منذ أن أعلنت أنقرة رغبتها بالتواصل مع نظام الأسد وتطبيع العلاقات معه، من أجل ما تقول إنه محاولة للوصول إلى حلّ للعديد من القضايا المشترَكة بين الطرفَين، أجمع المحللون السياسيون والخبراء المهتمون بالشأن السوري أن هذه الخطوة التركية ما هي إلا حركة انتخابية من حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يجتهد لفوز مرشحه الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات المنتظرة بعد أشهر قليلة.
لطالما أعلنت بعض أحزاب المعارضة التركية في السنوات الماضية أن من أولويات برنامجها الانتخابي للوصول إلى كرسي الحكم أن تحلَّ مشكلة اللاجئين السوريين في البلاد عبر التواصل مع نظام الأسد وإعادة العلاقات معه، وكان هذا الطرح مثارًا للسخرية والانتقاد من قبل أردوغان ومسؤولي حزبه، بقولهم: “لو كان الأمر بيد كمال كليتشدار أوغلو لطلب منّا الجلوس مع الأسد على طاولة واحدة ومناقشة الأزمة السورية”.
لكن الحكومة التركية بدت وكأنها تنافس أحزاب المعارضة بما تصبو إلى تنفيذه، فبعد أن بدأت نهجًا جديدًا بالتضييق على اللاجئين السوريين، تبدّل خطاب المسؤولين الأتراك تجاه نظام الأسد، وبات الصلح مع هذا النظام حاضرًا وبدأت اللقاءات الرسمية مع مسؤوليه، حيث التقى وفد تركي يضمّ وزير الدفاع ومدير الاستخبارات بنظرائهم من النظام السوري برعاية روسية في موسكو أواخر العام الماضي.
صفر مشاكل
بدأت أنقرة اتّباع سياسة جديدة في نسج علاقاتها الإقليمية عبر تسوية الخلافات والسير على قاعدة “صفر مشاكل”، فعلى سبيل المثال أعادت التوازن لعلاقتها مع الإمارات العربية المتحدة التي شابها توتر كبير خلال السنوات الماضية، إضافة إلى تطبيع العلاقات مع السعودية، كما أن المباحثات جارية بينها وبين نظام السيسي لإعادة العلاقات، وكذلك بدأت أنقرة بتسوية خلافاتها مع “إسرائيل”، وبهذا يكون أردوغان خفّف من الجبهات الخارجية المفتوحة لكي يلتفت إلى ملفه الأهم، ألا وهو الانتخابات.
يقول الباحث في مركز الحوار السوري، محمد سالم، في هذا الخصوص: “يوجد ربط بين المشاكل الاقتصادية في تركيا والتوتر الذي يصيب العلاقات التركية الإقليمية، على سبيل المثال في ذروة العلاقة السيّئة مع السعودية تمَّ منع وصول البضائع التركية إلى السوق السعودية، وبالتالي أثّر سلبًا على التاجر التركي والسوق الاقتصادي بشكل عام”.
ويرى سالم خلال حديثه لـ”نون بوست” أنه “بناءً عليه عندما يرى الناخب التركي أن حكومته تقوم بحلّ المشاكل مع الدول الإقليمية، بما فيها نظام الأسد، وتحسين العلاقات الاقتصادية، فهذا يمكن أيضًا أن يكون ورقة لصالح أردوغان في الانتخابات المقبلة”.
لكن الصحفي التركي ليفنت كمال لا يرى، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن المصالحة أو التطبيع مع الأسد تندرج ضمن المبادرات التركية للتطبيع الإقليمي، وذلك لأن “الرئيس أردوغان يحصل على شيء ما عندما تقوم تركيا بتطبيع علاقاتها مع أي دولة في المنطقة، مثل الدعم السياسي والتمويل والصفقات التجارية.. إلخ”.
يضيف كمال: “لكن التطبيع مع الأسد لن يفيد أردوغان، حيث ما الذي يمكن أن يقدمه نظام الأسد لأنقرة؟ إنهم مترددون في حلّ سياسي ومجابهة وحدات حماية الشعب. هاتان المسألتان عاملان يؤثران بعمق على قضية اللاجئين في تركيا. الأسد المفلس اقتصاديًّا ليس لديه ما يقدمه. من هذا المنظور، فإن اللقاء مع الأسد أو المصالحة أو التطبيع ليس جزءًا من الخطة الإقليمية”.
