تسبّب الغزو الروسي لأوكرانيا، وما تبعه من مساعدات عسكرية غربية للأخيرة، إلى جانب التوترات في تايوان وشبه الجزيرة الكورية، في زيادة غير مسبوقة لحجم الإنفاق العسكري لعدد من حلفاء الولايات المتحدة، مثل اليابان وبريطانيا وألمانيا.
لطالما عُرفت اليابان بتأسيس نفوذها الدولي على التنافسية الاقتصادية والصناعية، بعيدًا عن التسلُّح والقوة العسكرية، لكن التطورات والمتغيرات الجديدة دفعت طوكيو إلى التخلي عن سياساتها السلمية التي انتهجتها لعقود، والتي حددت للإنفاق العسكري سقفًا لا يتجاوز 1% من الناتج المحلي الإجمالي، قبل أن تقوم مؤخرًا برفع قيمة الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، حيث تمَّ رصد 64.8 مليار دولار لميزانية الدفاع لعام 2027، أي أنها زيادة تُقارب ضعفَي المبلغ الحالي (39 مليار دولار) كأكبر خطة لتعزيز القدرات العسكرية لليابان منذ الحرب العالمية الثانية.
في موازنة السنة المالية المقبلة التي تمتدّ من 1 أبريل/ نيسان 2023 إلى 31 مارس/ آذار 2024، خصّصت الحكومة اليابانية 51 مليار دولار لوزارة الدفاع من الحجم الكلي لموازنة الدولة التي بلغت 863 مليار دولار متأثّرة بزيادة الإنفاق العسكري، إذ أصبحت ميزانية الدفاع اليابانية ثالث أكبر ميزانية في العالم بعد الولايات المتحدة والصين.
ما قصة العام 2027؟
أشار الأستاذ في جامعة تاكوشوكو في طوكيو، تاكاشي كاواكامي، إلى أن المحطة الزمنية الفارقة في خطط التسلح اليابانية هي عام 2027، باعتباره اللحظة التي قد يميل فيها ميزان القوة في شرق آسيا لصالح الصين، فبالإضافة إلى كونه الموعد القادم الذي يجتمع فيه مندوبو الحزب الشيوعي في بكين، فإن عام 2027 هو المَعلم الرئيسي التالي على خريطة طريق التحديث العسكري الصيني والذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي.
وفي سياق متصل، أشارت “رويترز” إلى جلسة استماع للكونغرس العام الماضي، عندما قال قائد منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، الأمريكي الأدميرال فيليب ديفيدسون، إن تهديد الصين لتايوان قد “يظهر” في ذلك العام (2027).
ونقلت “رويترز” أيضًا أقوال مسؤول حكومي ياباني رفيع المستوى مشارك في خطط تعزيز الدفاع: “هناك أطياف مختلفة في الرأي، لكن بشكل عام يشترك المسؤولون الحكوميون في وجهة النظر ذاتها بشأن أهمية عام 2027”.
آبي شينزو.. عرّاب السياسة الدفاعية الجديدة
يعدّ رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي (2012–2020)، الذي اُغتيل في يوليو/ تموز الماضي، عرّاب السياسة الدفاعية الجديدة لطوكيو، ففي عهده زادت البلاد إنفاقها الدفاعي بنحو 10%، كما سعى آبي أيضًا إلى تعديل المادة التاسعة من الدستور التي تنبذ “التهديد باستخدام القوة أو استخدامها” من جانب اليابان، لكن جهوده في تلك الخطة أُحبطت بسبب الدعم الشعبي القوي للمادة التاسعة آنذاك.
بدلًا عن ذلك، أشرف آبي بواسطة تشريع الأمن القومي لعام 2015 على “إعادة تأويل” رسمية للدستور من شأنها أن تسمح بتعاون ياباني أمني كبير مع الولايات المتحدة وحلفائها الآخرين، وعمل على تقوية التحالف الأميركي-الياباني، واُستقبلت قيادته بترحيب وحفاوة في واشنطن، التي لطالما حثّت اليابان على الاضطلاع بدور أكبر في الدفاع عن نفسها.
