وسط ترحيب حار وحفاوة رسمية من النظام والإعلام المصري، رست سفينة المكتبة العائمة “لوغوس هوب” في ميناء المدينة التجارية بورسعيد، وقد أقيمت لها مراسم احتفال مهيبة، ووجدت السفينة تسهيلات وتجهيزات غير مسبوقة من النظام المصري، الذي أولى أهمية كبيرة لهذا الحادث، ونظمته أجهزة الأمن على أعلى مستوى.
كما زار السفينة محافظ بورسعيد اللواء عادل الغضبان رفقة جهازه الإداري وعدد من القيادات العسكرية والسياحية، وقدموا الهدايا والدروع التكريمية لطاقم السفينة، كذلك نظم العديد من مسؤولي وزارة التربية والتعليم رحلات طلابية من مختلف الفئات العمرية ومن محافظات البلد إلى السفينة، إضافة إلى الشركات السياحية والمكتبات العامة التي أعلنت هي الأخرى عن رحلات خاصة لزيارة السفينة.
أيضًا تم تغطية السفينة إعلاميًا بشكل بارز، حيث قامت العديد من وسائل الإعلام المصرية بالترويج والدعاية لها، وفي الواقع، فإن السفينة حظيت بحملة تسويقية كبيرة قبل حتى وصولها إلى ميناء بورسعيد، فتم الترويج لها على أنها ثورة ثقافية وعلمية وأكبر مكتبة عائمة في العالم.
خداع الواجهة.. السفينة المقدسة
تعد المعلومات المتوافرة عن تاريخ سفينة لوغوس هوب مبهمة وغير واضحة بشكل كبير، وبحسب المعلومات المعروضة في منطقة الاستقبال بالسفينة، فإن تاريخها يعود إلى عام 1970، حين بدأت أولى رحلاتها البحرية، ومنذ ذلك الوقت زارت أكثر من 480 ميناءً في 150 دولةً حول العالم، واستقبلت نحو 50 مليون زائر على متنها خلال تاريخها، وآخر إبحار لها كان في لبنان وليبيا ومصر، والآن ترسو في ميناء العقبة بالأردن، وبعدها ستبحر إلى دول الخليج العربي.
يبدأ الإشكال من اسم السفينة “لوغوس هوب” فكلمة “هوب Hope” تعني الأمل في اللغة الإنجليزية، أما كلمة لوغوس Logos، فتحمل دلالات واستعمالات مسيحية عقدية، فقد ذكرت في أسفار العهد القديم، وجاءت بمعنى “كلمة المسيح”، فمعنى اسم السفينة هو “الرجاء في اللوغوس أي الرجاء في المسيح”، بينما يقول طاقم السفينة إن معناها “كلمة الأمل” دون أن يحددوا ماهية المعنى!
ما يقوله المشرفون على السفينة هي أنها فقط “جمعية خيرية”، لكن في الواقع سفينة لوغوس هوب تابعة لطائفة مسيحية إنجيلية تدعى “Operation Mobilisation – حملة التعبئة”، مقرها ألمانيا، وتعرف اختصارًا بـOM وتمارس التبشير بشكل غير مباشر.
وحسب ما تعلن، فإنها تعمل في أنحاء العالم، ومهمتها إيصال كلمة يسوع إلى كل جيل وكل بلد، ومشاركة الإنجيل مع الأشخاص الذين لم يتعرفوا عليه بعد، إضافة إلى دعم وتشجيع الكنائس المحلية، وهذا ما حدث بالفعل في مصر، حيث زار طاقم السفينة معظم كنائس بورسعيد، وكرمت الكنائس المصرية بشكل رسمي طاقم السفينة وقدمت لهم الهدايا التذكارية.
وحسب ما أوضح المدير التنفيذي للمنظمة المسيحية OM سيلان جوفندر – Seelan Govender، فإنهم يستخدمون السفن – مثل لوغوس هوب وأخواتها – لتحقيق أهدافهم، إذ يعتبرون السفن نوعًا من الكنائس لأنهم يقومون فيها بمهمة إيمانية.
في الواقع، لا أحد من القائمين على السفينة يتحدث عن حقيقة هويتها وأجندتها، أو حتى التصريح بأن معظم كتبها مسيحية، فلماذا أصلًا لا تعلن السفينة عن نفسها بأنها مكتبة دينية مسيحية؟ هل تتخذ من شعار التبادل الثقافي وسيلة للتغطية على هذا الأمر؟ فمعظم القائمين في السفينة يفتخرون بأنها تحتوي على 5 آلاف كتاب، يقولون “5 آلاف كتاب متنوع” في تجاهل تام للإفصاح الصريح عن تصنيفات هذه الكتب.
