في الوقت الذي عرفت فيه العلاقات الفرنسية الجزائرية تطورات هامة، وتنسيقًا عالي الدرجة لم نشهده في السنوات الماضية، مسَّ عدة مجالات على رأسها الجانب الاقتصادي والأمني، فضلًا عن السياسي، تشهد العلاقات الفرنسية المغربية توترًا كبيرًا.
ورغم نفي باريس المتواصل لوجود أزمة مع الرباط، إلا أن عديد المؤشرات تؤكّد عكس ذلك، فالاتهامات المغربية لفرنسا متواصلة والحرب الإعلامية عرفت أشدّها، والتنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدَين يكاد يتوقف.
أزمة سياسية يبدو أنها ألقت بظلالها على الملف الاقتصادي، ذلك أن العديد من الشركات الفرنسية غادرت البورصة المغربية، على غرار شركة “سنترال دانون” وشركة “ليديك”، ويتوقع انسحاب أخرى في القريب بعد تراجُع التسهيلات التي كانت تستفيد منها.
اتهامات مغربية
قبل أيام قليلة، تبنّى البرلمان الأوروبي قرارًا يحثّ السلطات المغربية على احترام حرية التعبير وحرية الإعلام وتوفير محاكمات عادلة للصحفيين المسجونين، لا سيما عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين، مع المطالبة بالإفراج الفوري عنهم.
كما طالب القرار الرباط بوضع حدّ لمضايقة جميع الصحفيين في البلاد، وكذا محاميهم وعائلاتهم، ودعا الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن تصدير تكنولوجيا المراقبة إلى المغرب، بما يتماشى مع لائحة الاستخدام المزدوج للاتحاد الأوروبي، ويعدّ هذا القرار أول قرار حقوقي صادر عن البرلمان الأوروبي حول المغرب منذ 25 عامًا.
رفض البرلمان المغربي، بغرفتَيه، ما صدر عن البرلمان الأوروبي، وقرّر “إعادة النظر” في العلاقة الثنائية معه و”إخضاعها لتقييم شامل” بسبب ما اعتبره “تدخلًا أجنبيًّا” و”ابتزازًا”، وأدان أيضًا ما وُصف بـ”المحاولات الخطيرة للمساس بمصالح المغرب وصورته”.
خسارة حليف بقوة المغرب في شمال أفريقيا له أن يؤثر سلبًا على مكانة فرنسا في المنطقة وفي القارة الأفريقية ككل.
لم يكتفِ البرلمان المغربي بذلك، بل اختار أيضًا توجيه أصابع الاتهام إلى “بعض المجموعات السياسية المنتمية إلى بلد يعتبَر شريكًا تاريخيًّا للمغرب”، لم تسمِّ الرباط هذا الطرف الذي كان “موقفه سلبيًّا ولعب دورًا غير بنّاء، خلال المناقشات في البرلمان الأوروبي والمشاورات بشأن مشروع التوصية المعادي للمغرب”، إلا أنها تقصد حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (النهضة).
ويتهم المغرب -ضمنيًّا- حزب ماكرون بالوقوف وراء الانتقادات التي حملها قرار البرلمان الأوروبي ضده، وبالتالي فإنه يتهم ماكرون، ذلك أن هذا الحزب لا يتحرّك إلا وفق تصورات وأوامر الرئيس الفرنسي مباشرة.
لم يكن هذا التصعيد المغربي ليحصل لولا وجود قناعة تامة لدى الرباط بأن دوائر صنع القرار في باريس هي المحرك الأبرز للمواقف الأوروبية ضد مصالح المملكة في أوروبا، ففرنسا اعتادت توظيف المؤسسات الأوروبية لابتزاز الدول والحكومات والحفاظ على مصالحها.
بالتوازي مع هذا التصعيد الرسمي، شنّت عديد المؤسسات الإعلامية المغربية “حربًا” على فرنسا، موجّهة لباريس عديد الاتهامات، ما يؤكّد وجود إرادة سياسية لدى الرباط لتصعيد الموقف أكثر مع حليفتها الأبرز في القارة الأوروبية.
نفي فرنسي
في مقابل ذلك، اختارت باريس التخفيف من حدة الخطاب، نافية وجود أزمة دبلوماسية مع المغرب، رغم أن كل المؤشرات تؤكد عكس ذلك، وأكّدت وزارة الخارجية الفرنسية أمس الخميس على أن الشراكة الثنائية بين البلدَين “استثنائية”، وأن باريس تسعى لتنميتها.
جاء ذلك على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، آن-كلير لوجاندر، إذ قالت في مؤتمر صحفي: “على العكس من ذلك، نحن في شراكة استثنائية نعتزم تنميتها”، وذكّرت المسؤولة الفرنسية بالزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية، كاترين كولونا، إلى المغرب في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حيث قالت لوجاندر: “كانت زيارة إيجابية للغاية”.
كما شدّدت على أن زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون المقررة مبدئيًّا للمملكة المغربية خلال الربع الأول من السنة الحالية، ستكون “علامة فارقة” في العلاقات بين البلدَين، ذلك أنها ستكون مناسبة لإعادة الدفء لهذه العلاقات الثنائية.
بعد الحرب التي تقودها فرنسا إعلاميا وفي الاتحاد الأوروبي ضد مصالح المملكة المغربية اصبح من الضروري حدف الفرنسية من المغرب نهائيا و تعويضها بالإنجليزية…
لخوت رفعوا معنا اشتاق #لا_للفرنسية #نعم_للانجليزية pic.twitter.com/txaWgwjh8Y
— moorish Morocco ???? (@badre_marocco) January 26, 2023
يُفهم من هنا وجود رغبة فرنسية في عدم توتُّر العلاقات مع المغرب أكثر، حتى لا تزداد خسارتها أكثر فأكثر، فخسارة حليف بقوة المغرب في شمال أفريقيا له أن يؤثر سلبًا على مكانة فرنسا في المنطقة وفي القارة الأفريقية ككل.
