في شهر سبتمبر/ أيلول 2005، نشرت صحيفة دنماركية رسومًا مسيئة طالت النبي محمد، فجّرت هذه الإساءات احتجاجات كبرى في العالم الإسلامي لم يُشهد لها مثيل، خاصة أنها طالت رمز من أقدس مقدسات الإسلام، تبعت موجة الاحتجاجات تلك مقاطعة اقتصادية كبيرة للمنتجات الدنماركية والمنتجات الأوروبية بشكل عام، وبالتوازي مع الغضب الشعبي تحرّكت حكومات العالم الإسلامي دبلوماسيًّا من أجل إيقاف الرسوم المسيئة والاعتذار من الشعوب المسلمة.
لم تكن حادثة الرسوم المسيئة عام 2005 هي الأولى والوحيدة في مسلسل الإساءات الغربية على الرموز الإسلامية، لكنها كانت نقطة فارقة في طريقة تعامل المجتمع الإسلامي مع مسّ رموزه وإهانة مقدساته، وبين عام 2005 ويومنا هذا شهدنا العديد من حالات الإساءة، بالتوازي مع انتشار “الإسلاموفوبيا” في العالم، وهو الأمر الذي عزّزه الإعلام الغربي، حيث تمَّ ربط الإسلام والمسلمين بحوادث الإرهاب والاعتداءات وتنميطهم بصور سلبية.
منذ أيام قام اليميني المتطرف راسموس بالودان، زعيم حزب “الخط المتشدد” الدنماركي، بحرق نسخة من المصحف الشريف قرب سفارة تركيا بالعاصمة السويدية ستوكهولم، وسط حماية مشددة من الشرطة التي منعت اقتراب أي أحد منه أثناء ارتكابه فعلته، وأثارت الحادثة غضبًا بين أوساط المسلمين وإدانات من دول عربية وإسلامية اعتبرتها “عملًا استفزازيًّا لمشاعر المسلمين”.
تبعه زعيم جماعة بيجيدا المتطرفة المناهضة للإسلام في هولندا، إدوين واجنسفيلد، الذي أحرق نسخة المصحف بعد تمزيقها وتدنيسها في لاهاي، وشارك المتطرف واجنسفيلد مقطعًا مصوّرًا ينقل فعلته الاستفزازية التي وقعت أمام مبنى البرلمان في لاهاي، تبع هذه الاعتداءات والانتهاكات احتجاجات في عدّة دول إسلامية، وأصدرت العديد من الحكومات تنديدًا بما جرى ويجري من تعدٍ على رموز المسلمين.
جدوى الاحتجاجات
لم تختلف منهجية التعامل الإسلامي الغاضب المحقّ منذ إساءة الدنمارك حتى اليوم بالتعامل مع الأمر، وهي مظاهرات حاشدة يتبعها مقاطعة اقتصادية محدودة على المستوى الشعبي، وهو ما يدعونا للنظر في الأمر، هل المظاهرات هي رد فعل ناجع أمام هذه الإساءات؟
كذلك، فإنّ جموع المحتجين لم تنتصر للمسلمين المضطهدين في أماكن عدة من العالم، أليسوا أحق بالاحتجاج من رسومات استفزازية وأنشطة مسيئة لا تخلوا من صبغة انتخابية؟
لا شكّ أن مظاهر الاحتجاج على ما يجري من اعتداءات على المقدسات والرموز الإسلامية هو أمر محقّ وطبيعي من قبل الناس، لكن في الوقت ذاته يجب أن يضبَط الخطاب ويحوَّل هذا الغضب إلى أعمال أكثر فاعلية في سبيل الرد على هذه الاستفزازات، وفي هذا السياق يقول مؤسّس مركز التنوع لفضّ النزاعات، ياسر الغرباوي، إن “تفاعل الشارع مع الأحداث والمتغيرات العالمية في أي مجتمع هو من مظاهر حيوية هذا الشارع ودليل على حيويته وثقافته بما يدور في العالم من حوله، وخاصة عندما تتعلّق هذه الأحداث بما يمسّ مقوماته ومعتقداته”.
بدوره، الباحث في الفكر الإسلامي عباس شريفة يرى أنه “يجب علينا كمسلمين الموازنة بين ردة الفعل العاطفية المتمثّلة بالاحتجاج والعمل الاستراتيجي لمواجهة ظاهرة الاعتداء على المقدسات وحرق القرآن الكريم”.
