أعلنت دول أوروبا عن نيتها إرسال حلف من الدبابات من طراز “ليوبارد 2” (ألمانية الصنع) يصل تقريبًا وفق التقديرات الأولية إلى 80 دبابة (3 – 4 سرايا تتكون كل سرية من 14 دبابة)، حسبما كشف الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم في ألمانيا، أمس الأربعاء 25 يناير/ كانون الثاني 2022، في تطور لافت لمسار الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ فبراير/ شباط 2022.
وبعد دقائق من إعلان ألمانيا عن تلك الخطوة، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، في خطاب ألقاه من البيت الأبيض، إن بلاده سوف ترسل 31 دبابة من طراز “إم-1 أبرامز” القتالية إلى أوكرانيا، واصفًا إياها بأنها “الأفضل في العالم”، بجانب تزويد أوكرانيا بقطع غيار ومعدّات بالإضافة إلى التدريب.
جاءت الخطوة بعد عدّة مناشدات للرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، لمواجهة التمدُّد الروسي مؤخرًا في مناطق الجنوب والشرق، حيث تحاول موسكو تعويض الخسائر الفادحة التي تتكبّدها في ميدان المعركة طيلة الأشهر الماضية، باحثة عن انتصارات عاجلة لحفظ ماء الوجه عالميًّا ولحماية الجبهة الداخلية من التعرُّض لهزات عنيفة، في ظل تعالي الأصوات المنتقدة للحرب التي كلفت روسيا أموالًا طائلة في وقت يعاني فيه الشعب من أزمة اقتصادية خانقة.
إرسال أوروبا لدبابات وأسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا كان أحد الملفات الجدلية التي تباينت الرؤى بشأنها على طاولة نقاش المعسكر الغربي، لما يترتّب على ذلك من تبعات وتأويلات قد تضع روسيا في مواجهة الغرب بشكل مباشر، كما أن القرار كان بحاجة إلى مناقشات مطوّلة بحسب بعض المصادر، ليأتي الإسراع باتخاذ تلك الخطوة التصعيدية في هذا التوقيت دون الحصول على الوقت الكافي لمناقشتها، كعلامة استفهام كبيرة تفتح بات التكهُّنات حول مآلاتها على المشهد الأوكراني ميدانيًّا.
حلف دبابات غربي
عقب إعلان المستشار الألماني، أولاف شولتس، أن بلاده سترسل 14 دبابة قتالية من طراز “ليوبارد 2” إلى أوكرانيا، والسماح لحلفائها بإرسالها أيضًا إلى كييف، توالت الاستجابات من قبل الحكومات الأوروبية، حيث أشاد رئيس الوزراء البولندي، ماتيوز مورافيكي، بهذا القرار، كون بلاده إحدى الدول التي حثّت برلين على السماح للدول الأوروبية بإرسال الدبابات لأوكرانيا، طالبًا الحصول على رخصة تصدير لـ 14 دبابة من تلك الدبابات.
كما أعلنت وزيرة الدفاع الإسبانية، مارغريتا روبلز، أن بلادها مستعدّة لإرسال عدد من الدبابات لكييف، وتدريبها على استخدامها، ولكن “بالتنسيق دائمًا مع الحلفاء”، وقد صرّحت في وقت سابق أن مدريد في انتظار الموافقة الألمانية الرسمية للقيام بتلك الخطوة المهمة في مسار الدفاع عن العمق الأمني الأوروبي ناحية الشرق.
وخلال الاجتماع الذي عُقد مع عدد من الحلفاء الداعمين لأوكرانيا في برلين بالأمس، أعلنت البرتغال عن استعدادها إمداد كييف بـ”ليوبارد 2″، بجانب تقديمها خدمات لوجستية خاصة بتدريب القوات الأوكرانية على استخدامها، وهو الموقف الذي تبنّته هولندا التي تدرس حاليًّا تزويد كييف بعدد من الدبابات رغم عدم حسم القرار بعد، كونها لا تمتلك أي دبابات من هذا الطراز، وما لديها منه، وعدده 18 دبابة، مستأجَر من ألمانيا، وبالتالي لا بدَّ من موافقة برلين أولًا.
