أصدرت منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” يوم الجمعة 27 يناير/كانون الثاني تقريرًا خاصًا عن مجزرة مدينة دوما بريف دمشق التي حصلت في أبريل/نيسان 2018، وأكد تقرير المنظمة الأممية أن القوات الجوية التابعة للنظام السوري هي التي ارتكبت الهجوم الكيماوي على المدينة، وجاء في التقرير أن فريق التحقيق التابع للمنظمة استند في استنتاجه إلى “التقييم الشامل للأدلة المتعددة ماديًا والمختلفة الجوانب” التي جمعتها وحللتها المنظمة.
خلص التقرير إلى أن طائرة واحدة على الأقل من نوع هليكوبتر أسقطت أسطوانتين تحتويان على غاز الكلور السام على مبنيين سكنيين في منطقة مأهولة بالسكان المدنيين بدوما، ما أسفر عن مقتل 43 فردًا وإصابة عشرات آخرين، يذكر أن الطائرة تتبع للفرقة 25 التي يقودها الضابط في جيش النظام سهيل الحسن أو ما يدعى بـ”النمر”.
وقال المدير العام لمنظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” فرناندو أرياس، إن استخدام الأسلحة الكيماوية في دوما، أو في أي مكان غير مقبول وخرق للقانون الدولي.
أرياس ترك الكرة في ملعب المجتمع الدولي بقوله: “العالم يعرف الآن الحقائق، والأمر متروك للمجتمع الدولي لاتخاذ الإجراءات، في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية وخارجها”، واعتمد الفريق الدولي العامل بالقضية على تقييم الأدلة المادية التي جمعها وقدمها خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والدول الأطراف والكيانات الأخرى.
تتضمن الأدلة 70 عينة بيئية وطبية حيوية و66 إفادة لشهود عيان، إضافة إلى تحليل الطب الشرعي وصور الأقمار الصناعية ونمذجة تشتت الغاز.
إشارة إلى روسيا
فند التقرير الصادر في 139 صفحة كل الأكاذيب التي حيكت عن هذا الهجوم، حيث حاولت روسيا والنظام السوري تضليل التحقيقات والكذب بشأن ما حصل في دوما، كما اتهما المعارضة بفبركة هذا الهجوم، إضافة إلى ذلك عمل النظام وموسكو على عرقلة تحقيق منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ووصول مفتشيها إلى المكان.
في الشهر الأخير من العام الماضي قالت ممثلة شؤون نزع السلاح الكيماوي في سوريا إيزومي ناكاميتسو إن النظام السوري يواصل عرقلة تحقيقات المنظمة عبر رفضه التعاون الكامل معها، وذكرت ناكاميتسو، في إحاطتها الشهرية أمام مجلس الأمن الدولي، أنه منذ آخر اجتماع للمجلس “لم يتم إحراز أي تقدم فيما يتعلق بجهود فريق تقييم إعلان منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتوضيح جميع القضايا العالقة المتعلقة بالإعلان الأولي والإعلانات اللاحقة للجمهورية العربية السورية”.
أوضحت ناكاميتسو أنها “تؤكد كل شهر، منذ سنوات عديدة حتى الآن، أن استمرار التناقضات التي لم يتم حلها تعني أن النظام السوري خارج الامتثال”.
ولأول مرة يشير تقرير لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية إلى تورط روسي في هجوم كيماوي، حيث أشارت المنظمة إلى ارتباط الفرقة 25 التابعة لجيش النظام بروسيا، كما أوضحت وجود قوات روسية وبحسب التقرير فإن المعلومات الموثوقة التي تم تأكيدها، تفيد بأن القوات الروسية كانت مشتركة في موقع قاعدة الضمير الجوية إلى جانب قوات النظام السوري والقاعدة هي التي انطلقت منها الطائرة المحملة بالسلاح الكيماوي إلى جانب قوات النمر.
يذكر أن موسكو تهاجم المنظمة دائمًا وتتهمها بالعمل ضد “الحكومة السورية”، وفي أحد اجتماعات الأمم المتحدة اتهم نائب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة، دميتري بولانسكي، محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بأنهم “عديمو الضمير” زاعمًا أنهم استخدموا التزوير والتلاعب لإلقاء اللوم على سوريا، ووصف هيئة الرقابة الكيماوية بأنها “مريضة للغاية بالتسييس”.
