تقف الأراضي الفلسطينية هذه الأيام على فوهة بركان متوقع أن ينفجر بطريقة عنيفة في أي لحظة، نتيجة سلوك الحكومة الائتلافية الإسرائيلية التي يقودها بنيامين نتنياهو وتضم أحزاب “صهيونية دينية” هي الأكثر تطرفًا في تاريخ الاحتلال.
وما العملية المدويّة، والتي نفذها مساء أمس الجمعة، الشاب المقدسي خيري علقم، وأسفرت عن مقتل 7 إسرائيليين وإصابة 10 آخرين، ردًا على مقتل 10 فلسطينيين على يد قوات الاحتلال خلال اليومين الماضيين، سوى إرهاصة من إرهاصات ذلك البركان.
فقد سجل شهر يناير/كانون ثاني 2023 استشهاد 30 فلسطينيًا غالبيتهم من مدينة جنين ومخيمها الواقع شمال الضفة الغربية المحتلة، وهو معدل يومي أكثر ارتفاعًا مما سجله العام المنصرم 2022، حيث وصل عدد الشهداء إلى 230 شهيدًا، بينهم 59 طفلًا و16 امرأةً وفتاةً، من ضمنهم 170 فلسطينيًا ارتقوا بالضفة و54 في قطاع غزة، بالإضافة إلى 6 شهداء من مدن الداخل المحتل عام 1948.
وكثف الاحتلال من عمليات القتل اليومية بدم بارد عبر تغيير أوامر وقواعد إطلاق النار الموجهة لجنوده والسماح لهم بإطلاق النار دون قيود، وهو ما اعترف به الاحتلال في أكثر من مناسبة كان آخرها قتل الشهيد أحمد كحلة الذي استشهد أمام أعين أبنائه واتهمه الاحتلال بمحاولة تنفيذ عملية قبل أن يتراجع عن هذه الرواية.
في المقابل تصاعدت عمليات الاقتحام التي تنفذها جماعات يهودية واستيطانية للمسجد الأقصى المبارك منذ أن صعدت حكومة نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية التي جرت نهاية العام المنصرم، بالتزامن مع اقتراب شهر رمضان وتزامن الأعياد اليهودية معه.
نحو 3 آلاف مستوطن اقتحموا المسجد الأقصى خلال الأسابيع الأخيرة
ووثقت إحصائية إسرائيلية أن الأيام الأخيرة من شهر يناير/كانون الثاني شهدت ارتفاعًا في أعداد المستوطنين المقتحمين للأقصى بأكثر من 8%، مقارنة بذات الفترة من العام الماضي، إلى جانب تسجيل زيادة تصل إلى 7% في عدد المقتحمين للأقصى، مقارنة بالعام الماضي، هذا فضلًا عن أن نحو 3 آلاف مستوطن اقتحموا المسجد الأقصى خلال الأسابيع الأخيرة، كما شهدت زيادة قياسية تصل إلى 54% مقارنة بالفترة نفسها في العام العبري الماضي.
بالتوازي مع تسارع هذه الأحداث، صعدت المقاومة الفلسطينية من استعداداتها في قطاع غزة ومن تهديداتها إلى جانب اتصالاتها بالوساطات العربية والدولية لمنع انزلاق الأوضاع نحو مواجهة جديدة مع الاحتلال في ظل سلوكه الحاليّ.
وبحسب مصادر فصائلية تحدثت لـ”نون بوست” فإن وسطاء من ضمنهم مصر وقطر والأمم المتحدة يسعون إلى احتواء حالة التصعيد القائمة، خشية من حرب جديدة تشهدها المنطقة بين المقاومة والكيان الإسرائيلي في ظل الحكومة اليمينية المتطرفة الحاليّة.
ويتزامن الحراك الأممي والعربي، مع إعلان السلطة الفلسطينية وحركة فتح وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال والتوجه نحو مجلس الأمن لطلب الحماية الدولية، إلى جانب التوجه إلى محكمة الجنايات الدولية لرفع قضايا جديدة ضد الاحتلال.
