ترجمة حفصة جودة
العام الماضي، واجهت أسواق المال وقتًا عصيبًا، لكن حتى الآن يبدو عام 2023 مختلفًا، فقد شهد الكثير من المؤشرات أفضل بداية للعام منذ عقود مثل Euro Stoxx 600 وHong Kong’s Hang Seng وأسهُم عدد كبير من الأسواق الناشئة.
ارتفعت أسهم مؤشر s&p 500 الأمريكي بنسبة 5% بعد أن شهد ذروته في أكتوبر/ تشرين الأول، كما انخفضت قيمة التجارة بالدولار بنسبة 7%، ما يشير إلى انحسار مخاوف الاقتصاد العالمي، وحتى البيتكوين تشهد عامًا جيدًا، منذ فترة ليست بالبعيدة بدا أن الركود العالمي أصبح أمرًا ثابتًا، والآن عاد التفاؤل إلى الظهور.
قال المحللون في بنك JPMorgan Chase، يوم 18 يناير/ كانون الثاني، في تقريرهم عن منطقة اليورو: “مرحبًا بانخفاض أسعار الغاز ووداعًا للركود”، أما بنك Nomura فقد راجع توقعاته بشأن الركود البريطاني لنسبة أقل ضررًا ممّا توقعوه.
كما قال بنك Citigroup: “إن احتمالية حدوث ركود عالمي تام يتراجع فيه نمو الدول واحدة تلو الأخرى، قد أصبح الآن 30% مقارنة بتقييم 50% خلال النصف الثاني من العام الماضي”، إليكم المغزى: الاقتصاد العالمي في أضعف نقاطه منذ إغلاق عام 2020، لكن المستثمرين سيلتهمون أي شيء.
يستجيب المتنبئون لبيانات الاقتصاد الحقيقية في وقتها، ورغم الحديث عن ركود عالمي من فبراير/ شباط الماضي عندما غزت روسيا أوكرانيا، صمدت هذه البيانات بشكل أفضل من المتوقع، مع الوضع في الاعتبار التقدير الإسبوعي لإجمالي الناتج المحلي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD”، وهي منظمة تضمّ معظم الدول الغنية التي تمثل حوالي 60% من الناتج العالمي.
في بعض الدول الغنية مثل النمسا والدنمارك ترتفع معدلات البطالة، وهي إشارة واضحة إلى أن الركود يلوح في الأفق.
يزدهر الاقتصاد ببطء، لكن في منتصف يناير/ كانون الثاني كانت بعض الدول تعاني، حيث شهد مؤشر إدارة المشتريات الذي يخضع لرقابة واسعة زيادة طفيفة في الناتج العالمي لشهر يناير/ كانون الثاني، حيث ارتفع إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2%.
لكن ما زالت الأرقام مختلطة، فالأرقام الأخيرة لمبيعات التجزئة الأمريكية كانت أقل من التوقعات، في الوقت نفسه كانت طلبات الآلات في اليابان أضعف من التنبؤات، ومع ذلك بعد الوصول إلى أدنى مستوى في الصيف، ارتفعت ثقة المستهلكين في دول منظمة “OECD”.
من المنتظر أن ينشر المسؤولون التقديرات الأولى لنمو إجمالي الناتج المحلي الأمريكي للربع الأخير من عام 2022 بنهاية هذا الشهر، ويتوقع معظم الاقتصاديين أرقامًا جيدة، رغم أن اضطرابات الجائحة تعني أن هذه الأرقام ستكون أقل ثقة عن المعتاد.
تبدو أسواق العمل متأرجحة أيضًا، ففي بعض الدول الغنية مثل النمسا والدنمارك ترتفع معدلات البطالة، وهي إشارة واضحة إلى أن الركود يلوح في الأفق، ومن النادر أن يمرَّ يوم دون أن تعلن شركة تكنولوجية كبرى عن تسريح الموظفين.
ومع ذلك فإن شركات التكنولوجيا تمثّل نسبة صغيرة من جميع الوظائف، وفي أغلب الدول ما زال معدّل البطالة منخفضًا، ومن حسن الحظ أن أصحاب العمل في دول “OECD” يعربون عن انخفاض حاجتهم للعمالة بسحب إعلانات الوظائف بدلًا من إقالة الموظفين.
في فترة الميلاد انخفضت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا لنصف المستويات التي وصلت إليها قبل غزو روسيا لأوكرانيا.
حسب تقديرنا، فمنذ الوصول إلى أعلى نسبة بأكثر من 30 مليون وظيفة شاغرة بداية العام الماضي، انخفضت نسبة الوظائف الشاغرة حوالي 10%، وانخفض عدد الناس الذين يشغلون وظائف فعلية بأقل من 1% عن ذروته.
