يستهل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، جولته للشرق الأوسط اليوم 29 يناير/كانون الثاني 2023 بزيارة القاهرة، قبل التوجه إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمن مساعي واشنطن للتهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ظل التصعيد الأخير عقب عملية “النبي يعقوب” شمالي القدس، الجمعة 27 يناير/كانون الثاني 2023، التي أسفرت عن مقتل 7 إسرائيليين وإصابة العشرات بجروح، وجاءت ردًا على عملية جنين التي أدت إلى ارتقاء 9 فلسطينيين.
البيان الصادر عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، أوضح أن الجولة تهدف إلى التشاور مع الشركاء المعنيين بشأن “مجموعة من الأولويات الدولية والإقليمية بما في ذلك الغزو الروسي لأوكرانيا، وملف إيران، والعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، والحفاظ على حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
الزيارة تأتي بالتزامن مع تصعيد إسرائيلي محتمل من حكومة نتنياهو المتطرفة التي تلقت ضربة موجعة بعمليتي القدس خلال الساعات الماضية، حيث تكبدت خسائر لم تتكبدها منذ سنوات، فيما مثلت العملية نقلة نوعية في مسار المقاومة الفردية غير التنظيمية، وداخل العمق الإسرائيلي، وهو ما يضع أمن دولة الاحتلال على المحك، بما يزيد سهام النقد للحكومة الإسرائيلية الجديدة التي كان شعارها الأول المزيد من الأمن وتقليل عمليات الاستهداف الداخلي.
سيحاول بلينكن من خلال شركائه الإقليميين وعلى رأسهم القاهرة وعمان وأبو ظبي والدوحة احتواء الموقف قبل التصعيد الذي قد يشعل المنطقة بأسرها، في وقت يعاني فيه العالم من أزمات طاحنة وليس بحاجة إلى جبهات قتال جديدة، فهل ينجح وزير الخارجية الأمريكية في تلك المهمة الصعبة؟
منفذ #عملية_القدس #خيري_علقم من بين ما كتب على حسابه على فيسبوك :
القناص الصحيح ، في المكان المناسب ، خير من ألف جندي في ساحة المعركة . pic.twitter.com/kBbamjrxDm— جابر الحرمي (@jaberalharmi) January 27, 2023
لقاءات معتادة وغياب بايدن تساؤل
البيان الصادر عن الخارجية الأمريكية أشار إلى أن بلينكن سيناقش في تل أبيب مع المسؤولين الإسرائيليين “الدعم الأمريكي الدائم لأمن “إسرائيل”، خاصة في وجه التهديدات الإيرانية والتكامل الإسرائيلي المتزايد في المنطقة والعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية وأهمية حل الدولتين، بالإضافة إلى مجموعة من المواضيع الدولية والإقليمية”.
أما في رام الله وخلال لقائه المتوقع مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “أبو مازن”، فسيناقش الوزير الأمريكي “العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية وأهمية حل الدولتين والإصلاحات السياسية وتعزيز العلاقات الإسرائيلية مع الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية”، فيما سيشدد بلينكن في اجتماعاته مع القادة الإسرائيليين والفلسطينيين “على الحاجة الملحة إلى أن يتخذ الطرفان خطوات للتخفيف من حدة التوترات بغرض وضع حد لدائرة العنف التي أودت بحياة الكثير من الأبرياء”.
الزيارة تعد تقليدية بالنسبة لبلينكن الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، فقد زار دولة الاحتلال أكثر من مرة خلال فترات عمله السابقة، لكنها الأولى له منذ عودة نتنياهو للسلطة مرة أخرى على رأس حكومة يمينية متطرفة كان عليها الكثير من التحفظات، حتى من داخل الولايات المتحدة الحليف الأبرز لـ”إسرائيل”.
عمليتا “النبي يعقوب” و”سلوان” أثارت حفيظة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بشكل دفعها لاتخاذ بعض القرارات الانتقامية الأولية تمهيدًا لتصعيد محتمل ربما يكون الأشرس إن لم يتم احتواؤه قبل فوات الأوان
وأثار عدم حضور الرئيس جو بايدن بنفسه علامة استفهام لدى البعض، خاصة في ظل تلك الوضعية الحرجة التي تنذر بانفجار محتمل في المنطقة، إلا أن محللين أرجعوا ذلك إلى ازدحام جدول أعمال الرئيس الأمريكي ومن ثم كان الدفع بوزير خارجيته الذي تربطه علاقات أفضل نسبيًا – مقارنة بتلك التي تربط بايدن – مع نتنياهو.