يحدّد شريفة في حديثه لـ”نون بوست” أمرَين لمواجهة هذه الأفعال الاستفزازية، قانونيًّا “من خلال الضغط لاتخاذ قانون في دول الغرب يجرّم مثل هذه التصرفات بحقّ كل الأديان والرموز الدينية”.
يذكر أنه في كل مناسبة تصدر مطالبات بإصدار قوانين لتجريم الإساءة للرموز الدينية والمقدسات، لكن قوانين الحريات الغربية لم تستطع إلى الآن تقبُّل هذا الأمر، خاصة فيما يتعلق بالمسلمين والإسلام.
إضافة إلى المواجهة القانونية، يوضح الباحث شريفة أنه يجب أن يكون هناك “رد معرفي بحيث أن يكون هناك تعريف الناس بالإسلام، وأن تكون هذه فرصة لتعريف الناس بتعاليم الدين السمحة في العدل والسلام واحترام حقوق الإنسان، وبذلك نكون جمعنا بين ردّ الفعل الآني العاطفي والفعل الاستراتيجي الذي يستمر على المدى البعيد جدًّا”.
ماذا عن القضايا الأخرى؟
المفكر الإسلامي جاسم سلطان تكلّم عن حادثة حرق نسخة من المصحف وما تبعها من احتجاجات، وهو أمر متكرر يحصل عند كل حادثة، يقول سلطان إن حرق المصحف “جريمة نكراء بحقّ الإنسانية، لأنها تتنكّر لمبدأ التعارف والاحترام الكوني، لكنها ليست حدثًا عارضًا في ملف الاستفزاز وردود الأفعال! فماذا نفعل حيالها؟”.
١-حرق المصحف؟
جريمة نكراء في حق الانسانية لانها تتنكر لمبدأ التعارف والاحترام الكوني ولكنها ليست حدثا عارضا في ملف الاستفزاز وردود الافعال..! فماذا نفعل حيالها؟— د.جاسم السلطان (@DrJassimSultan) January 23, 2023
العالم مليء بالبشاعات، فمن مأساة فلسطين مرورًا بسوريا والإيغور وميانمار والهند، إلى ملف الإسلاموفوبيا في الغرب، كلها ملفات حية تطرح نفسها على الوجدان المسلم وتطالبه بالتفاعل، وفي كل هذه الملفات لن نجد سوى ردود الأفعال العاطفية، هذا ما هو بيد الإنسان العادي، ومناشدته للدول بقطع العلاقات وطرد السفراء، والتي تعني أن تقاطع الدولة المستجيبة الشرق والغرب، هو أمر غير محتمل الوقوع.
يرى سلطان أن “المتطرفين قلّة تستفيد من فضاء الحريات ومن قدرتها على تحريك خصومها بأقل تكلفة لموقع ردّ الفعل، وبالتالي تحقق الفاعلية أمام أتباعها والإحراج لخصومها، فشخص واحد متطرف بحركة رمزية يعيد ترتيب المشهد لصالحه ويدفع الملايين للمنطقة التي يريد”.
يطرح سلطان حلًّا للجماهير الغاضبة بقوله: “بما أن هذا المشهد تكرر وسيتكرر في المستقبل.. فعقلنة الجماهير أمام حدث من هذا النوع أمر محال، ولكن تصريف الغضب لوجهة نافعة تجعل الخصم يراجع استراتيجياته أظنها أمرًا ممكنًا”.
مضيفًا: “الأمر بحاجة إلى دعوة لمؤتمر مصغّر من قيادات الدول ذات الاهتمام، وطرح قائمة إجراءات تعالج المدى القصير والمتوسط والطويل للعمل المثمر، بحيث لا تتوقف عجلة العمل على هذا الملف قبل وأثناء وبعد الأحداث”.
استطرادًا لكلام جاسم سلطان حول القضايا التي يجب أن ينصرف إليها التفاعل الإسلامي أيضًا، يقول ياسر غرباوي: “إن التفاعل مع حدث دون آخر أو مع مأساة دون غيرها يرجع لعوامل عديدة، منها التغطية الإعلامية وحجمها ومن يقف خلفها، فغالبًا قضايا الأقليات لا تحظى بدعم إعلامي كبير، خاصة الأقليات المسلمة التي تقع تحت حكم وسيطرة قوى عالمية كبيرة مثل الصين والهند، لأن معظم حكومات الدول الإسلامية لها علاقات وتوازنات مع السلطة في هذه الدول”.