الكرملين: إرسال الولايات المتحدة ودول أوروبية أسلحة بينها دبابات إلى أوكرانيا هو تدخُّل مباشر بالصراع.
وفي مطلع يناير/ كانون الثاني الجاري، كان الرئيس الفنلندي، سولي نينيستو، قد أعرب عن أن بلاده يمكنها إرسال دبابات لأوكرانيا لتدعيم صفوفها المقاتلة في مواجهة القوات الروسية، في حين ذكرت الصحف النرويجية أن حكومة أوسلو تدرس تسليم 8 دبابات من 36 دبابة “ليوبارد 2” للجيش الأوكراني، لكن لم يتمَّ اتخاذ أي قرار بعد.
وفي المسار ذاته أعلن البيت الأبيض عن تزويد كييف بـ 31 دبابة من طراز “إم-1 أبرامز” التي تعدّ واحدة من أحدث الدبابات القتالية المتطورة، مع دراسة مقترح إرسال مركبات مدرّعة أخرى، فيما علّق الرئيس بايدن على هذا التصعيد بقوله إن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول التفريق بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لكنه فشل في ذلك”، مؤكدًا على اتحادهم جميعًا في دعمهم لأوكرانيا وحريصون على انتصارها في المعركة، “لأنها معركة من أجل الحرية” على حد قوله.
موسكو: تدخُّل مباشر في الصراع
قوبل القرار بتحفُّظ روسي كبير، حيث قالت الخارجية الروسية إن تزويد أوكرانيا بدبابات ألمانية تصعيد لافت في مسار الحرب، وأنه جزء من مخطط مسبق لشنّ حرب على روسيا، فيما اتهمت المتحدثة باسم الخارجية الولايات المتحدة بأنها تجرُّ أوروبا إلى حرب كبيرة.
سفير روسيا لدى برلين، سيرغي نيتشاييف، علّق على هذا التصعيد بقوله إن “قرار برلين توريد دبابات من طراز ليوبارد إلى كييف خطير للغاية، لأنه سيرفع الصراع إلى مستوى جديد من المواجهة”، منوهًا أنه يتعارض مع ما كان قد أعلنه ساسة ألمانيا في السابق بعدم رغبتهم التورط في الصراع، متهمًا برلين وشركاءها الغربيين بأنهما “ليسا مهتمين بحلّ دبلوماسي للأزمة الأوكرانية، بل يعوّلون على التصعيد”.
وحذّر السفير الروسي من أن الدبابات الألمانية التي سترسَل مرة أخرى إلى كييف في الجبهة الشرقية من أوروبا، لن يكون ضحاياها من الجنود الروس فقط بل من السكان المدنيين كذلك، وهو ما سيقود إلى كوارث إنسانية محقَّقة، كاشفًا أن برلين تتخلى عن “مسؤوليتها التاريخية تجاه روسيا”.
وقد وصف السفير الروسي في واشنطن عمليات التسليم المحتملة للدبابات الأمريكية المتطورة إلى أوكرانيا بأنها “استفزاز صارخ آخر”، فيما حذّر المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، من أن أي دبابة أمريكية ترسَل إلى أوكرانيا “ستحترق مثل باقي الدبابات” على حد قوله.