غزو روسيا لأوكرانيا تسبّب في اشتداد المخاوف من أن تقوم الصين بضربة عسكرية ضد تايوان، التي تعدّ فعليًّا امتدادًا لأرخبيل اليابان
كما نسّق شينزو آبي عددًا من التغيُّرات الأخرى المهمة في السياسات اليابانية، حيث زاد الإنفاق العسكري وصنع “دولة أمنية قومية” افتقرت اليابان إليها قبله، وكذلك مرّرت حكومة آبي قانونًا لتشديد عقوبة إفشاء أسرار الدولة، وأنشأ بالتوازي مجلس أمن قومي له أمانة عامة، وهو المجلس الذي نقل مبادرات صنع السياسات الخارجية والعسكرية الكبرى إلى مكتب رئيس الوزراء.
بعد استقالة آبي لم يواجه رئيس الوزراء الحالي، فوميو كيشيدا، القدر ذاته من المقاومة، بل على العكس من ذلك أظهرت استطلاعات الرأي مؤخرًا أن غالبية اليابانيين يدعمون تعزيز القوة العسكرية، وحدث تحوُّل مماثل لكيشيدا ذاته، الذي كان يعدّ من بين الحمائم عندما كان وزيرًا للخارجية، وربما لعبت الحرب الروسية على أوكرانيا والتوترات مع الصين دورًا كبيرًا في هذه التحولات.
غزو روسيا لأوكرانيا تسبّب في اشتداد المخاوف من أن تقوم الصين بضربة عسكرية ضد تايوان، التي تعدّ فعليًّا امتدادًا لأرخبيل اليابان، وفي أغسطس/ آب الماضي سقطت 5 من 9 صواريخ أطلقتها الصين أثناء التدريبات العسكرية في المياه حول تايوان في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، ومن المفهوم أن تنظر اليابان إلى أمن تايوان باعتباره جزءًا حيويًّا من أمنها.
توجُّه آسيوي لزيادة التسلُّح
وفقًا لصحيفة “لوبس” الفرنسية، فإن حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا يعتقدون أن المواجهة بين بكين وواشنطن أصبحت حتمية، وأن عليهم الاستعداد لها، ما حَدَا باليابان إلى مضاعفة إنفاقها العسكري، وجعل كوريا الجنوبية تخطّط للحصول على القنبلة الذرية إما باستيرادها وإما بتصنيعها، وفرضَ على تايوان تمديد فترة الخدمة العسكرية.
وأضافت الصحيفة أن العمليات الجوية الروسية الصينية المتعددة التي نُفّذت عام 2022 فوق بحر اليابان والموقف العسكري الصيني لم يؤدّيا فقط إلى الإضرار بصورة بكين، بل أدّيا أيضًا إلى مراجعات استراتيجية في العواصم المجاورة.
وإذا كان القلق مشروعًا بشأن إعادة تسليح أوروبا في ضوء الحرب في أوكرانيا، فإن آسيا أيضًا تشهد سباق تسلُّح غير مسبوق، فاليابان، بدافع التهديد المتزايد الذي تمثله الصين وكوريا الشمالية، مضاعفة إنفاقها العسكري على مدى السنوات المقبلة.
ووفقًا للصحيفة الفرنسية، فإن كوريا الجنوبية التي بدأت تخطط للحصول على القنبلة الذرّية، يتعيّن عليها الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي صادقت عليها عام 1975، محتجّة بإعلان بيونغيانغ عن استخدام محتمَل للأسلحة النووية ضدها، فضلًا عن النمو السريع للغاية للترسانة الذرّية الصينية.
وفيما يتعلق بتايوان التي توصف بـ”برميل البارود” الذي يمكن أن يشتعل في أي لحظة، فقد أعلنت في أغسطس/ آب الماضي أنها تعتزم زيادة ميزانيتها العسكرية التي ستصلُ إلى مستوى غير مسبوق في أجواء تصاعد الخلافات مع الصين، التي نفّذت هذا الشهر مناورات عسكرية غير مسبوقة قبالة سواحل الجزيرة.
