يستجمع المرء كل الصبر ليكتب بلغة مستقيمة عن “عوج” النخبة التونسية تحت الانقلاب. إنها معاناة فعلية أن يناقش المرء بديهيات، ويحاول إقناع المقتنعين بها وهم يتذاكون للهروب من واقعهم.
الجميع يقرُّ بأن الخروج من تحت الانقلاب لا يكون إلا جماعيًّا وباتفاق شامل نتيجة حوار حقيقي وصادق وشريف، لكن الجميع يختلق تهمًا لبقية شركاء/ خصوم/ أعداء يفترض أن تجمعهم طاولة حوار، وأول الغش أن الجميع يقول عن البقية شركاء، لكن باطن النية الجميع يرى الآخرين أعداء يجب دحرهم.
يقول الناس عادة إن التصريحات المتلددة أو القصووية هي أعمال/ مناورات معتادة تسبق التفاوض لوضع السقوف أو تحديد الحدود الدنيا، وتسمّى تحسين شروط التفاوض، لكن هل تملك هذه النخب رفاه الوقت لتبدأ التفاوض من هذه النقطة البعيدة.
النقد الذاتي والمراجعات عربون شجاعة
مدار الخلافات الظاهرة بين فرقاء السياسة في تونس هو تقييم عشرية الحكم الأولى بعد الثورة، قبل المرور إلى وضع تصورات وبدائل حكم لما بعد الانقلاب (وهو موضع تفاوض ثانٍ يفترض أن يُبنى على اتفاقات شجاعة للمستقبل).
لقد أُلقيت في الساحة جملة العشرية السوداء إشارة إلى السنوات العشر الأولى من حكم الثورة (وهذا تعبير مجازي فالثورة لم تحكم)، وقد خرجت الجملة من مكاتب النقابة والأحزاب المتخفية داخلها لتؤسّس عليها فكرة التصحيح التي ادّعاها الانقلاب.
وروّج الجملة كل الطيف السياسي المعادي للإسلاميين، لتكملة الجملة أو خبرها فإن الإسلاميين هم من حكم كل ما بعد الثورة، وأن كل المصائب (التي استدعت التصحيح) قد نجمت عن حكم الإسلاميين لتكون المخارج لاحقًا دون الإسلاميين. إنها جملة استئصالية بامتياز.
من ضمن الطيف الذي ردّدها ليبرر مناصرة الانقلاب، ابتعد كثير من الأسماء والشخصيات عن الانقلاب لكنهم احتفظوا بتقييم العشرية، فهي سوداء لأنها كانت تحت حكم الإسلاميين، وهؤلاء يعلنون الدعوات للحوار ولا يستنكفون عن الحديث مع الإسلاميين (حزب النهضة بالتحديد)، بشرط أن تحمل النهضة وحدها وزر الفشل السياسي والاقتصادي منذ الثورة وربما ما قبلها. من هنا يبدأ الغش والتلبيس وتغيبُ الجدّية ويفشل الحوار قبل الذهاب إلى الطاولة.
نقف الآن قريبًا من طاولة حوار ونسمع الجميع يدعو حزب النهضة إلى المراجعات، وهي تسمية مخفّفة لتحميل العبء القديم، لكن لا أحد من طالبي المراجعة ألقى حملة واحدة في المشهد تقول إن الأخطاء كانت جماعية، وأن المسؤوليات تتوزّع بمقادير، وأن العشرية لم تكن سوداء بل كانت فيها مكاسب ليس أقلها الدستور المجمَع عليه.
إن المراجعات والنقد الذاتي شجاعة سياسية لم تتوفّر لهؤلاء التائبين، لذلك نرى أن طاولة الحوار لن تنصبّ في المدى المنظور، وهذه أيام إضافية في عمر الانقلاب (هنيئًا له بمعارضيه).
غربال الانقلاب اشتغل بكفاءة
كنا كتبنا عن غربال الثورة الذي محّص الكثيرين، وقد رأينا أن غربال الانقلاب استكمل فعل غربال الثورة (دون قصد منه)، فعرّى النوايا ووزن الجميع فكشف الأحجام على الأرض. لكن فرقاء السياسة يثابرون على الغلط فيتجاهلون ما كشف الانقلاب من أوزانهم، ولذلك نراهم مصرّين على مقولات مغالطة من قبيل أن نتيجة الصندوق الانتخابي ليست كافية للحكم فالوزن الانتخابي ليس وزنًا واقعيًّا، وأن القوة في مكان آخر غير الصندوق الانتخابي.