في 2019 أصدرت المنظمة تقريرًا، أكدت فيه استخدام مادة “الكلور” خلال هجوم على مدينة دوما، بحسب العينات الطبية والبيئية التي حصلت عليها البعثة خلال تفتيشها للمنطقة المستهدفة، دون تحديد الطرف المسؤول عن الهجوم، وفي يوليو/تموز 2021 كشفت المنظمة، أن النظام السوري دمر اثنتين من أسطوانات الغاز السام، التي استخدمت في أثناء الهجوم الكيماوي على دوما، وتعد الأسطوانتان الدليل الأكبر على هذا الهجوم.
وقالت المنظمة إن النظام نقل أسطوانتي الغاز، على الرغم من تحذير منظمة حظر الأسلحة بالمساس أو فتح أو نقل أو تغيير الحاويات أو محتوياتها أو نقلها خارج أراضيها، بأي شكل من الأشكال دون الحصول على موافقة خطية مسبقة من الأمانة العامة للمنظمة، وادعى النظام أن الأسطوانتين دُمرتا، إثر غارة جوية إسرائيلية على نفق كان مغلقًا تحت الأرض سابقًا في منشأة يشتبه أنها تحوي أسلحة كيماوية.
منظمة حظر الأسلحة الكيميائية هي الهيئة المنفذة لاتفاقية الأسلحة الكيميائية التي دخلت حيز النفاذ في 29 أبريل/نيسان 1997، وتشرف المنظمة بدولها الأعضاء البالغ عددها 193 دولة على المسعى العالمي لإزالة الأسلحة الكيميائية بشكل دائم.
يتمحور الهدف الأساسي للمنظمة بتطبيق بنود “اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية” التي تهدف بشكل أساسي إلى إزالة فئة كاملة من أسلحة الدمار الشامل من خلال حظر استحداث وإنتاج وحيازة وتخزين الأسلحة الكيميائية والاحتفاظ بها، أو نقلها أو استعمالها من جانب الدول الأطراف.
كما تُلزم هذه الاتفاقية الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحظر فيما يتعلق بالأشخاص (الطبيعيين أو الاعتباريين) في إطار ولايتها القضائية، وكان النظام السوري قد وقّع على الانضمام لهذه الاتفاقية الدولية بعد أن ارتكب مجزرة الغوطتين اللتين استخدم فيهما الأسلحة الكيميائية وأدى لمقتل نحو 1500 شخص، تتكوّن منهجية عمل المنظمة من عدة مراحل للتعامل مع أي هجومٍ كيميائي مزعوم، حيث تعتمد آليات تحقق صارمة قبل إصدار أي تقرير.
ردود فعل
أكدت وزارة الخارجية الأمريكية على أن عقوبات “قانون قيصر” لا تزال سارية المفعول بالكامل، مشددة على محاسبة نظام الأسد على أفعاله ضد الشعب السوري، وقال نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فيدانت باتل، عقب صدور تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، إن الولايات المتحدة “ستواصل محاسبة الأسد ونظامه على فظائعهم ضد الشعب السوري”.
بدورها شددت الناطقة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، أدريان واتسن، على أن التقارير “الحيادية والموضوعية” لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية “أكدت شيئًا واحدًا، وهو أنه لا يمكن أن يكون هناك إفلات من العقاب لأولئك الذين يستخدمون الأسلحة الكيميائية”، وأكدت المسؤولة الأمريكية على “التزام الولايات المتحدة بمحاسبة نظام الأسد على انتهاكات مثل هذا الهجوم الهمجي ضد شعبه”.
أما مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، فقد أصدر بيانًا أوضح فيه إدانة الاتحاد الأوروبي بشدة استخدام جيش النظام السوري للأسلحة الكيميائية، مشيرًا إلى أن “نتائج التقرير تؤكد الإخفاق المنهجي للنظام السوري في الامتثال لالتزاماته بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية، وقرار مجلس الأمن 2118”.
وشدد بيان مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي على أن “أولئك الذين تم تحديدهم كمسؤولين عن هذه الأعمال المشينة يجب أن يحاسبوا، وسيحاسبون”، مؤكدًا أنه “سيواصل العمل على المستويين الوطني والدولي للتصدي للهجمات بالأسلحة الكيميائية، وغيرها من الجرائم الفظيعة التي يرتكبها النظام السوري”.