يدرك القائمون على السفينة أنه لو جرى الإفصاح عن هويتها الحقيقية، فإن الناس لن يذهبوا لزيارتها، لذا حرصوا على إخفاء هويتها، بل وعدم ذكر اسم المنظمة التي تنتمي إليها، فحجبوا اسمها من لوحات التعريفات الموجودة داخل السفينة!
وهذا في الواقع مكمن الإشكال الذي يجب أن يثار حول السفينة وليس عن كونها تمارس أنشطة تبشيرية وتتبع منظمة مسيحية أم لا، السؤال هنا: لماذا تتعمد إخفاء هويتها وعدم ذكر اسم المنظمة التابعة لها؟ لماذا لا تشير إلى الكتب ذات المحتوى المسيحي، كما أشارت إلى الكتب العلمية والقواميس القليلة جدًا التي لا تتعدي في الواقع الـ20 عنوانًا، ومعظمها أصلًا موجود في دور النشر المصرية؟! واللافت حقيقة، أن الكتب المسيحة الموجودة داخل السفينة تروج لمذهب عقدي محدد!
يعمل على متن السفينة 400 متطوع، تتراوح أعمار معظمهم بين العشرينيات والثلاثينيات، ومعظمهم من دول شرق آسيا وإفريقيا وأوروبا، وبعضهم يأتون مع عائلاتهم بسبب أن مدة التطوع قد تصل إلى سنتين، وبحسب أحد من طاقم السفينة فإن لديهم مدرسة ونظام تعليمي ديني وكنيسة داخل السفينة، ولديهم إجازة أسبوعية تكون يوم الأحد.
يصف القائمون على السفينة بأنها تحمل رسالة سلام إلى الجميع وتبحر في مهمة إنسانية نادرة، من أجل نشر المعرفة والتشجيع على القراءة ومساعدة الناس وتعزيز العلاقات وتبادل الثقافات بين شعوب العالم، ورغم هذا الكلام البراق، غير مسموح للمسلمين بالتطوع في السفينة، فتنص استمارة التطوع بالسفينة على أن يكون المتطوع يدين بالمسيحية! هذا شرط رئيسي ومصرح به بشكل رسمي في استمارة التطوع، ما يعني أن الـ400 متطوع الذين تفتخر بهم السفينة على أنهم من مختلف الجنسيات هم من ديانة واحدة!
استعراض ثقافي كاذب
من اللافت أن وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية في الدولة المصرية قامت بالدعاية المضللة والتعتيم على حقيقة هذه السفينة، وتم تقديمها إلى المجتمع المصري بخلاف ما هي عليه في الواقع، فلم يتم الإشارة إلى تبعية السفينة لمؤسسة مسيحية، ولا حتى ذكر محتويات مكتبة السفينة رغم وجود العديد من المراسلين والصحفيين داخل السفينة!
لكن ما حدث هو تضخيم كاذب للسفينة وتصويرها على أنها كنز ثقافي يحمل آلاف الكتب النادرة في شتى المعارف والمجالات العلمية، ليصطدم الزائر بعد ذلك بأن محتواها لم يكن بحجم هذه البروباغندا، وأن هناك صورة أخرى لم يتكلم الإعلام عنها.
فالسفينة ليست أصلًا عبارة عن مكتبة كما تم تصويرها في معظم الإعلانات! فلا يوجد بها مكان لمطالعة الكتب، هي مجرد مكان لبيع الكتب فقط، مع العلم أنه لا يوجد بها 50 ألف عنوان كتاب كما نشرت معظم الجهات ووسائل الإعلام الرسمية في الدولة! ولا يوجد بها حتى كتب في مختلف المعارف العلمية والأدبية والفكرية كما زعموا!
فلا توجد كتب في الأدب العالمي أو السياسة أو الاقتصاد أو المجالات العلمية، وهذا بطبيعة الحال كونها سفينة مسيحية، وبالتالي تكون أي تصنيفات أخرى محدودة جدًا، كما أنه من اللافت وجود الرموز والآيات المسيحية الموضوعة على الهدايا التذكارية مثل الحقائب والأكواب والأقلام والميداليات والأساور.
