بعد يومَين من طلب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، توضيحات من الرئيس الانتقالي في بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، بشأن طلب بلاده انسحاب القوات الفرنسية من أراضيها في غضون شهر، أعلنت باريس استجابتها للبوركينيين، ما يعني أن التوضيح قد جاء بالفعل.
المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية قالت، أمس الأربعاء، إن فرنسا ستسحب قواتها من بوركينا فاسو في غضون شهر، وأوضحت المتحدثة أن باريس تلقّت الثلاثاء إشعارًا رسميًّا من حكومة المجلس العسكري الحاكم بفسخ اتفاق عام 2018 المتعلق بوضع القوات الفرنسية الموجودة في هذا البلد، ووفق بنود الاتفاق يسري الفسخ بعد شهر واحد من تسلُّم الإخطار الكتابي.
تخسر باريس بهذا الانسحاب كثيرًا، إذ تحتضن بوركينا فاسو على أراضيها غرفة عمليات قوات عملية “سابر” التي يتراوح تعدادها ما بين 350 و400 من القوات الخاصة، وهي المنفّذ الرئيسي لأغلب الضربات النوعية الفرنسية ضد قيادات الجماعات المسلحة بالمنطقة.
تراجُع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل
لم تكن بوركينا فاسو أول دولة أفريقية “تطرد” القوات الفرنسية من أراضيها وتوقف التعاون مع باريس، فقد سبقتها في ذلك دولة مالي التي أعلنت مطلع مايو/ أيار الماضي إلغاء الاتفاقيات الدفاعية الموقعة مع فرنسا وشركائها الأوروبيين، وشجبت ما وصفته بـ”الانتهاكات الصارخة” من قبل القوات الفرنسية الموجودة في البلاد للسيادة الوطنية، و”خروقها الكثيرة” للمجال الجوي المالي.
بعد ذلك بـ 4 أشهر سحبت فرنسا آخر جنودها من مالي، لتنهي بذلك مهمة جيشها في البلد الأفريقي بعد تواجد دام 9 أعوام في إطار قوة برخان العسكرية، وهو ما يؤكد وصول العلاقات بين فرنسا والمجلس العسكري الحاكم في البلاد إلى نقطة مسدودة.
رفض الوجود الفرنسي في مالي وبوركينا فاسو لم يكن رسميًّا فقط، فقد كان شعبيًّا أيضًا، وهي المرة الأولى التي يتفق فيه الشعب والقيادة على مسألة ما في البُلدان الأفريقية، إذ خرجت المظاهرات الشعبية المنددة بالوجود العسكري الفرنسي هناك.
أظهرت الجزائر انفتاحًا على جيرانها، فهم لا يشكّلون أهمية سياسية وعمقًا أمنيًّا فقط، إنما أيضًا مجالًا للتعاون الاقتصادي.
تتالت المظاهرات وشاركت فيها فئات شعبية مختلفة، ورفعت فيها شعارات منددة بباريس و”سياساتها الاستعمارية” في منطقة الساحل والصحراء، كما أحرقت فيها علم فرنسا وقطعت صور الرئيس إيمانويل ماكرون، ما يدلّ على الغضب الشعبي الكبير تجاه فرنسا.
لا يعدّ هذا الاستياء ضد القوة الاستعمارية السابقة مقتصرًا على مالي وبوركينا فاسو فقط، فقد سبق أن شهدت أيضًا عاصمة النيجر -نيامي- مظاهرات طالبت برحيل فرنسا من البلاد ومنطقة الساحل ككُلّ، وهو ما حصل كذلك في تشاد.
يؤكد هذا الأمر انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء، وانتشار موجة من الاستياء ضدها في دول المنطقة، ذلك أن باريس لم تفِ بوعودها، فرغم مرور سنوات على عودتها العسكرية للمنطقة إلا أنها لم تتمكن بعد من القضاء على مجموعات صغيرة من المسلحين، بل العكس ما حصل، فقد ازداد انتشار تلك الجماعات وازداد عددها أكثر فأكثر، واستغلت فرنسا ذلك لمواصلة نهب الثروات والتحكم في القرار السيادي للدول.