في حين يبدو الائتلاف الحكومي الإسرائيلي القائم حاليًّا ماضيًا في تصعيده ضد الفلسطينيين على اعتبار أن اتفاق تشكيل هذه الحكومة تضمن العديد من التفاهمات المتعلقة بالقضية الفلسطينية مثل الأسرى والقدس المحتلة وضم الضفة وغيرها من الإجراءات.
الاحتلال يصعد.. ما الأهداف الإسرائيلية مما يجري؟
لا يمكن اجتزاء التصعيد الإسرائيلي الراهن عن التفاهمات التي تربط الائتلاف الحكومي الحاليّ، لا سيما أنه جاء امتدادًا لسلوك الحكومة الإسرائيلية السابقة التي كانت مناصفة بين يائير لابيد ونفتالي بينيت وشهدت هي الأخرى عمليات قتل وتصعيد.
ويمكن القول إن ثمة أهداف تسعى المنظومة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية إلى تحقيقها خلال الفترة الراهنة لعل أبرزها فرض واقع جديد في المسجد الأقصى يقوم على جعل التقسيم الزماني والمكاني أمرًا معتادًا ومتقبلًا وجزءًا من الروتين اليومي.
وهو ما يجري خلال الفترة الحاليّة عبر عمليات الاقتحام اليومي وإفراغ المسجد من مصليه أوقات الاقتحام وتقليص أعدادهم قدر المستطاع، والسماح بأداء صلوات تلمودية مثل السجود الملحمي والتعامل مع المسجد على أنه هيكل قائم إلى جانب رفع العلم الإسرائيلي بداخله بعد أن كانت شرطة الاحتلال تحظر ذلك، عدا عن السماح لوزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو إيتمار بن غفير باقتحام الأقصى.
صعود الأحزاب اليمينية تم قراءته منذ اليوم الأول فلسطينيًا على أنه سيسهم في التصعيد ضد الفلسطينيين سواء في الداخل المحتل أم تأجيج الصراع في الضفة الغربية
أما فيما يخص الضفة الغربية المحتلة، فإن حالة المقاومة القائمة هناك وتعاظم الخلايا العسكرية وانتشارها في عدة مناطق مثل جنين ونابلس وبلاطة وطولكرم والخليل بات أمرًا يؤرق الاحتلال عسكريًا وأمنيًا نتيجة فشل كل الأدوات في احتواء ما يجري وإعادة الهدوء إلى سابق عهده.
ومنذ نهاية عام 2021 لجأ الاحتلال إلى أدوات عدة لوقف العمل العسكري المقاوم في الضفة الغربية كان من أبرزها العمل العسكري والأمني عبر استهداف المقاومين والخلايا ومحاولة اعتقالهم وتفكيك هذه المجموعات وهو ما فشل فيه، ثم انتقل للعمل مع السلطة الفلسطينية عبر بوابة التنسيق الأمني من خلال السعي لتقديم عفو عن المقاومين وإغراءات مالية تدفعها السلطة للمقاومين مقابل تسليم أسلحتهم وهو ما كشف عنه في مجموعات عرين الأسود التي تنشط في محافظة نابلس.
ورغم لجوء الاحتلال لهذا الأسلوب بالتعاون مع السلطة، فإنه لم يؤتِ ثماره وفشل هو الآخر وتواصل ظهور المجموعات العسكرية المقاومة، التي بات الاحتلال يربط بينها وبين فصائل غزة وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي في محاولة لتبرير حالة الفشل في احتواء هذه الظاهرة.
أما قطاع غزة فليس ببعيد عن الأهداف الإسرائيلية في التعامل الحاليّ، إذ يطمع الاحتلال في إدامة الهدوء أطول فترة ممكنة عبر سلسلة من التسهيلات مع محاولة إنهاء ملف الجنود الأسرى بأقل ثمن ممكن وهو أمر لا يبدو سهل المنال.