يضيف غرباوي: “أيضًا يؤثر في تفاعل الشارع مع الأحداث والضحايا وجود علاقة مباشرة مع هذه القضايا، فقضية فلسطين وتحريرها ستجد اهتمام الشارع العربي بها وتفاعله معها أعلى من اهتمام الشارع العربي بقضية اللاجئين في أمريكا الجنوبية مثلاً”.
يكمل غرباوي قوله: “لذلك قضية حرق المصحف قضية توفّرت فيها شروط جذب الانتباه من الجمهور لأنها تمس كل مسلم، وحظيت بتغطية إعلامية كبيرة، والحكومات الإسلامية ربما تسمح بمظاهر من التفاعل مع القضية لأنها بعيدة عن الضغوط الدولية في هذه القضية، على عكس الحاصل في الاهتمام بقضايا الأقليات المسلمة في العالم”.
تجاهل تامّ
في طرف مقابل، يجدُ المعتدون على المقدسات والرموز الإسلامية أنفسهم مضطرين لهذه الأفعال، ذلك لأنهم مغمورون لا أحد يسمع بهم، وبهذه الطريقة المثيرة للجدل يرتفع اسمهم، فمن منا سمع قبل براسموس بالودان أو تلك الصحيفة الدنماركية التي نشرت رسومًا مسيئة للرسول عام 2005؟
إضافة إلى ما سبق، يوضّح عباس شريفة أن المتطرفين لا يبحثون عن إثارة ردود أفعال بقدر ما يبحثون عن رسائل سياسية، وهذه الرسائل هدفها خلق جوّ عامّ ضد المهاجرين المسلمين بشكل أساسي وأيضًا خلق أزمات سياسية.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أن موجات الغضب والاحتجاج التي تحصل يجب أن تفرّق بين المعتدين والمتطرفين وبين شعوب كاملة لا تحمل الفكرة، وبهذا السياق كتبَ الكاتب والباحث محمد خير موسى مقالًا حدد فيه قواعد للتعامل مع الإساءة للقرآن، وبدأها بقاعدة “التفريق بين الإساءة الرسمية والفردية”.
وهنا يرى موسى أن الإساءات الرسمية مثل ما حصل في السويد وسابقًا على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وما يجري في الهند، يجب أن تقابَل بالاحتجاج المستمر والضغط على الحكومات لقطع العلاقات، والعمل على المقاطعة الاقتصادية مع هذه البلدان.
لكن موسى يرى أن “الإساءات الصادرة من أفراد عاديين كصحفي مغمور أو رسام كاريكاتير مجهول أو صحيفة تافهة، فينبغي أن تقابَل بالتجاهل التام وعدم إعطاء فرصة لهؤلاء التافهين لتحقيق الاشتهار والنجاح في الاستفزاز وتحقيق حضورهم في وسائل الإعلام العالمية”.
ويضيف موسى في مقاله المنشور على موقع “عربي 21“: “لك أن تتأمّل في سبب عدم وصول شيء إلينا من الأشعار التي هجا بها المشركون النبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ فقد أطفأها السّابقون بتجاهلها وعدم تناقلها فماتت مع أصحابِها”.
أما القاعدة الثانية فهي “ضرورة الخروج من دائرة ردّة الفعل إلى دائرة الفعل”، وهو ما يتمثل بـ”ترشيد الغضب تجاه الإساءة لمقدّساتنا كواجب على أهل الدّعوة والفكر والإصلاح، من خلال توجيه هذا الغضب ليغدو طاقة فاعلة وليس محض غضبة انفعالية، ويكون ذلك بالعودة إلى مقدساتنا التي أُسيءَ لها انتماءً والتفافًا حولها ونهلًا من معينها”، ويضيف موسى قاعدة أخيرة هي “الحذر من جعل الغضب أداة بيد الاستبداد لصرف النظر عن قبائح المستبدّين”.
بالمحصلة؛ إن الاحتجاجات التي تعقب كل إساءة لدين الإسلام لا شكّ أنها محقة، لكن بات من الواجب العمل بما هو أبعد من الاحتجاج وإعطاء ردات فعل آنية، ويكون ذلك من خلال العمل القانوني والنشاط المعرفي الرامي إلى تشكيل تيار مضادّ للمعتدين والمتطرّفين للتعريف بالإسلام وقيمه وحضارته.