توالت في الآونة الأخيرة عمليات تسريب الأملاك المسيحية في فلسطين بشكلٍ لافت وواضح، وسط اتهامات لرعاة الكنيسة الأرثوذكسية بالمساهمة في عمليات التسريب مقابل مبالغ مالية يحصلون عليها من الاحتلال الإسرائيلي.
ولا تقتصر عملية التسريب على بيع أراضٍ فقط، بل تمتدّ إلى تسريب ملكية عقارات يعمل الاحتلال الإسرائيلي على هدمها وإعادة بنائها على شكل مشاريع خاصة بالمستوطنين بطابع يهودي، تشمل إقامة كنيس ضمن مساعي الاحتلال الرامية للسيطرة على الضفة المحتلة والقدس بشكل كامل.
ويُتَّهم بطريرك الكنيسة، اليوناني ثيوفيلوس الثالث، بالتورُّط في تسريب مئات الدونمات من الأراضي التي تعود ملكيتها للكنيسة والمسيحيين الفلسطينيين، لصالح شركات إسرائيلية وجمعيات استيطانية يهودية بطرق مباشرة وغير مباشرة.
ولم تقتصر عمليًّا عمليات البيع على عهد ثيوفيلوس الثالث، بل تعود إلى عهد البطريرك اليوناني السابق إيرينيوس راعي الكنيسة الأرثوذكسية، والذي توفي عام 2004، وكانت أبرز صفقاته بيع “باب الخليل” القديم للإسرائيليين، إضافة إلى عقد صفقات أخرى، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعدّاه لسرقة ختم إيرينيوس عندما كان على فراش الموت، لتوقيع المزيد من الصفقات.
واستمرت صفقات البيع في عهد البطريرك اليوناني الجديد، ثيوفيلوس الثالث، منذ وصوله الى سدّة البطريركية اليونانية، في أغسطس/ آب 2005، حيث جرى تعيينه وتنصيبه باختيار البطاركة اليونان في الأردن، وبمباركة من الملك الأردني عبد الله والرئيس الفلسطيني محمود عباس، بحسب الأصول القانونية المتفق عليها، واستمر هو الآخر بصفقات البيع والإيجار لصالح جهات إسرائيلية، في وقت تؤكد فيه جهات كنسية بأنه لا يوجد في عرف الكنيسة ما يتيح للبطاركة معاقبة أو مساءلة البطريرك المعيَّن.
وجرى نزاع كبير في الآونة الأخيرة بين البطاركة اليونان ونظرائهم الفلسطينيين، حيث جرى قطع رواتب ومخصصات عدد من هؤلاء البطاركة وعلى رأسهم الأبوَين مانويل مسلم وعطا الله حنا، بينما يخلو المجلس الكنسي التابع للبطريرك ثيوفيلوس من أي بطريرك فلسطيني.
ولا يوجد عدد محدد للصفقات التي أُبرمت بين الكنيسة والاحتلال الإسرائيلي، إلا أن تقديرات تشير إلى أن الكنيسة خسرت بموجبها ما يزيد عن 400 ألف دونم، ومواقع أثرية كاملة أشهرها المدرّج الروماني في سبسطية الروم وباب الخليل، مقابل ثمن بخس لم يَزد عن 100 مليون دولار.
من هو ثيوفيلوس الثالث؟
بطريرك القدس ثيوفيلوس الثالث، واسمه عند الولادة إلياس يانوبولوس (وُلد في 4 أبريل/ نيسان 1952)، هو البطريرك الحالي لكنيسة الروم الأرثوذكس في القدس، يلقَّب بـ”بطريرك القدس المقدسة وكل فلسطين و”إسرائيل””.
اُنتخب ثيوفيلوس بالإجماع في 22 أغسطس/ آب 2005 بواسطة مجمع القدس المقدس باعتباره الرئيس رقم 141 لكنيسة القدس الأرثوذكسية، وذلك خلفًا للبطريرك إيرينوسوس، وقد أُكّد انتخابه من قبل المجمع الكنسي الأرثوذكسي الشرقي للقسطنطينية، وأيّده الأردن في 24 سبتمبر/ أيلول 2005 كواحدة من الحكومات الثلاث التي يلزم إقرارها، وقد نُصّب في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 رغم الاعتراض الإسرائيلي.
كان ثيوفيلوس قد قدّم التماسًا للحكومة الإسرائيلية للاعتراف بالانتخابات، واعترفت الحكومة الإسرائيلية رسميًّا بانتخابه في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2007.