يذكر أن زيارة بلينكن قد استبقها مدير وكالة المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) وليام بيرنز، بزيارة سرية إلى “إسرائيل” تجول خلالها في الضفة الغربية المحتلة، بهدف التمهيد لجولة وزير الخارجية الأمريكية التي تأتي بعد أسبوع فقط من زيارة مماثلة لمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، التقى خلالها بكل من رئيس حكومة الاحتلال ووزير الأمن يوآف غالانت ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، بجانب لقائه برئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن.
تصعيد محتمل
عمليتا “النبي يعقوب” و”سلوان” أثارت حفيظة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بشكل دفعها لاتخاذ بعض القرارات الانتقامية الأولية تمهيدًا لتصعيد محتمل ربما يكون الأشرس إن لم يتم احتواءه قبل فوات الأوان، حيث قرر المجلس الأمني المصغر (الكابينت) خلال اجتماعه العاجل أمس حزمة قرارات عنصرية بحق الفلسطينيين، من بينها تسريع إجراءات هدم وإغلاق بيوت منفذي العمليات الفدائية، وبعد دقائق من القرار أغلق منزل عائلة منفذ عملية “النبي يعقوب” خيري علقم.
كذلك تم تبني خطة عاجلة لتكثيف الاستيطان الصهيوني وتعزيزه في الضفة الغربية المحتلة، والإسراع بسن بعض التشريعات والقوانين التي تسمح لسلطات الاحتلال بطرد عوائل المقاومة من القدس المحتلة وأراضي الضفة الغربية، كذلك المتورطين في أي أعمال تستهدف الأمن الإسرائيلي.
ووفق إعلام عبري فإن جيش الاحتلال بدأ بتعزيزات أمنية مكثفة في الضفة الغربية المحتلة، حيث ارتفع عدد الجنود والمدرعات وحجم ومستوى السلاح، كما استجاب نتنياهو لطلب توسيع المعايير التي تجيز منح رخص لحمل السلاح للمستوطنين للدفاع به عن أنفسهم عند خروجهم من البيت، فيما قرر المجلس الأمني المصغر فحص مسألة إلغاء مخصصات التأمين الوطني من عائلات منفذي العمليات إذا كانوا من سكان القدس، ومن المتوقع أن يتم تنفيذ تلك القرارات العاجلة بعد انتهاء جولة بلينكن تحسبًا لأي ردود فعل سلبية.
لا شك أن نتنياهو لن يكتفي بتلك الإجراءات دون غيرها، فالضربة التي تعرضت لها حكومته التي تعاني من انتقادات شعبية حادة وتظاهرات عارمة تغطي شوارع تل أبيب، سيكون لها ارتدادتها العكسية على مستقبلها السياسي خاصة بعد تحميلها مسؤولية تردي الوضع الأمني.
وسيحاول نتنياهو وأذرعه المتطرفة العمل على توظيف المشهد لصالحهم سياسيًا من خلال التصعيد ضد الفلسطينيين على أكثر من مسار، مغازلًا الشارع الإسرائيلي والتيار اليميني المتطرف تحديدًا، بما يخفف الضغط عليه نسبيًا ويحول دفة الرأي العام من انتقاد الحكومة إلى دعمها في تصعيدها ضد الشعب الفلسطيني، وتلك الإستراتيجية طالما لجأ إليها نتنياهو خلال ولايات حكمه السابقة.
وزير الأمن القومي الإسرائيلي #بن_غفير يتوعد الفلسطينيين بالإعدام وهدم المنازل!#الجزيرة_مباشر #فلسطين pic.twitter.com/DF046Snmwv
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) January 28, 2023
كبح جماح نتنياهو
التهديدات الإسرائيلية قوبلت هي الأخرى بتوعد فلسطيني، وإعلان حالة الاستعداد القصوى للتعامل مع أي تصعيد محتمل من قوات الاحتلال، إذ أكدت كل البيانات الصادرة عن حركات المقاومة على الرد القاسي على أي استفزازات إسرائيلية، وهو ما ينذر بانفجار مرتقب.
وربما تأتي جولة بيلنكن للضغط على نتنياهو “حتى لا يقوم بأشياء مجنونة” كما قال المسؤول السابق بوزارة الخارجية وبلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ والأستاذ بالجامعة الأمريكية غريغوري أفتانديليان، الذي يرى أن وزير الخارجية الأمريكي قد يبحث مع نتنياهو “مسألة كبح جماح وزرائه اليمينيين المتطرفين مثل إيتمار بن غفير، من اتخاذ خطوات أكثر استفزازًا” وفق تصريحاته لـ”الجزيرة”.