لقد كانت هذه أكبر مغالطة وأفسد عملية غش بُنيَ عليها الحكم منذ انتخابات 2011، والأدهى أن الجميع لا يزال يردّدها ويريد أن يبني عليها توزيع الحكم والمواقع بعد الانقلاب. وإذا كان في العشرية سواد فإن هذا كان مدخله، فقد مكّنت هذه المغالطة شخصًا مثل سمير بالطيب من إدارة وزارة الفلاحة، وهو ساقط في انتخابات 2014 وقد اندثر فيها حزبه تمامًا، ويُراد الآن استعادة السلطة من الانقلاب (عبر النضال السلمي) لكن يُراد أيضًا إعادة قاعدة الحكم بالحوار المغشوش ببنائه على غير الحجم الانتخابي.
نسمع الآن أصواتًا كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر السيد غازي الشواشي الذي انسحب أو سُحب من حزب التيار ويعمل لحسابه الخاص (فرد أعزل)، يردّد على مسامعنا مطوّلات عن أخطاء حزب النهضة (الذي عليه الاعتذار وحني الرقبة)، لكنه (وأمثاله كثير) لا يجد الشجاعة السياسية ليقول على الأقل لصورته في المرآة إنه تحالفَ مع الفاشية لتخريب برلمان منتخَب، وأنه برر بل خطط للانقلاب ودعمه.
وتبلغ هذه التناقضات قمّتها عندما نجد التائبين عن نصرة الانقلاب يصرّون على تشريك النقابة في الحوارات المحتملة، وهم يسمعون النقابة كل صباح تقصيهم وتحدد وحدها من يجلس إلى الطاولة (فكل من قال إن 25 يوليو/ تموز كان انقلابًا مقصي من طاولة النقابة). في هذه اللحظة وجب شكر الانقلاب على تشغيل غربال الوزن السياسي والأخلاقي. لقد اشتغل شغل النار في المزبلة.
ماذا بعد؟
الجميع يدفع الآن فاتورة الانقلاب، وهي فاتورة قاسية على كل الفئات الاجتماعية، لكن الذين عارضوا الانقلاب بشكل مبدئي منذ الساعات الأولى في وضع أخلاقي سليم لا يقتضي الاستعجال في إنهاء الانقلاب، قبل أن يعود التائبون إلى رشدهم ويقدموا نقدًا ذاتيًّا على الأقل في نقطة واحدة هي نصرتهم للانقلاب والطمع في فيئه (لا شيء حتى الآن في سلوكهم ومواقفهم ينبئ عن عدم إسنادهم لانقلاب آخر). هذه المغالطة يجب أن تنتهي قبل الشروع في العمل على ما بعد الانقلاب.
سيقول البعض إن هذا الموقف قد يؤبّد الانقلاب الذي يصرُّ على المضيّ قدمًا في مشروعه. هنا وجب وضع ميزان شجاع والعمل به بالصبر والمطاولة للقياس بين مضارّ الانقلاب المرئية للجميع ووضع قد يعقبه ويُبنى على المغالطات المغشوشة.
في هذه الأيام نرى ونسمع حزب النهضة يمهّد للانحناء لهذه السقوف المغشوشة، بنفس مبررات قبوله بتنازلات سابقة سمحت بإعادة منظومة الفساد والاستبداد لمكاسبها ومواقعها (الحرص على المصلحة الوطنية)، وكان حرصًا من جانب واحد لم يجد شريكًا شجاعًا.
إن الحزب الأكبر في البلاد يسير منحنيًا منذ بداية الثورة، وإذا أقدم على تنازلات أخرى لأمثال غازي الشواشي (وأقول هو مثال من كثير وليس شخصًا بعينه)، فإنه ليس بعد الانحناء إلا الانبطاح، وستكون هذه الحركة تخريبًا لما بعد الانقلاب لأنها تعيد بغباء كبير تفعيل آليات الغش والتلبيس التي أدّت إلى الانقلاب.
نتوقع بيقين أن الدور الثاني من انتخابات برلمان الانقلاب سيزيد في تعرية الانقلاب وكشف وزنه في الداخل والخارج، وهي خدمة يقدّمها طائعًا لمعارضيه كأنه يمهّد لهم، لكن بيقين نقول أيضًا أن حديث الحوار المغشوش يصبّ ماءً في طاحونة الانقلاب ولو فشل اقتصاديًّا وسياسيًّا.
ونكرر للمرة الألف أن الانقلاب باقٍ بضعف معارضيه لا بقوته الذاتية. إننا نفاضل مكرهين بين درجات من الخراب، ونختم بمرارة السمّ الذي شربه سقراط: “عوج الانقلاب ولا عوج معارضيه”.