هل التطبيع مرتبط بالانتخابات؟
إضافة إلى كلام ليفنت، يرى مراقبون أن التواصل مع نظام الأسد لا يندرج تحت البرنامج الانتخابي للرئيس أردوغان، الذي يبدو أن في جعبته ملفات كافية ليستخدمها للبقاء ولاية جديدة، لكن التواصل مع نظام الأسد في هذه المرحلة بات ضروريًّا من أجل حماية حدود بلاده الجنوبية من هجمات الوحدات الكردية، ويريد أن ينهي هذا الملف الذي طال أمده وبات يصطدم بالعديد من استراتيجيات الفاعلين الآخرين في البلاد كأمريكا وروسيا.
ثم إن مسار التطبيع التركي مع النظام ليس بتلك السلاسة الدبلوماسية كي يُنجَز خلال أشهر قليلة تسبق الانتخابات، إذ إن الواقع على الأرض إلى الآن يشير إلى صعوبة حصول تغيير حقيقي في العلاقات حتى لو بدأت اللقاءات الرسمية، إضافة إلى أن حالة الحرب والعداوة بين الطرفَين ترجع إلى 12 عامًا مضت، وشروط المفاوضات بين الطرفَين إن لم تكن صعبة فهي مستحيلة التحقيق.
كما يذكر ليفنت كمال أنه لا جدوى من ورقة التطبيع مع الأسد في إطار الانتخابات التركية خاصة لدى الرئيس أردوغان، مؤكدًا على أن ليس لدى الأسد ما يعطيه لأردوغان في هذه الانتخابات، وأن الأسد ليس لديه ما يعطيه لأنقرة بخصوص أية قضية، إن كانت قضية أو قتال وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني أيضًا.
ويضيف كمال في حديثه لـ”نون بوست” أن أنقرة تختبر قبول الأسد بالحلول السياسية بناءً على قرار 2254، مضيفًا أنه إذا أخذ نظام الأسد في الاعتبار مخاوف أنقرة بشأن وحدات حماية الشعب الكردية وأخذ إجراءات ضدها، يمكن لأردوغان أن يستفيد من ذلك انتخابيًّا، عدا عن ذلك لا يمكن أن يفيد هذا الأمر شيئًا وربما سيُخسره بعض الأصوات.
من جانبه، يجزم الباحث محمد سالم بأن التحرك التركي تجاه الأسد هو في سياق انتخابي، مؤكدًا على أن تسريع أنقرة لملف تطبيع العلاقات مع النظام جاء بعدّة دوافع، أهمها وأبرزها المحركات الداخلية في البلاد، وهي الانتخابات وقضية اللاجئين، ويبيّن سالم أن “أحد الأمور الأساسية التي ينقم بها الناخب التركي على حكومته هو قضية المهاجرين عمومًا والسوريين منهم خصوصًا، وقد بيّنت استطلاعات الرأي هذا الأمر”.
إلى ذلك، أظهرت استطلاعات رأي في تركيا تأييد فئة كبيرة من الأتراك لقاء أردوغان بالأسد، وعرضت شركة أبحاث “ميتروبول” نتائج مسح أجرته، وأظهر المسح أن نسبة الذين يريدون لقاء الطرفَين وصل إلى 59%، بينما رفض 30% اللقاء.
يوضّح سالم أن “المعارضة التركية تستغل هذا الأمر ضد الحكومة، وفي هذا السياق تضع أحزاب المعارضة حلًّا يتمثل بالاتفاق مع نظام الأسد لحل القضايا العالقة التي باتت تؤرق عددًا كبيرًا من الناس”، وبناءً عليه فإن “الحكومة عندما تقوم بنفس السياسة التي تقدمها المعارضة فهم يسحبون البساط من تحت أقدامهم، ويقولون للناخب التركي: “الحل الذي تريده المعارضة عندما تصل إلى الانتخابات نحن فعلناه بالأصل وبدأنا به””.
بالمحصلة، تسعى أنقرة أن تكون كل أهداف التقارب التركي مع النظام السوري في مصلحتها داخليًّا وخارجيًّا، فمن جهة يريد حزب العدالة والتنمية سحب كل الأوراق من يد المعارضة التي طالما نادت بورقة التطبيع مع الأسد لحلّ مشكلة اللاجئين في البلاد، وإن كانت تعلم أن الأسد لن يقدّم شيئًا على أي صعيد.
أما خارجيًّا، فبات واضحًا أن أنقرة تريد تحقيق حل في سوريا يضمن لها نفوذها في مواجهة الفاعلين الآخرين، إضافة إلى أنها تريد تحقيق أمنها القومي على حدودها الجنوبية، وهو ما يتمثّل بمنع عمليات حزب العمال الكردستاني التي تنطلق من المناطق التي يسيطر عليها في سوريا، وهذا بحدّ ذاته أحد بنود البرامج الانتخابية التي تنادي بها كل الأحزاب لحماية الأمة التركية وصون أمنها.