الحكومة الائتلافية.. الصهيونية الدينية تسعى لتمرير برنامجها
طبقًا لمعظم التحليلات، عكست انتخابات الكنيست الرابعة والعشرين انزياحًا واضحًا للمجتمع الإسرائيلي تجاه أقصى اليمين، إذ حققت الأحزاب الدينية إنجازًا تاريخيًّا، حيث تمكنت ثلاثة منها من الحصول على 34 مقعدًا (الصهيونية الدينية وشاس ويهوديت هتوراه)، فقفزت الصهيونية الدينية من 6 مقاعد في الانتخابات السابقة إلى 14 مقعدًا، ضم تحالفها حزبي “عوتسما يهوديت” الكهاني بزعامة إيتمار بن غفير و”الصهيونية الدينية” بزعامة بتسلئيل سموتريتش وحزب “نوعم” المتشدد.
يتراوح حجم الصهيونية الدينية في الشارع الإسرائيلي ما بين 11-12%، وتضم ليبراليين متدينين وأصوليين متشددين، يجمعون بين التزمت القومي (الراديكالي والمحافظ) والتشدد الديني (الحريدي)، وربما تكون الانتخابات قد وضعت حدًا لالتباس الهوية بين الديموقراطية واليهودية، لصالح دولةٍ يهودية عنصرية وفاشية.
صعود الأحزاب اليمينية تم قراءته منذ اليوم الأول فلسطينيًا على أنه سيسهم في التصعيد ضد الفلسطينيين سواء في الداخل المحتل أم تأجيج الصراع في الضفة الغربية، وتسريع نزع الملكية (الاستيلاء والمصادرة والضم).
تضع “خطة الحسم” أمام الفلسطينيين ثلاثة خيارات: الهجرة إلى الخارج أي الترحيل أو العيش في البلاد لكن بوصفهم رعايا أقل مكانة
ورغم محاولة الأحزاب الإسرائيلية المحسوبة على الوسط واليسار إشغال هذه الحكومة داخليًا، فإن شركاء نتنياهو المحسوبين على الأحزاب اليمينية المتطرفة سوف يسعون للحصول على مزيدٍ من الامتيازات لصالح جمهورهم المتزمت والمتطرف، وسيظل هدفهم السياسي الرئيس الحفاظ على الهوية اليهودية بمعناها الديني وتعزيز الاستيطان.
“خطة الحسم” هو الاسم الذي وضعه سموتريتش شريك نتنياهو في الحكم وأحد قادة الأحزاب المتطرفة، وتنطلق هذه الخطة من الاعتقاد بأنه لا يوجد بين النهر والبحر مكان إلا لدولة واحدة هي “دولة إسرائيل” التي تستند شرعيتها على الحق الإلهي وعلى اتفاق شعوب العالم في لحظة تاريخية نادرة للمساعدة من أجل تحقيق الرؤيا وإعادة البلاد لشعب “إسرائيل”.
وتضع الخطة أمام الفلسطينيين ثلاثة خيارات: الهجرة إلى الخارج أي الترحيل أو العيش في البلاد لكن بوصفهم رعايا أقل مكانة، مذلين مهانين، ومن لا يقبل منهم بأحد الخيارين السابقين يباد ويسحق.
ومن منظور سموتريتش لا بد من حسم الصراع بعد فشل حل الدولتين، وأن على المجتمع الإسرائيلي الاستعداد، في غضون ذلك، يجب فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية وإقامة مستوطنات وتجمعات جديدة واستجلاب مئات الآلاف من اليهود للعيش فيها.
المقاومة تتأهب.. المقاومة الشاملة الحل الإستراتيجي
أمام تصاعد العدوان الإسرائيلي في فلسطين تسيطر حالة من التأهب على فصائل المقاومة والاستعداد لأكثر من جولة تصعيد هذا العام في ضوء الانتهاكات المتنوعة والمتعددة على أكثر من جبهة فلسطينية سواء في الضفة الغربية أم القدس والأقصى وحتى الداخل المحتل.