في ظل هذا التراجع الفرنسي الكبير في منطقة الساحل والصحراء، عملت عديد القوى الإقليمية على التمدّد أكثر فأكثر في هذه المنطقة الاستراتيجية لتوسيع نفوذها واستغلال الفرص المهدورة هناك، على غرار روسيا والصين وتركيا.
رغبة جزائرية في اقتناص الفرصة للعودة إلى الساحة الإقليمية
الشيء نفسه بالنسبة إلى الجزائر الراغبة في العودة إلى الساحة الإقليمية، فقيادة البلاد تنظر إلى الانسحاب الفرنسي التدريجي من منطقة الساحل والصحراء كفرصة سانحة لإعادة أمجاد الدولة الجزائرية زمن ستينيات القرن الماضي.
وجد تبون، منذ انتخابه رئيسًا جديدًا للجزائر، بلاده في منطقة متحرّكة وفي وضع دقيق، لا تأثير يذكر للجزائر فيه، نظرًا إلى ضعف مكانتها الإقليمية، فقد كانت غارقة في أزماتها الداخلية وكان النظام فيها وحاشيته مهتمّين بكسب النقاط داخليًّا أو خارجيًّا.
مباشرة إثر وصوله إلى قصر المرادية نهاية عام 2019، أظهر تبون رغبة في الخروج من “الانطواء” الذي عُرفت به الجزائر في العقود الأخيرة، إذ خيّرت بلاده خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة الانكفاء على الذات والانعزال عن العالم الخارجي لأسباب عديدة.
بوركينا فاسو تطرد القوات الفرنسية، والنيجر تستعد لاستقبالهم بحفاوة كبيرة.
نقلت وسائل الإعلام الفرنسية مساء أمس، الثلاثاء، أن السلطات الفرنسية ناقشت في قصر الإليزيه طلب حكومة بوركينا فاسو مغادرة القوات الفرنسية من بلادها.#النيجر ?? #بوركينا_فاسو ?? #فرنسا ?? pic.twitter.com/pD0BQWT4Vy
— أخبار #النيجر (@Nigerenarabe) January 25, 2023
يسعى نظام تبون منذ فترة إلى العودة بالبلاد إلى سابق عهدها، إذ كانت لها مكانة إقليمية كبرى، وتعمل الجزائر على أن يكون بيدها الحل والربط في منطقة الساحل والصحراء، كما هو الشأن في منطقة المغرب العربي.
وتشكّل العودة إلى الساحة الإقليمية إحدى أبرز التحديات التي تعمل إدارة تبون على تحقيقها، وقد ظهر ذلك في العودة إلى الساحة الأفريقية من خلال الجولات التي قام بها وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، وقبله سلفه صبري بوقادوم، خاصة بالنسبة إلى دول الجوار كتونس وليبيا ومالي، وحتى مع النيجر ونيجيريا.
في هذا الشأن، أظهرت الجزائر انفتاحًا على جيرانها، فهم لا يشكلون أهمية سياسية وعمقًا أمنيًّا فقط، إنما أيضًا مجالًا للتعاون الاقتصادي الذي تراهن عليه الجزائر لتقوية نفوذها في المنطقة، مستغلّة إمكاناتها الكبيرة وحاجة دول المنطقة إلى الدعم.
يمكن للجزائر تحريك قوتها الناعمة لدعم وجودها في منطقة الساحل، وبالتالي تقوية نفوذها الإقليمي، ما يمكّنها من العودة إلى ساحة الفعل الإقليمية.
تظهر الرغبة الجزائرية في سدّ وملء الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الفرنسي في المنطقة، في تقوية التنسيق الأمني والعسكري مع باريس، فخلال زيارته الأخيرة للجزائر ركّز ماكرون على هذه النقطة والشيء نفسه بالنسبة إلى زيارة رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أول السعيد شنقريحة، لفرنسا.