يولي المستثمرون انتباههم لأسواق العمل، لكن ما يهتمّون لأمره الآن بالفعل هو التضخُّم، فمن المبكّر جدًّا أن نكتشف إذا كان التهديد قد انتهى أم لا، في الدول الغنية ما زال التضخم الأساسي -وهو مقياس للضغط- ما بين 5 إلى 6% سنويًّا، وهي نسبة أعلى بكثير ممّا ترغب فيه البنوك المركزية.
لكن المشكلة لا تتفاقم حتى الآن، ففي أمريكا انخفض التضخُّم الأساسي وكذلك حصص الشركات الصغيرة التي تفكّر في رفع الأسعار، ووفقًا لمجموعة بيانات أخرى من الباحثين في بنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند وشركة Morning Consult وجامعة Raphael Schoenle of Brandeis، فإن الأرقام في تراجع.
هناك عاملان يفسّران تماسك الاقتصاد العالمي: أسعار الطاقة والموارد المالية للقطاع الخاص، في العام الماضي ارتفعت تكلفة الوقود في الدول الغنية بنسبة 20% وبنسبة 60% في بعض أجزاء أوروبا، وتوقّع الاقتصاديون أن تظل الأسعار مرتفعة في عام 2023، ما يسحق القطاعات المستهلكة بشدة للطاقة مثل الصناعات الثقيلة.
لكنهم كانوا خاطئين في كلا التوقعَين، بمساعدة الجو الدافئ غير المعتاد تمكّنت الشركات من التعامل بمرونة غير متوقعة مع ارتفاع الأسعار، في نوفمبر/ تشرين الثاني كان استهلاك الصناعات الألمانية للغاز أقل بـ 27% من المعتاد، ومع ذلك كان الإنتاج الصناعي أقل بـ 0.5% من العام الماضي، وفي فترة الميلاد انخفضت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا لنصف المستويات التي وصلت إليها قبل غزو روسيا لأوكرانيا.
شكّلت قوة الموارد المالية للقطاع الخاص فارقًا أيضًا، فحسب تخميننا لا تزال العائلات في دول مجموعة السبع تحتفظ بمدخرات فائضة -أي تزيد عن ما يدخرونه في الأوقات المعتادة- تصل إلى حوالي 3 تريليونات دولار (حوالي 10% من الإنفاق الاستهلاكي السنوي)، وذلك نتيجة تراجع الإنفاق بسبب الجائحة في عامَي 2020 و2021.
ما زالت حالة التشاؤم قوية، فما زال أمامنا وقت طويل حتى تعلن البنوك المركزية سيطرتها على التضخُّم، خاصة مع ارتفاع الأسعار بعد عودة الصين.
ونتيجة لذلك، فإن إنفاقهم اليوم أصبح مرنًا، فبإمكانهم تحمُّل ارتفاع الأسعار وارتفاع تكلفة الائتمان، في الوقت نفسه ما زالت الشركات تملك كومة كبيرة من النقود السائلة، والقليل منهم يواجه سداد ديون كبيرة الآن: فحوالي 600 مليار دولار من الديون المستحقة للشركات يجب سدادها هذا العام، مقارنة بـ 900 مليار دولار عام 2025.
هل تستمرّ البيانات في مواجهة التوقعات؟ هناك بعض الأدلة على ذلك من بينها ورقة حديثة لبنك Goldman Sachs تقول إن العائق الأكبر لنمو الاقتصاد بعد سياسة نقدية متشددة يحدث بعد 9 أشهر، وقد بدأت الظروف المالية العالمية في التشدد منذ حوالي 9 أشهر.
إذا ثبت صحة هذه النظرية، فلن تمرّ فترة طويلة حتى يقف الاقتصاد على قدمَيه مرة أخرى، وتبدأ المعدلات المرتفعة في التهام التضخم.
تدفعنا الصين إلى التفاؤل أيضًا، فرغم أن تراجُع القيود المحلية لكوفيد-19 قد أدّى إلى تباطؤ الاقتصاد في ديسمبر/ كانون الأول، حيث كان الناس يختبئون من الفيروس، فإن التخلي عن هدف “صفر كوفيد” سيؤدي في النهاية إلى ارتفاع الطلب على البضائع والخدمات عالميًّا، ويتوقع المتنبئون أيضًا استمرار الجو الدافئ في معظم أنحاء أوروبا.
ومع ذلك، ما زالت حالة التشاؤم قوية، فما زال أمامنا وقت طويل حتى تعلن البنوك المركزية سيطرتها على التضخم، خاصة مع ارتفاع الأسعار بعد عودة الصين، إضافة إلى ذلك لا يمكن التنبُّوء بالاقتصاد ونحن على عتبة الركود.
فعندما يبدأ الناس في خسارة وظائفهم ويتقلّص الإنفاق، يصبح التنبوء بالانكماش مستحيلًا، والدرس الأساسي الذي نتعلمه من السنوات الأخيرة: إذا أمكن أن تسوء الأمور فإنها تسوء بالفعل، لكن من الجيد أن يكون هناك بريق أمل رغم كل شيء.
المصدر: ذي إيكونوميست