وتنادي فصائل المقاومة حاليًّا بتعزيز مفهوم المقاومة الشاملة الذي من شأنه أن يربك الساحة الإسرائيلية والمنظومة الأمنية والعسكرية للاحتلال من خلال استخدام جميع أدوات المقاومة الشعبية والعسكرية المتاحة إلى جانب الأذرع العسكرية في القطاع.
ولا تبدو الفصائل في غزة في عجلة من أمرها للدخول في مواجهة جديدة يفرضها الإسرائيليون عليها، إذ تسعى لتكرار عنصر المباغتة والحسم المبكر من خلال تنفيذ عمليات ناجحة لعل من أبرزها أسر جنود أو ضباط إسرائيليين أو السيطرة على بعض “المستوطنات” الصغيرة القريبة من غلاف غزة.
فرضية اندلاع مواجهة جديدة بين المقاومة والاحتلال تبدو أكثر حضورًا هذا العام أمام السلوك المتطرف للحكومة الإسرائيلية الحاليّة
وترغب الفصائل الفلسطينية في وضع برنامج إستراتيجي يقوم على تعزيز المقاومة الشعبية في مختلف مناطق الاحتكاك مع الاحتلال الإسرائيلي ووقف أي ارتباط أمني أو تنسيق مع الاحتلال ووقف العمل بالاتفاقيات كليًّا للتصدي للعدوان المتصاعد.
ورغم أن السلطة أعلنت أخيرًا وقف التنسيق الأمني، فإن التجارب السابقة معها تجعل هذا القرار حبرًا على ورق، إذ سبق أن صرحت بذلك عدة مرات كان أبرزها في الدورة السابعة والعشرين للمجلس المركزي لمنظمة التحرير 2015، وبقرار من اللجنة التنفيذية للمنظمة 2016، وبقرار مماثل من ذات اللجنة عام 2017، وبقرار من المجلس المركزي في الدورة الثامنة والعشرين للمنظمة في يناير/كانون الثاني 2018، وبقرار مماثل من اللجنة التنفيذية في ذات العام، وبقرار آخر من المجلس المركزي في دورته التاسعة والعشرين في أغسطس/آب 2018، وبقرار آخر من ذات المجلس عام 2019، ثم عاد المجلس المركزي في فبراير/شباط 2022 ليقرر أيضًا وقف التنسيق الأمني، غير أن الشاهد الوحيد في كل هذه القرارات أنها لم تنفذ.
السيناريوهات المتوقعة: حرب أم انتفاضة أم هبة؟!
أمام المشهد القائم يدور سؤال بين الفلسطينيين عن السيناريوهات المتوقعة خلال هذا العام الذي يبدو محملًا بالكثير من الأحداث: هل ستندلع حرب جديدة مع المقاومة في غزة أم ستندلع انتفاضة جديدة أم سنكون على موعد مع سلسلة من الهبات الشعبية؟
من الناحية العملية يستبعد الكثير من المراقبين فكرة اندلاع انتفاضة بسيناريو مماثل لما كان يحدث في الانتفاضتين الأولى والثانية أعوام 1987 و2000، لاعتبارات ميدانية وإقليمية وسياسية وعسكرية مرتبطة بتطور المقاومة الفلسطينية.
في الوقت ذاته، فإن فرضية اندلاع مواجهة جديدة بين المقاومة والاحتلال تبدو أكثر حضورًا هذا العام أمام السلوك المتطرف للحكومة الإسرائيلية الحاليّة والانتهاكات التي من شأنها أن تدفع المقاومة نحو الرد استجابة لضغوط حاضنتها الشعبية في ظل تزايد عمليات القتل والاستباحة للأقصى.
أما عن سيناريو الهبة الجماهيرية فإن هذا الاحتمال تبدو حظوظه هو الآخر قائمة وبقوة في ظل حالة الإحباط الفلسطيني المتزايد وفشل مشروع السلطة الفلسطينية وانهيار مشروع حل الدولتين بشكل كامل رغم تمسك رئيس السلطة محمود عباس به.