#عاجل | الكرملين يعتبر إرسال الولايات المتحدة ودول أوروبية أسلحة بينها دبابات إلى أوكرانيا بأنه تدخل مباشر بالصراع
— ANADOLU AGENCY (AR) (@aa_arabic) January 26, 2023
الحرب إلى منعطف جديد
البيت الأبيض في تعليقه على إمداد كييف بالدبابات بصفة عامة، قال إن وصولها إلى أوكرانيا يستغرق عدة أشهر، غير أن طراز “ليوبارد 2” قد يصل إلى الميدان بشكل أسرع لكنه أيضًا بحاجة إلى وقت، وهو ما أكّد عليه المتحدث باسم البنتاغون الجنرال بات رايدر، حين أشار إلى أن تفعيل الدبابات في ساحات المعركة سيحتاج أشهرًا لا أسابيع، وأنهم سيبدؤون العمل الآن.
وأضاف رايدر أن الدبابات ستمنح الأوكرانيين تفوقًا في المعارك وتضع الروس تحت الهجوم، ما يعني أن هناك نية واضحة لدى المعسكر الغربي بإطالة أمد الحرب لعدة أشهر قادمة، وعليه يكون الاستعداد المسبق لما هو قادم، وهو ما ينسف نظرية الحل الدبلوماسي في القريب العاجل.
يبرر الغرب هذا التطور في خارطة القتال بدعم أوكرانيا بهذا النوع من المدرّعات والأسلحة القتالية المتطورة، بأنها محاولة لإحداث التوازن في الميدان في ظل التفوق الواضح للجانب الروسي في العدة والعتاد، بحكم الفارق الهائل في مستوى الجيشَين، الروسي والأوكراني، وهو ما يعطي الأفضلية للأول على مستوى المواجهات المباشرة.
يطمئن البيت الأبيض موسكو بالتأكيد على أن دبابات “أبرامز” لا تشكّل تهديدًا للأراضي الروسية وإنما للجنود الروس داخل أوكرانيا، مستبعدًا فرضية استهداف الداخل الروسي، وهي الذريعة التي كان يتحجّج بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من مرة في السابق.
يصرّ الغرب على إنهاك روسيا بشكل كامل، في رسالة غير مباشرة لحلفاء موسكو، على رأسهم الصين وإيران، وفي محاولة لاستعادة نفوذ الناتو في الجانب الشرقي من أوروبا
الحديث هنا ليس عن السلاح والعتاد حصرًا، فبحسب واشنطن هناك 100 ألف من القوات الأمريكية في أوروبا وهم باقون وعلى أتمّ الاستعداد للاستعانة بهم في أي وقت، وفق التغيرات التي شابت البيئة الأمنية في أوروبا بسبب الحرب التي شنّتها روسيا ضد أوكرانيا قبل عام، وهو تصريح يحمل في باطنه التهديد الضمني لاحتمالية تصعيد الدعم لأوكرانيا أكبر من مجرد التزويد بالسلاح.
وفي سياق التبرير كذلك، يشير الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، الذي رحّب بقرار واشنطن تزويد أوكرانيا بدبابات أبرامز، كذلك ألمانيا ودول أوروبا، إلى أن الروس يحشدون قواتهم ويكثّفون إنتاج الأسلحة ويخططون لهجوم جديد على أوكرانيا خلال الأيام القادمة، مضيفًا: “نحن متحدون في دعمنا لها للدفاع عن نفسها”.
نجح المعسكر الغربي في عبور المرحلة الحرجة من تداعيات الحرب الأوكرانية، خاصة تعطُّل الإمدادات الروسية من الغاز الذي يلبّي 40% من احتياجات أوروبا، حيث قطع شوطًا كبيرًا في مواجهة موجة البرد القارس بأقل الخسائر، ودون الرضوخ للضغوط الروسية الممارسة في هذا الملف، ومع غروب شمس كل يوم في فصل الشتاء يزداد الموقف الأوروبي قوة وإصرارًا على مواصلة استنزاف الروس.