واقترحت تايبيه ميزانية عسكرية جديدة بقيمة 415.1 مليار دولار تايواني (13.7 مليار يورو) للعام المقبل بزيادة قدرها 13% بالمقارنة مع ميزانية العام الماضي، وكان من اللافت أيضًا أن تايوان رفعت مؤخرًا مدة الخدمة العسكرية الإجبارية من 4 أشهر إلى سنة، لأن “الخدمة العسكرية الحالية لا تكفي للتعامل مع الوضع المتغيّر باستمرار وسرعة”، كما قالت الرئيسة التايوانية، تساي إنغ ون، في تلميح للتهديدات المتزايدة التي تشكّلها الصين على هذه المنطقة.
وفي هذا السياق، تعمل دول آسيوية أخرى على زيادة إنفاقها العسكري في ضوء التهديد الصيني، إذ أبرمت إندونيسيا صفقة مع شركة داسو للطيران الفرنسية للحصول على مقاتلات رافال، كما تُجري الحكومة الإندونيسية محادثات مع مجموعة Safran الفرنسية بشأن الشراء المحتمَل لقنابل ذكية موجّهة عالية السرعة “AASM”، وقالت المديرية العامة لإمكانات الدفاع التابعة لوزارة الدفاع الإندونيسية، في بيان يوم الأحد، إنها ناقشت عرض المجموعة الفرنسية لسلاح جو-أرض للتكامل مع رافال في 19 يناير/ كانون الثاني الحالي.
ضعف موقف دعاة السلام
وفقًا لمجلة “ذا ديبلومات” الأمريكية، فإنه وفي ضوء انتخابات مجلس المستشارين الياباني (مجلس الشيوخ) التي نظِّمت في يوليو/ تموز الماضي وفوز الائتلاف الحاكم بها، من المرجّح أن يضمن رئيس الوزراء الحالي، كيشيدا فوميو، تحقيق آخر أمنيات شينزو آبي من خلال زيادة ميزانية الدفاع اليابانية من 1% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي على مدار 5 سنوات.
وترى المجلة الأمريكية المتخصصة في الشأن الآسيوي، أن عدم وجود معارضة على الساحة السياسية اليابانية لمثل هذا التغيُّر الجذري، يُشير بوضوح إلى ضعف موقف الدعوة إلى السلمية والسلام في اليابان حاليًّا.
وفيما يتعلق ببنود الاستراتيجية الدفاعية الجديدة لليابان، فإنه ووفقًا لـ”وثيقة رسمية“، تقوم الاستراتيجية على مجموعة من المسارات والتحولات الرئيسية، أهمها ما يلي:
الصين تحدٍّ استراتيجي: رغم العداء التاريخي بين اليابان والصين، تجنّبت طوكيو طوال العقود الماضية تصنيف بكين كخطر أو تحدٍّ، لكن وثيقة الأمن القومي الجديدة تصف الصين لأول مرة “بالتحدي الاستراتيجي غير المسبوق”، ما يعني أن اليابان أصبحت تتفق مع توجهات حلفاء اليابان الغربيين في هذا الجانب.
وجود اليابان في منطقة خطيرة أمنيًّا: تعدّ المنطقة التي تحيط باليابان أكثر الهواجس التي دفعتها إلى تغيير مفهومها للأمن القومي، وتتمثل أهم مظاهر هذه الخطورة في رد الفعل الصيني على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلوسي، لتايوان، وسقوط 5 صواريخ صينية بالقرب من المياه الإقليمية اليابانية في أغسطس/ آب الماضي، فضلًا عن الخلاف الصيني-الياباني على جزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان وتطالب بها الصين، إلى جانب التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية.
الارتباط بأمن تايوان: ربطت الوثيقة الجديدة الأمن القومي لليابان بنظيره في تايوان، وعبّرت بلغة واضحة عن دعم استقرار تايوان، وأبدت قلقًا كبيرًا بشأن تحوّل الميزان العسكري لصالح الصين، كما أكّدت الوثيقة أن المساس بأمن تايوان، التي لا تبعد أكثر من 100 ميل بحري عن أقرب جزيرة يابانية، سوف يؤثّر سلبًا على الأمن القومي الياباني.
شراء أسلحة جديدة: تتضمن السياسة الدفاعية الجديدة لليابان خطوات لشراء صواريخ بعيدة المدى يمكنها استهداف المواقع العسكرية للعدو، وذلك بالسعي لشراء 500 صاروخ كروز أمريكي الصنع من طراز “توماهوك”، بهدف إجبار الدول المهاجمة على التفكير قبل توجيه الاعتداء على دولة ذات سيادة.