وتخشى فرنسا خسارة حليف اقتصادي هامّ، إذ يستقبل المغرب أكثر من 1000 شركة فرنسية تتمتّع بأفضلية كبيرة في السوق المغربية على باقي الشركات الأجنبية، ما يجعل أرباحها كبيرة، وأي توتر أكثر في العلاقات الثنائية بين البلدَين سيعود بالسلب على هذه الشركات، وقد رأينا ذلك في انسحاب بعض الشركات الفرنسية من البورصة المغربية مؤخرًا.
ترى فرنسا في المغرب بوابة نحو السوق الأفريقية، ما يعني أن توتر العلاقات مع الرباط سيؤثر بالسلب على الوجود الفرنسي الاقتصادي في أفريقيا، خاصة في منطقة الغرب التي تنشط فيها الآلاف من الشركات الفرنسية.
وتأمل فرنسا في وضع حدّ لتدهور العلاقات مع المغرب، خاصة أن عديد القوى الدولية والإقليمية تنافسها على النفوذ في منطقة عُرفت تاريخيًّا بتبعيتها لباريس، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” وتركيا وروسيا والصين.
دور جزائري غير مباشر
تُرجع أوساط مغربية وفرنسية عديدة الجمود الحاصل في العلاقات بين البلدَين إلى مسألة التأشيرات والهجرة، لكن هذه المسألة تمَّ حلها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي خلال زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، إلى الرباط، حيث قالت كولونا حينها إن “أزمة التأشيرات قد انتهت”.
مع ذلك، الأزمة بين البلدَين متواصلة وليس هناك بوادر لحلّها في القريب العاجل، رغم حرص باريس على نفي وجود أي أزمة مع الرباط، ويُفهَم من ذلك وجود أسباب أشدّ عمقًا من مسألة التأشيرات التي تمَّ تجاوزها في وقت سابق.
يسعى المغرب للضغط على فرنسا للاعتراف بمغربية الصحراء الغربية، وذلك لانتزاع مكسب دولي جديد.
أبرز الأسباب على الطاولة الآن التقارُب الكبير بين باريس والجزائر، فالرباط تنظر بعين الريبة إلى هذا التقارُب، وشهدت العلاقات الفرنسية الجزائرية في الأشهر الأخيرة تقاربًا كبيرًا، نتيجة الخطوات الحثيثة من باريس تجاه الجزائر.
ورفعت فرنسا علاقاتها مع الجزائر رغبة في الحصول على إمدادات إضافية من الغاز نحو القارة الأوروبية، في ظلّ تراجع الإمدادات الروسية نحو القارة العجوز، وأيضًا في ظل وجود رغبة فرنسية في الاستفادة من الحضور الجزائري في منطقة الساحل والصحراء.
انسحاب فرنسا من عدة دول في منطقة الساحل، حتّم عليها التقرُّب أكثر فأكثر من الجزائر رغبة منها في حماية مصالحها المهدّدة هناك، فالعديد من الدول الإقليمية والدولية تسعى للاستحواذ على الامتيازات الكثيرة الموجودة في المنطقة.
لم يَرُق للرباط هذا التقارب بين الجزائر وفرنسا، والذي ظهر جليًّا في تبادل الزيارات الدبلوماسية على أعلى مستوى، وارتفاع التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدَين، إذ كانت تأمل في تواصل التوتر بينهما للاستفادة من ذلك.
يرى المغرب أن هذا التقارب أثّر على موقف فرنسا من ملف الصحراء الغربية، وهو ما اتضح من خلال تصريحات المسؤولين المغاربة، وفي مقدمتهم الملك محمد السادس الذي ربط مصير علاقات الرباط بالدول الأخرى بمواقفها من هذا الملف.
لماذا اليمين الفرنسي ولوبيات فرنسا الاستعمارية ومعها المحمية الفرنسية المغرب ضد أي تقارب جزائري – فرنسي ؟؟؟ pic.twitter.com/XKaEPMQOi4
— Smail_Dz54 (@smail_dzair) January 26, 2023
لم يَرِد ذكر فرنسا ضمن الدول الداعمة للمغرب في ملف الصحراء في خطاب الملك في 21 أغسطس/ آب الماضي، وقال محمد السادس في خطابه: “ننتظر من الدول التي تتبنّى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء أن توضّح مواقفها بشكل لا يقبل التأويل”.
رئيس الحكومة المغربية، عزيز أخنوش، لم يَحِد عن الخط، إذ دعا بشكل واضح قبل أسبوعَين فرنسا إلى “الخروج من المنطقة الرمادية”، معتبرًا أن باريس لا يجب أن تكتفي اليوم بلعب “دور الملاحظ”، باعتبار أن “هناك تطورات كبيرة في قضية الصحراء عقب اعتراف القوى العظمى بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية”.
ويسعى المغرب للضغط على فرنسا للاعتراف بمغربية الصحراء الغربية وذلك لانتزاع مكسب دولي جديد، بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية زمن حكم دونالد ترامب بذلك، والتحاق عديد الدول بالموقف الأمريكي على غرار إسبانيا.
لكن فرنسا تريد البقاء في هذه النقطة حتى لا تُحسب على أحد وتخسر بالتالي علاقاتها مع الجزائر أو مع المغرب، فهي تريد الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع البلدَين خدمةً لمصالحها، وهو ما يرفضه المغرب ويصرُّ على إفصاح باريس عن موقف واضح من الملف.