ويزور شنقريحة باريس هذه الأيام في أول زيارة رسمية لقائد جيش جزائري إلى فرنسا منذ 17 عامًا، وذلك تلبية لدعوة من نظيره الفرنسي تييري بوركا، وتعود آخر زيارة لرئيس أركان جزائري إلى فرنسا للراحل أحمد قايد صالح في أيار/ مايو 2006.
نقاط قوة كثيرة
يمكن للجزائر ملء الفراغ في منطقة الساحل إن أحسنت استغلال نقاط القوة التي تملكها، على رأسها مكانتها المهمة بين شعوب المنطقة، فهي لم تتورّط في أي عمل عسكري في المنطقة، كما يوجد هناك روابط عائلية بين المجموعات السكانية في منطقة الساحل، خاصة شمال مالي وجنوب الجزائر.
ولسنوات كانت الجزائر تغلب دعم الحكومات والجيوش وأجهزة الأمن في الدول الجارة، ومساعدتها من أجل حماية أراضيها وفرض الأمن، على اللجوء إلى التدخل العسكري كحلّ لمواجهة المشاكل الأمنية التي تعاني منها دول المنطقة.
إلى جانب ذلك، سبق أن شاركت الجزائر بفاعلية في اتفاق السلام الذي وقّعته الحكومة المالية مع الانفصاليين عام 2015، وتتولى قيادة لجنة متابعة تطبيقه، لهذه الأسباب تكنُّ شعوب دول الساحل والصحراء الخمس احترامًا كبيرًا للجزائريين.
أيضًا، للجزائر دور أمني واستخباراتي مهم في المنطقة، فرغم أن هذا الدور ليس ظاهرًا للعيان، فهم على دراية بكل ما يحدث في دول الساحل من أجل أمنها، وقد تمكّنت من تكوين شبكات استخباراتية قوية تمنحها قراءات جيدة لما يحصل في دول المنطقة.
ألغت #بوركينافاسو الاتفاقية العسكرية مع #فرنسا ( الصورة توضيحية) بما يكفي وهذا يجعلنا نرى امرين ان #أفريقيا تتحرر وان #فرنسا تنهار انها بداية النهاية بالانهيار الاوروبي العظيم!! pic.twitter.com/hJy0onX71N
— الدكتورة فاطمة الوحش #القدس،،هي #الوعي (@fatimaalwahsh) January 23, 2023
يمكن أن تستغل الجزائر صداقتها مع موسكو لدعم هذا النشاط الأمني والاستخباراتي في المنطقة، فروسيا أصبحت حليفًا موثوقًا لأغلب قادة دول الساحل، لما قدّمته لهم من مساعدات عسكرية وأمنية في الفترة الأخيرة.
للجزائر نقاط اقتصادية أيضًا، فلهذه الدولة العربية وزن اقتصادي وتجاري في المنطقة، سواء تعلّق الأمر بتمبكتو أم غاو أم كيدال، إذ تعتمد تلك الأسواق على الواردات الجزائرية، كما أن الجزائر تعمل على فتح العديد من المعابر الحدودية لتقوية المبادلات التجارية مع دول الساحل، ولها معابر وطرقات مفتوحة من ذلك الطريق العابر للصحراء (يربط 6 دول هي: الجزائر وتونس والنيجر ونيجيريا ومالي وتشاد) الذي سيُستغَلّ بشكل كامل، عقب بناء ميناء الحمدانية في مدينة شرشال بمحافظة تيبازة.
لا يمكن الحديث في هذا الوقت عن تدخُّل عسكري جزائري مرتقب في منطقة الساحل مهما كانت أشكاله، فنظام تبون لا يحبّذ ذلك، كما أن المنطقة ليست في استعداد لتقبُّل هذا الأمر، لكن يمكن للجزائر تحريك قوتها الناعمة لدعم وجودها في منطقة الساحل وبالتالي تقوية نفوذها الإقليمي، ما يمكّنها من العودة إلى ساحة الفعل الإقليمية.