#الولايات_المتحدة.. شحن دبابات من ولاية #كنساس إلى الموانئ الأمريكية في طريقها الى #أوروبا#أورينت pic.twitter.com/tuBUCmc5Da
— Orient أورينت (@OrientNews) January 27, 2023
وبعد أن تجاوزت أوروبا المرحلة الحرجة بمرور أكثر من نصف فصل الشتاء (بحسب تقويم الأرصاد الجوية، يكون أول أيام الشتاء دائمًا هو 1 ديسمبر/ كانون أول وينتهي في 30 فبراير/ شباط) عبر استراتيجيتَي التقشُّف والبدائل؛ بدأ الخطاب السياسي إزاء موسكو في التصعيد، مقارنة بما كان عليه بداية الحرب.
إذ كان الخطاب يعاني من تبايُن في الرؤى بين الدول الأعضاء في الاتحاد وفق احتياجات كل دولة من الطاقة المهددة بسبب القتال، ليتفق الجميع اليوم، أوروبا وأمريكا، على تعميق الأقدام الروسية في الوحل الأوكراني من خلال المزيد من الاستنزاف عبر تزويد كييف بالأسلحة المتقدمة التي ترهق الروس اقتصاديًّا وسياسيًّا، خارجيًّا وداخليًّا.
كاتب بريطاني: القرار أحد أخطر الأعمال الغبية، وربما يزيد من أمد الصراع في أوكرانيا، لكن في المقابل “هناك احتمال حقيقي أن يتحول جزء كبير من أوروبا إلى مقبرة إشعاعية”.
موسكو اليوم باتت في مأزق حقيقي، إذ تحاول فيما تبقّى من فصل الشتاء إعادة ترتيب قواتها مرة أخرى من أجل البحث عن أي انتصار يمكن الاستناد عليه مستقبلًا على طاولة المفاوضات، للخروج من هذا المأزق بشكل يحفظ هيبتها، وفي المقابل يصرّ الغرب على إنهاك روسيا بشكل كامل، في رسالة غير مباشرة لحلفاء موسكو، على رأسهم الصين وإيران، وفي محاولة لاستعادة نفوذ الناتو في الجانب الشرقي من أوروبا بعد المكاسب التي حقّقها الروس منذ عام 2014 وحتى اليوم بالسيطرة على شبه جزيرة القرم واليوم جزء كبير من إقليم الدونباس.
المزيد من التقزيم لنظام بوتين ونخبته داخل الميدان الأوكراني قد يترتّب عليه ردود فعل غير محسوبة، في ظل الخطاب الشعبوي الحاد الذي يتبنّاه إزاء الشارع الروسي، هذا ما حذّر منه الكاتب بيتر هيتشنز في مقاله المنشور بصحيفة “ديلي ميل” البريطانية، حين وصف قرار تزويد كييف بالدبابات بالخاطئ.
يرى هيتشنز أن القرار أحد أخطر الأعمال الغبية على حد قوله، منوهًا أنه ربما يزيد من أمد الصراع في أوكرانيا، لكن في المقابل “هناك احتمال حقيقي أن يتحول جزء كبير من أوروبا إلى مقبرة إشعاعية”، منتقدًا عدم معارضة النواب البريطانيين لهذه الخطوة، وتابع: “السياسة الخارجية المعقولة واللائقة هي مساعدة الأطراف على التوصُّل إلى حل وسط دائم… بدلًا من ذلك، نرسل دبابات. وكأن رجال الإطفاء هم يبدؤون في إشعال النيران”.
الحسابات السياسية هي التي تخيّم على المشهد في إدارة تلك الحرب التي تحولت إلى ورقة دعائية بيد أطرافها، جميعهم دون استثناء، بعيدًا عن أي دعاوى أخرى لا تمتّ للواقع بصلة، ليبقى المشهد على ما هو عليه، عناد روسي وإصرار غربي، حتى يرفع أي من الطرفَين الراية البيضاء، أو يُعاد إحياء الوسيط مجددًا لإنهاء المشهد دبلوماسيًّا وفق شروط قد لا يُكشف عنها علانية، لكن تداعياتها ستمتدّ إلى سنوات قادمة.