ارتبط اسم ثيوفيلوس الثالث بعدد من صفقات بيع أوقاف تابعة لكنيسة الروم الأرثوذكس أو تأجيرها للاحتلال الإسرائيلي، وقد اتُّهم ببيعها بصفته المسؤول عن هذه الأوقاف بموجب أحكام القانون الأردني، وتحديدًا القانون رقم 27 لعام 1958.
كذلك، وُجِّهت إليه اتهامات بالمشاركة في صفقة باب الخليل، والتي تشمل بيع فندقَي البتراء والإمبيريال الواقعَين في ساحة عمر بن الخطاب في باب الخليل بالقدس، وما يتبع لهذين الفندقَين من محال تجارية في المباني نفسها، بالإضافة إلى عقارات أخرى داخل البلدة القديمة تتبع أوقاف البطريركية.
في يوليو/ تموز 2017، كشفت صحيفة اقتصادية إسرائيلية عن صفقة سرّية بيعت بموجبها أراضٍ وقفية في أحياء غربي القدس تتبع للكنيسة الأرثوذكسية لبلدية الاحتلال الإسرائيلي بالمدينة، والتي بدورها ستخصّصها لمستثمرين يهود، وتشمل الصفقة بيع 500 دونم من أصل 560 دونمًا من أراضي البطريركية الأرثوذكسية بالقدس، تقع في حي الطالبية والمصلبة وما يعرَف اليوم بشارع الملك داوود ومحيط حديقة الجرس وغيرها من الأحياء.
يُذكر أيضًا أنَّ بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس قد تورّطت سابقًا بصفقات تسريب أراضٍ وعقارات على طرفَي الخط الأخضر، ما أغضب أبناء الرعية الفلسطينيين وأدّى إلى الإطاحة بالبطريرك السابق إيرينوسوس.
ثيوفيلوس.. دور متصاعد في تسريب الأراضي
في هذا السياق، يقول العضو في المجلس المركزي الأرثوذكسي في فلسطين والأردن، أليف صباغ، إن المجلس المركزي الأرثوذكسي هو الهيئة التي تمثّل الحراك الوطني الأرثوذكسي في فلسطين والأردن، وهو الهيئة الشعبية التي تتابع شؤون الأوقاف الأرثوذكسية منذ عقدَين وأكثر.
وبحسب حديث صباغ لـ”نون بوست”، فإن المجلس يكشف بالوثائق عن الصفقات التي أبرمتها البطريركية اليونانية مع المستوطنين اليهود أو مع الحركة الصهيونية منذ بداية الحكم البريطاني الانتدابي على فلسطين حتى اليوم.
ويشير إلى أنه ليس فقط في عصر ثيوفيلوس، لكن ثيوفيلوس كان المسرّب الأكبر للأوقاف والذي باعها بيعًا مطلقًا منذ اُحتلت فلسطين عام 48 ولغاية اليوم، إلى جانب كشف المجلس أيضًا عن علاقة ثيوفيلوس بالمخابرات الأمريكية وفقًا لبرتوكولات صهيونية أمنية.
السلطتَين الفلسطينية والأردنية لم تفعلا أي شيء ضده لوقف هذا النزيف، بسبب ضغوط أمريكية عليهما
ويردف: “كشف المجلس المركزي الأرثوذكسي عن بروتوكولات اجتماعات بين ثيوفيلوس الثالث وجهات سياسية إسرائيلية منذ عام 2006، يطالبهم فيها الاعتراف به حتى يستطيع أن يوقّع على صفقات عقارية معهم. وهذا ما حدث”.
ووفقًا لصباغ، فإن من أهم الصفقات صفقة بار الخليل وصفقة “رخافيا” والطلابية وصفية إلى المطار بالقرب من دير حتى الياس، وهي تجعل الصهاينة يفضّلون جغرافيًّا بين القدس وبيت لحم، حيث تعد هذه من أبرز الصفقات التي تورّط فيها.
ويشدد على أن السلطتَين الفلسطينية والأردنية رغم كل هذه المشاريع والصفقات، لم تفعلا أي شيء ضده لوقف هذا النزيف، بسبب ضغوط أمريكية عليهما وبسبب صفقات يجريها مع شخصيات متنفّذة في السلطتَين لإسكاتهما، على حدّ قول صباغ.
ويتابع: “الرفض الشعبي موجود لكن الرشاوى لخلق تأييد شعبي موجودة أيضًا بكثافة، إذ قدّم البطريرك رشاوى لبعض المنتفعين المنافقين، ورشاوى تقدمها السلطة الفلسطينية لإخراج فرق الكشافة الأرثوذكسية لاستقباله عشية عيد الميلاد”.
