صورة عن أن التغيير من الممكن أن يحدث بهذه الطريقة، وأن هناك عصا سحرية سوف تحل المشكلات”.
وتحذيرًا من تكرار ما حدث حذر السيسي في يناير/كانون الأول 2018، من أن “ما حدث منذ سبع أو ثماني سنوات (في إشارة إلى ثورة يناير/كانون الثاني) لن يتكرر ثانية في مصر”، مهددًا “من الواضح أنكم لا تعرفونني جيدًا”، ملوحًا بتدخل الجيش إن لزم الأمر قائلًا: “أمن واستقرار مصر ثمنه حياتي وحياة الجيش”.
تشويه الثورة لم يقف عند حاجز تصريحات السيسي فقط، بل شاركه في هذه المهمة القوى الناعمة للدولة المصرية التي تهيمن عليها شركات تابعة لجهاز المخابرات العامة، حين شنت الأذرع الإعلامية للنظام حملة شعواء استهدفت الثورة ورموزها واتهمتهم بالخيانة والتآمر على الوطن، بل وصفتهم في العديد من البرامج الحوارية بأنهم يعملون لصالح قوى أجنبية، فيما سربت المخابرات تسريبات لبعض رموز الثورة لبثها إعلاميًا بهدف تشويه صورتهم لدى الشارع.
ودخل الفن على خط المزايدة والانضمام لحملة التشويه الممنهج ليناير، فعزف صناع السينما والدراما على إنتاج أعمال تسفه من الثورة وتهاجم شبابها، وفي المقابل تمجد الشرطة والجيش وتقدمهما في صورة ناصعة البياض، كما حدث في العديد من الأعمال الفنية مثل فيلم “عيار ناري” و”الجزيرة 2″.
وجوه ثورية غيّبها #السيسي.. في الذكرى الـ 12 لثورة #25_يناير، تعرّف إلى أبرز الوجوه الثورية التي ما زالت في معتقلات السيسي.#ثورة_يناير pic.twitter.com/0si6lzwhbf
— نون بوست (@NoonPost) January 25, 2023
ليست لحظة عابرة
يتعامل السيسي ونظامه مع ثورة يناير كأنها حدث شيطاني عابر، لحظة إلهام مؤقتة تسللت إلى عروق المصريين فدفعتهم دفعًا إلى الميادين والشوارع وقاموا بالثورة دون إرادة مسبقة أو سياق زمني وحدثي محكم، ومن ثم يعتقد أنه بالهجوم المستمر والتشويه المتواصل سيقتلعها من جذورها القصيرة.
لكن المتابع للشأن المصري بشكل دقيق يعلم أن ما حدث في يناير إنما كان نتيجة لمقدمات خاضها المصريون في مسار النضال والثورة على الأوضاع التي وصلت إليها البلاد والشعب معًا، فهي تمثل التتويج الميداني لمقدمات طويلة بدأت عام 2004 بتأسيس حركة “كفاية” التي كانت الإرهاص الفكري الشعبي الأول للمعارضة الحقيقية لمخطط التوريث والتصدي لنظام مبارك بشكل مباشر.
ثم جاءت التعديلات الدستورية التي أجراها مبارك عام 2005 ومن بعدها الانتخابات الرئاسية لتزيد الشارع اشتعالًا، فلأول مرة تخرج الأصوات صداحة بالرفض لتلك السياسات والتزوير الفج الذي شاب صناديق الاقتراع، رغم أنه ليس المرة الأولى التي تزور فيها الانتخابات المصرية، لكن ما حدث كان محطة استثنائية في انتفاضة المصريين.
عززت المعارضة المصرية من حضورها مع إضراب عمال المحلة في 6 أبريل/نيسان 2008، هذا الإضراب الذي كان الرحم الذي ولدت منه حركة “6 أبريل” المعارضة، وبعد ذلك بعامين انفجر بركان الاحتجاجات الطائفية وتقسيم المجتمع المصري وتعرض المزاج العام المصري لمقومات تعكير مستمرة، ما كان له دور في التحرك الأول على المسار السياسي من النخبة والأكاديميين، وكانت النتيجة تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير في فبراير/شباط 2010 بقيادة عدد من الرموز السياسية من بينها مدير وكالة الطاقة الذرية الأسبق، محمد البرادعي.
مهما شكّك المشكّكون، وهرطق المهرّجون؛ ستبقى ثورة يناير مصدر إلهام لكل شعوبنا.
من اعتقدوا أن الشعب قد اشترى “الفنكوش”، يستيقظون الآن على الحقيقة.
الرضوخ لسطوة القوة في ظل العجز شيء، والقناعة بهرطقاته شيء آخر.#ثورة_يناير pic.twitter.com/bQcjLG0f9a
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) January 25, 2023
وخلال تلك الفترة ازدحم الشارع المصري بالأحداث المتسارعة التي أججت الاحتقان الشعبي، وصولًا إلى الانتخابات البرلمانية 2010، التي كانت نقطة الاشتعال الأكثر توهجًا وقادت إلى ثورة يناير، التي تعامل معها مبارك بسخرية فجة حين استهزأ بالبرلمان الموازي الذي دشنه معارضون اعتراضًا على تزوير الانتخابات البرلمانية وقال قولته الشهيرة: “خليهم يتسلوا”.
وفي الأشهر القليلة من نهاية 2010 كانت أقسام الشرطة المصرية تشهد انتهاكات بالجملة إزاء المساجين والمعتقلين، تعذيب ممنهج واستهزاء قميء، ما أثار حفيظة المصريين ودفعهم للثأر لكرامتهم، فكانت الدعوات لثورة يناير التي خرجت في الأساس اعتراضًا على تلك الانتهاكات وتغولات السلطة السياسية، وكان أقصى طموحاتها إقالة وزير الداخلية، غير أن تطور الأحداث فيما بعد وتعاطي مبارك ونظامه مع التظاهرات غير قائمة المطالب من الإطاحة بحبيب العادلي إلى الشعار الأبرز: الشعب يريد إسقاط النظام، وكان للشعب ما أراد.
وبعد عشر سنوات من العزف المتواصل على أنغام التشويه للثورة، تلك الألحان التي شارك فيها الرئيس والحكومة وجوقة من الإعلاميين والرياضيين والفنانين، خرج في النهاية لحنًا ناشذ غير مكتمل، لا يطرب سوى عازفيه فقط، أما الشارع فيؤكد كل يوم أن الثورة هي الثوب الذي لا يمكن تلويثه مهما كانت شدة رياح الطمس، وأنه كلما شد الرئيس الوثاق على الثورة تحقيرًا وتهميشًا زاد تمسك الشعب بها في معادلة طردية مجهضة لجهود عقد كامل من الممارسات والخطط، الداخلية والخارجية.