تشتد وطأة الأزمة الاقتصادية على لبنان، بالتزامن مع انسداد في أفق الحلول السياسية، مع فشل المجلس النيابي في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، رغم عقْد المجلس 11 جلسة مخصصة لهذه الغاية، وتترافق الأزمة مع سجال قضائي على خلفية الاستنابات القضائية التي أصدرها المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، وطالت هذه المرة شخصيات أمنية وعسكرية وسياسية وقضائية، ما أحدث بلبلة كبيرة وجدلًا واسعًا في أروقة القضاء اللبناني.
سبق كل ذلك تحذيرات من توترات أمنية قد تحدث في البلد في الفترة المقبلة، وكل ذلك جعل لبنان يعيش على حافة انفجار اجتماعي وشيك، قد يتحول مع تطور أحداثه إلى فوضى قد تضع مصير البلد أو النظام فيه على المحك.
مستجدات الأزمة الاقتصادية ومفاعيلها
تحولت الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى ما يشبه كرة الثلج التي كلما تدحرجت كلما كبُرت وازدادت ضخامة، فسعر صرف الدولار في السوق الموازية في لبنان لم يعد هناك ما يضبطه، فهو في صعود دائم حتى تخطى خلال الساعات الأخيرة عتبة 55 ألف ليرة للدولار الواحد.
وانعكس هذا بدوره على أسعار السلع لا سيما المحروقات التي “تدولرت” أسعارها، حيث كلما ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية كلما ارتفعت أسعار المحروقات، ومعها ترتفع أسعار كل السلع الأخرى، حتى أن صفيحة وقود السيارات “البنزين” تخطت لأول مرة في تاريخ لبنان عتبة المليون ليرة لكل صفيحة سعة 20 لترًا من البنزين.
وكذلك الأدوية والاستشفاء والمواد الغذائية وأدوات التنظيف وأسعار الكهرباء والنقل وغيرها من الخدمات الأساسية التي باتت مرتبطة بشكل كامل بسعر صرف الدولار، في حين أن رواتب الموظفين في القطاعَين الرسمي والخاص في لبنان لا تزال على ما هي عليه، باستثناء بعض الزيادات والإضافات التي سرعان ما تفقد قيمتها وقدرتها أمام تصاعد سعر صرف الدولار.
أما بخصوص الحلول المطروحة لتجاوز هذه الأزمة، فإنها غير قائمة حاليًّا بالنظر إلى عدم وجود حكومة أصيلة، وبالنظر إلى الجدل الدستوري القائم حول الجلسات الاستثنائية التي تعقدها حكومة تصريف الأعمال، وهو ما يشلّ أية محاولة لإيجاد حلول للأزمة.
والجميع يدرك أن مفتاح حل الأزمة الاقتصادية في لبنان يبدأ من الحل السياسي ومفتاحه انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو ما لم يحصل حتى الآن ولا يدري أي مراقب أو متابع إذا ما كان سيحصل ويجري في القريب العاجل، أم سيظل الفراغ والشغور قائمًا في سدة الرئاسة الأولى، وبالتالي المزيد من تعقُّد المشهد السياسي ومعه ضغط الأزمة الاقتصادية.
الجدل القضائي على خلفية تحقيقات انفجار المرفأ
بالتزامن مع انسداد أفق الحل السياسي وضغط الأزمة الاقتصادية، عادت قضية انفجار مرفأ بيروت إلى الواجهة من جديد بعد غياب عام كامل تقريبًا، فقد جرى الحديث عن أن المحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ، القاضي طارق البيطار، سطر استنابات قضائية بحق عدد من الشخصيات السياسية والقضائية والأمنية والعسكرية، ومن بين هؤلاء المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إيراهيم، وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، ومدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات (وهي سابقة لم تحدث من قبل) وغيرهم.
أثارت هذه الاستنابات جدلًا واسعًا في أروقة القضاء اللبناني، حيث اعتبرها البعض منعدمة التأثير بالنظر إلى أن النيابة العامة كانت قد كفّت يد القاضي البيطار عن الملف في العام الماضي، في حين أن البعض الآخر، ومنهم القاضي البيطار نفسه، اعتبروا أن من حق المحقق العدلي أن يستكمل تحقيقاته في هذه القضية الوطنية الخطيرة، وأن يستمع إلى أية شخصية سواء بصفتها شاهدة أو مُدّعى عليها، لأن قرارات المحقق العدلي غير قابلة للطعن.
وقد أكّد هذا وأشار إليه رئيس مجلس شورى الدولة السابق، القاضي شكري صادر، في حديث صحفي، حيث قال إن “قرارات المحقق العدلي لا تقبل أي طريقة من طرق الطعن، وبالتالي أمام المجلس العدلي (أعلى محكمة في لبنان) يمكن طرق مسألة عدم قانونية الإجراءات التي يكون قد قام بها”، كما أشار القاضي صادر إلى أن “النيابة العامة التمييزية التي هي دائمًا فريق في الدعاوى لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة”.
في حين رأى مدّعي عام التمييز السابق، القاضي حاتم ماضي، في حديث صحفي أن “قرار المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، غير قانوني”، غير أن القاضي ماضي اعترف “أنه لا يعرف من هي الجهة التي من الممكن أن تبتّ بالخلاف الحاصل حول هذه المسألة، مشيرًا إلى أن المشرّع لم يكن يتصور أن تصل الأمور إلى هذا المكان”.
وبانتظار البتّ في قانونية الاستنابات القضائية التي سطرها القاضي البيطار، وفق اجتهاده الذي يجيز له متابعة التحقيقات في قضية انفجار المرفأ، من المنتظر أن يسعى كل طرف معنيّ بهذه القضية والاستنابات إلى استخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة للتخلُّص من هذه التهمة والقضية، في حين أن أهالي الضحايا وقوى سياسية مساندة لهم ستسعى بدورها إلى الضغط من أجل استكمال التحقيقات لإظهار الحقيقة ومحاكمة كل متورّط في هذه القضية.
أمام هذا المشهد الملبّد، وفي ظل حديث قادة أمنيين وعسكريين عن تهديدات وتوترات قد تصيب البلد، فإن لبنان يعيش على حافة انفجار اجتماعي اقتصادي خطير، قد يتحول مع عوامل أخرى إلى فوضى عارمة تهدد بإسقاط الهيكل وانهيار الدولة، لصالح إنتاج كيان جديد أو نظام سياسي آخر مختلف عن الحالي ويحاكي ما يجري في المحيط الإقليمي.