أملاك فلسطينية مهددة بالتسريب.. عمل منظَّم لصالح الاحتلال
يقول الباحث والمختص في شؤون القدس المحتلة، جمال عمرو، إنه لا يمكن للاحتلال أن يتجرّأ على الممتلكات المسيحية في فلسطين بسهولة دون موافقة واضحة من الكنيسة والبطريرك، ما يعكس التورط الواضح له.
ويضيف عمرو لـ”نون بوست” أنه لا يمكن التجرُّؤ على هذه الأملاك دون تورُّط حقيقي ومباشر، وقد وقعت في أيدي الفلسطينيين العديد من الوثائق التي تحمل ختم البطريرك وتوقيعه وتوقيع المحامين، ما يشير إلى حجم التسريب ووجود مسرّبين.
ويردف: “يعرف البطريرك المسرّبين، وهو متورّط في ذلك، وهذا أمر تقوله شريحة من المسيحيين في الأردن وفلسطين، ما دفعهم إلى تشكيل مجموعة “الحقيقة المسيحية” وباشروا العمل على فضح عمليات التسريب”.
وبحسب عمرو، فإن هذه المجموعة بعثت برسائل للمؤسسة الرسمية في الأردن وفلسطين بسحب هذا الاعتماد اليوناني، من أجل منعه من التصرف في أملاك فلسطين عبر بيعها مقابل مبالغ مالية زهيدة، لا سيما مع وجود شهود على عمليات التسريب.
ومن بين عمليات التسريب التي جرت هي قيام رجل الأعمال اليهودي الأمريكي، غاري بورنيت، بشراء ما لا يقلّ عن 520 دونمًا من أراضي الكنيسة البطريركية الأرثوذكسية اليونانية في أحياء الطالبية ورحافيا بالقدس المحتلة، مقابل 750 مليون شيكل (الدولار = 3.40 شيكلات إسرائيلية).
وتضمّ الأرض المباعة حوالي 1000 وحدة سكنية مبنية في أحياء رحافيا والطالبية، بينها مبانٍ عامة مثل جزء من الكنيس الكبير ومتحف “إسرائيل”، وفنادق شهيرة مثل إنبال وبريما ودان بانوراما، ومساحات مفتوحة إضافية، وأكثر من 12 قطعة أرض مخصصة للتطوير الإنشائي.
وجرى تأجير هذه الأراضي إلى “الصندوق القومي اليهودي” المعروف بـ”الكيرن كييمت” في الخمسينيات من القرن الماضي لمدة 99 عامًا حتى عام 2052، مع خيار التمديد بموجب شروط عقد إيجار متجدّد على أساس القيمة السوقية، ثم قام الصندوق القومي اليهودي بتأجيرها للمستوطنين اليهود.
وفقًا لسجلات الكنيسة فإنها تمتلك نحو 18% من مساحة غربي القدس و17% من مساحة القسم الشرقي من المدينة، أي 35% من المساحة العامة للقدس بشطرَيها.
وفي عام 2011، أبرمت مجموعة Niyot Kommiam أول صفقة مع الكنيسة اليونانية، واشترت منها حق التأجير لمدة 110 سنوات.
ووفقًا لملحق صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، فإنه ومنذ عام 2000 بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وبعد المخاوف الإسرائيلية من قيام فلسطينيين بشراء الأراضي في حي الطالبية، حاول الصندوق القومي اليهودي شراءها من الكنيسة في صفقة تبيّنَ لاحقًا أنها اعتمدت على توكيلات مزيّفة.
وتمتلك الكنيسة الأرثوذكسية ربع القدس كما تمتلك أراضي شاسعة وأديرة ومقابر خارج البلدة القديمة في القدس، فضلًا عن عقارات في مدن فلسطينية كبرى، لكن قسمًا لا بأس به من هذه الأملاك سُرّبت إلى جهات إسرائيلية عن طريق البيع أو الإيجار طويل الأمد يصل إلى 99 سنة.
أما كيف أصبحت هذه الأملاك للكنيسة، فيقول بعض المؤرخين إنها كانت ممتلكات أوقفها العرب المسيحيون في فلسطين حتى يستفاد منها لمصلحة الكنيسة خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية، خوفًا من مصادرة هذه الأراضي واعتبارها أراضي دولة.
ووفقًا لسجلات الكنيسة، فإنها تمتلك نحو 18% من مساحة غربي القدس و17% من مساحة القسم الشرقي من المدينة، أي 35% من المساحة العامة للقدس بشطرَيها.