والجولة بداخل السفينة محدودة جدًا لا تتعدى الـ15 دقيقة، في الواقع مساحة السفينة لا تتعدى مساحة مكتبة صغيرة من مكتبات القاهرة، مع العلم أن الكتب في نصف طابق واحد فقط، والطوابق الأخرى لطاقم السفينة، وهذا في الواقع عكس ما تم الإعلان عنه، فقد تمت الإشارة في الإعلانات إلى وجود طوابق من الكتب! ونشرت صور مضللة تبرز ضخامة الكتب! وبجانب ذلك، قام المشرفون بالسفينة بفرض ممرات إجبارية للحركة بداخل السفينة نفسها! ما يجعل الجولة داخلها غير مرنة، ولا تأخذ سوى دقائق معدودة.
في الحقيقة، عملت السفينة تحت مسميات وأساليب مختلفة من أجل الوصول إلى أغراض معينة، وبالأخص استغلال شعار أو ستار “تقاسم المعرفة”، فعلى الرغم من أن السفينة موجهة للقارئ العربي، فإن غالبية كتبها باللغة الإنجليزية وحتى الكتب الدراسية منها قديمة جدًا، – ما يزيد على 90% كتب إنجليزية – ولا توجد كتب عربية سوى نسخ كثيرة جدًا من الأناجيل وكتب عن الديانة المسيحية وعن التربية من منظور مسيحي، وكتب عن الطبخ والصحة والجمال.
كما يلاحظ تركيز السفينة بشكل كبير جدًا على الأطفال، حيث توجد أناجيل خاصة بالأطفال مع تفسير مبسط، إضافة لمئات العناوين من الكتب المسيحية والمصنفة بالأعمار، سواء بالعربية أم الإنجليزية، وهي عبارة عن قصص مصورة تقدم المنظور المسيحي للحياة والإيمان.
بجانب وجود أنشطة خاصة أيضًا بالأطفال تقوم بها امرأة مصرية مسيحية، حيث تأخذ الأطفال في ركن مسيحي بالسفينة يسمي “رحلة الحياة” به رسومات وصور معلقة على جدار السفينة، وتشرح المرأة من خلال هذه الصور قصة طفل فقد المعنى وضل طريقه في الحياة، لكنه في نهاية القصة اهتدى عندما تعرف على المسيح.
واللافت أن هذه المرأة التي تشرح القصة للأطفال ليست من طاقم السفينة الأساسي، أي أنها ليست من متطوعي السفينة، فلا يوجد على متنها متطوعون مصريون أو عرب!
وعلى الرغم من أن السفينة تذكر بأنها غير ربحية، فإن هناك رسومًا لدخولها، وبحسب أحد مشرفي السفينة، فقد زارها في مصر فقط ما يزيد على 100 ألف شخص، ما يعني أنها جمعت في أسبوعين، نصف مليون جنيه من تذاكر الدخول فقط، بجانب أرباح الكافيتريا والمطعم الموجودة داخل السفينة! التي تقدم المشروبات ووجبات الطعام الخفيفة، إضافة إلى أن أسعار الكتب ليست رمزية أو مخفضة على الإطلاق كما زعموا – طبقًا للقارئ المصري -، حيث تتراوح متوسط الأسعار الفعلية بين 200 – 500 جنيه، والحد الأدنى لسعر الكتاب 60 جنيهًا.
وبحسب إحصاءات السفينة فإن 9 ملايين زائر في آخر تسع سنوات اشتروا أكثر من 10 ملايين كتاب في 74 دولة، وهو ما يدل في الواقع على أن السفينة تجني أرباحًا أيضًا من عملية بيع الكتب، إضافة إلى وجود دعم وتبرعات من المنظمات المجتمعية والأفراد، ولا بد من الإشارة إلى أن الداعمين للسفينة غالبيتهم من الكنائس والمؤسسات الإنجيلية البروتستانتية في أمريكا وكندا، وغالبية كتبها تأتي من هناك، بجانب أن السفينة معفاة من الرسوم في الموانئ المستضيفة، وفي بعض الحالات تكون الرسوم مخفضة بشكل كبير.
في الواقع، الشعب المصري ليس غبيًا، ومعظم من زار السفينة أدرك الخداع والدعاية الكاذبة، وأصيب بخيبة التوقعات! وفي حين تحتاج الشعوب العربية إلى التعرف على النتاج الفكري والعلمي الذي جادت به قرائح المبدعين حول العالم، والمشاركة في التبادل الثقافي الحقيقي بين الشعوب، تتستر سفينة لوغوس هوب بستار المعرفة والثقافة، لتنشر أجندتها التي لا ترتقي في الواقع إلى ثقافة ولا إلى معرفة، فلا توجد معرفة تتخذ من التمويه والخداع هدفًا لنشر أجندتها!