من الصعب التكهن بمدى قدرة بلينكن على إقناع الجانب الإسرائيلي بعدم التصعيد في ظل الجرح الذي أحدثته عملية القدس الأخيرة، العملية التي وضعت قوة جيش الاحتلال ومنظومته الأمنية والاستخباراتية على المحك
ويرى أفتانديليان أن زيارة وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، المتطرف بن غفير، المثيرة للجدل إلى المسجد الأقصى “لم تثر الغضب الفلسطيني فحسب، بل أعاقت الجهود المبذولة لحمل المملكة السعودية على الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية”، معتبرًا أن بلينكن يدرك أن جهود إحياء عملية السلام في ظل تلك الظروف مسألة بعيدة المنال، “لكنه ربما يأمل في بذل بعض الجهود لتحسين نوعية حياة الفلسطينيين من أجل درء انتفاضة أخرى”.
وفي سياق الضغط على نتنياهو يرى مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط، السفير ديفيد ماك، أن بلينكن سيوضح لرئيس حكومة الاحتلال أن “إدارة بايدن تدرك على أعلى مستوياتها ما يحدث داخل مجلسه الوزاري”، وأنه على نتنياهو الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه لأمريكا، الحليف الإستراتيجي الأول لـ”إسرائيل”، بعدم التصعيد وإشعال المنطقة، وكبح جماح الوزراء المتطرفين داخل الحكومة، مضيفًا “عندما يتعلق الأمر بمصالح الأمن القومي الإسرائيلي مثل ردع تحركات إيران وحزب الله، فلن تحصل “إسرائيل” على أي مساعدة من بن غفير وسموتريتش وأرييه درعي، بل ستحصل عليها من واشنطن”.
رئيس وزراء #إسرائيل بنيامين #نتنياهو : الحكومة لا تبحث عن تصعيد لكننا جاهزون لأي سيناريو pic.twitter.com/lmNtrNGCYk
— ا لـحـدث (@AlHadath) January 29, 2023
هل ينجح في المهمة؟
من الصعب التكهن بمدى قدرة بلينكن على إقناع الجانب الإسرائيلي بعدم التصعيد في ظل الجرح الذي أحدثته عملية القدس الأخيرة، العملية التي وضعت قوة جيش الاحتلال ومنظومته الأمنية والاستخباراتية على المحك بعدما نجح شاب بمفرده في اختراقها بتلك الطريقة رغم التشديدات الأمنية، وعلى الجانب الآخر فإنه من الصعب إقناع الفلسطينيين بوقف عمليات المقاومة في حال الاستفزاز الإسرائيلي، خاصة أن تلك العمليات فردية وغير تنظيمية وبالتالي من الصعب السيطرة عليها كونها غير خاضعة للقرارات الفوقية.
التهديد الإسرائيلي بالانتقام والتلويح الفلسطيني بالرد، يصعبان من مهمة وزير الخارجية الأمريكي، الذي يبدو أنه بحاجة ماسة لتدخل حلفاء تل أبيب الإقليميين، القاهرة وأبو ظبي على وجه التحديد، لما تربطهما من علاقات قوية بنتنياهو، مع وساطات أخرى قد تدخل على خط الأزمة كالدوحة وعمان وربما الرياض، وهو ما تشير مصادر إعلامية إلى حدوثه بالفعل قبيل الزيارة.
المرجح أن نتنياهو سيثأر أولًا لكرامة حكومته المهدرة على أقدام الشاب الشهيد خيري علقم الذي لم يتجاوز عمره 21 عامًا، مدافعًا عن مستقبله السياسي وسمعته الداخلية والخارجية، إيمانًا منه أنه لو لم يرد فإن مستقبل حكومته سيكون على المحك، في ظل الانتقادات الحادة التي تتعرض لها على مستوى الشارع، لكن هناك معضلة قد يجد فيها رئيس حكومة الاحتلال نفسه تتعلق بخصمه هذه المرة، ففي المرات السابقة كان يستهدف حماس في غزة، ويصعد في جنين ضد مسلحين ينتمون لحركات مقاومة معروفة، لكنه اليوم أمام شاب لا علاقة له بأي تنظيمات حتى يتم الرد عليها.
وعليه فإن طبيعة الرد وآلياته ومستواه هو من سيحدد ملامح المشهد العام خلال الأيام المقبلة، وما إذا كان الأمر سيقتصر على القرارات العنصرية والتهجير الممنهج للفلسطينيين في الضفة والقدس وغيرهما، أم سيلجأ إلى سياسة “الأرض المحروقة”، التي اعتادها لسحب الأضواء، وهنا قد تشهد الأراضي الفلسطينية انتفاضة جديدة، ربما تحقق هدف نتنياهو مؤقتًا لكنها في المجمل ستهدد مستقبله السياسي في ظل عدم استعداد كل الأطراف الإقليمية والدولية للدخول في معركة جديدة.. فهل يستطيع بلينكن وحلفاؤه كبح نتنياهو عن أي تصعيد عسكري قد يشعل المنطقة؟