تعزيز الشراكات العسكرية: تأتي الصناعات العسكرية في مقدمة هذه الشراكات، ليس فقط مع الولايات المتحدة بل من خلال التوسع مع شركاء جدد مثل بريطانيا وإيطاليا، حيث أعلن قادة اليابان وبريطانيا وإيطاليا، يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول 2022، العمل معًا لتطوير طائرة مقاتلة من الجيل الجديد لتدخل الخدمة بحلول عام 2035.
توجيه الضربات المضادة: تنصّ الوثيقة على حق اليابان في توجيه ضربة ضد الأهداف العسكرية للدول التي تستهدف اليابان، وهذا أمر جديد على طوكيو منذ أن تخلّت عن خوض الحروب، وكانت تترك للولايات المتحدة القيام بهذه المهمة، والتي نجحت فيها عبر تمركُز نحو 37 ألف جندي أمريكي بشكل دائم في 86 قاعدة وتجمّعًا عسكريًّا على الأراضي اليابانية منذ هزيمة الجيش الإمبراطوري الياباني في معركة أوكيناوا عام 1945.
غير أن الوثيقة أكّدت الالتزام بالدستور الياباني الذي يرفض شنّ أي “ضربة استباقية” على “دولة معادية”، ولهذا وضعت الاستراتيجية الجديدة 3 شروط قاسية للضربة المضادة، وهي أن يكون هناك تهديد حتمي لليابان أو لدولة صديقة يؤدّي بدروه إلى تهديد حتمي للأمن القومي الياباني، وعدم وجود وسيلة أخرى لتفادي الضربات المعادية، وأن يكون رد الفعل العسكري الياباني في الحد الأدنى الممكن.
تغيير العقيدة اليابانية كان لا بدَّ منه
من جهته، يرى الباحث المتخصص في العلاقات الدولية، أحمد إدريس زمراوي، أن هناك 3 أسباب دفعت اليابان إلى زيادة الإنفاق الدفاعي:
أولها: المنافسة مع الصين، خاصة أن بكين ضاعفت إنفاقها العسكري خلال الـ 10 سنوات الماضية، مشيرًا إلى تنمُّر الصين وتحرشها العسكري باليابان في الجزر الواقعة على بحر الصين الشرقي.
وأشار زمراوي في حديثه مع “نون بوست” إلى أن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عندما زار الصين عام 2011، طلب من المسؤولين الصينيين عدم استفزاز اليابان، لجهة أنه يمكنها صنع قنبلة نووية خلال فترة قليلة لامتلاكها كل المقومات اللازمة.
السبب الثاني بحسب الباحث: التوترات مع كوريا الشمالية، فبيونغيانغ تثير قلقًا وصداعًا كبيرًا لجارتها الجنوبية ولليابان، لأنها تعتبر اليابان وكوريا الجنوبية تابعتَين لواشنطن.
أما السبب الثالث وفقًا لمحدثنا فهو الغزو الروسي لأوكرانيا، لافتًا إلى مطامع موسكو في أوروبا وفي آسيا كذلك، مثل مطامعها في جزر كوريل، وهي 4 جزر تقع بين شبه جزيرة كامشاتكا الروسية وجزيرة هوكايدو اليابانية، متنازع عليها بين البلدَين بعد أن استولت عليها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية.
ويختتم زمراوي لـ”نون بوست” بأن تغيير “العقيدة اليابانية” القائمة على السِّلم كان لا بدَّ منه نظرًا إلى التطورات الراهنة، وأن التغيير يفترض أن يكون بشكل متدرّج يراعي الدستور الحالي، وهو ما تتفق معه مجلة “ذا ديبلومات” التي قالت في تقرير سابق: “يجب على القادة اليابانيين موازنة الرغبة في مضاعفة الإنفاق الدفاعي للبلاد والمضيّ بوتيرة معتدلة، إذ يجب أن تستمر اليابان في زيادة الإنفاق الدفاعي تدريجيًّا، ما سيسمح بانتقال أسهل وأقل تكلفة بشكل عام لتلبية زيادة القوة العسكرية بنحو 2% في حالة الطوارئ الإقليمية”.