وفي بيان لافت من الخارجية التركية، فقد أكدت أنقرة دعمها محاسبة النظام السوري، بعد صدور تقرير منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”، وقالت وزارة الخارجية التركية: “في تقريره الثالث، قرر فريق التحقيق والكشف في منظمة “حظر الأسلحة الكيميائية” (KSYT)، الذي تم تشكيله لتحديد الأطراف التي تستخدم الأسلحة الكيماوية في سوريا، أن هجوم غاز الكلور الذي وقع في دوما يوم 7 نيسان 2018 نفذه النظام”، وأضاف البيان “مع الكشف عن أن النظام مسؤول عن الهجوم بالأسلحة الكيماوية، ستواصل تركيا دعم الجهود الرامية إلى ضمان محاسبة النظام السوري، لا سيما الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية”.
البيان الأبرز والأشد لهجة كان من قطر التي عبرت عن دعمها الكامل لتقرير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية الأخير وقالت وزارة الخارجية القطرية إن دولة قطر “تعرب عن دعمها الكامل للجهود الدولية الرامية إلى محاسبة النظام السوري على جرائمه المروّعة بحق الشعب السوري الشقيق، بما في ذلك استخدامه للأسلحة الكيماوية في مدينة دوما بالغوطة الشرقية في شهر نيسان عام 2018، وضمان تقديم مجرمي الحرب في سوريا إلى العدالة الدولية”.
وأكدت الخارجية القطرية في بيانها “أن تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الأخير، الذي خلص إلى مسؤولية النظام السوري عن الهجوم الشنيع على مدينة دوما، يكشف للعالم مجدّدًا بشاعة ووحشية هذا النظام عديم الضمير والإنسانية”، ولفتت إلى أن النظام “ما زال مستمرًا في سياسة المجازر المروّعة والأرض المحروقة والمدن المدمرة، متجاوزًا جميع الخطوط الحمراء التي تفرضها الأخلاق، ويوجبها القانون”.
ماذا بعد هذه التقارير؟
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تنفيذ النظام السوري 217 هجومًا كيميائيًا في مختلف المحافظات السورية، حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قتل في هذه الهجمات ما لا يقل عن 1510 مواطنين سوريين خنقًا، بينهم 205 أطفال و260 سيدة و12 ألف مصاب.
ينتظر أهالي الضحايا محاسبة النظام السوري الذي قتلهم بأبشع الأسلحة، ولطالما توعدت العديد من الدول بمحاسبة النظام السوري على هذه الأفعال لكن دون أن ترتدع قوات النظام وتوقف هجومها الكيماوي على المدن والبلدات والمدنيين، ومنذ هجوم الغوطتين عام 2013 الذي أوقع مئات الضحايا بعدما ضربت قوات الأسد مدن ريف دمشق بغاز السارين، لم تستطع الدول أن ترد على هذا الهجوم بعد تسوية قام بها رئيس أمريكا الأسبق باراك أوباما مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واتفقا على تدمير الترسانة الكيماوية لدى النظام.
لم يسلم النظام الكيماوي ولم يدمره بل ازدادت هجماته يومًا بعد آخر دونما رادع، عدا عن بعض قوانين العقوبات وتقارير الإدانة والاستنكار، خاصة أن روسيا خلال السنوات الماضية حاولت وضغطت بكل ما لديها من وسائل وأدوات ضغط للحيلولة دون أن يكون هناك أي رد فعل دولي على النظام نتيجة لاستخدامه الأسلحة الممنوعة دوليًا وخاصة الكيماوي منها.
استخدمت روسيا الفيتو أكثر من مرة في مجلس الأمن لمنع صدور أي قرار يهدف لمحاسبة النظام، لذلك يتم الدفع باتجاه أن يسير المجتمع الدولي خارج مجلس الأمن، وتشكيل محكمة خاصة للتحقيق في الانتهاكات المرتكبة في سوريا، وذلك من خلال العمل على تقدم الشهود والأدلة على تلك الانتهاكات لتحقيق العدالة لأبناء الشعب السوري، لكن تراجع القضية السورية في الأجندة الدولية جعل الأسد يتمادى ولا يخاف الردع أو ينتظر ردًا على جرائمه.
رحبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ببيان منظمة حظر الأسلحة الكيماوي، وطالبت باتخاذ تدابير دولية جماعية طبقًا للقانون الدولي، كما أنه يجب عرض القضية بما في ذلك المعلومات والاستنتاجات ذات الصلة، على الجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى مجلس الأمن، كما طالبت بنقل المسؤولية بشكل سريع إلى مجلس الأمن والطلب منه التدخل وفقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على اعتبار استخدام دولة عضو لأسلحة الدمار الشامل يفترض أن يُشكِّل تهديدًا جديًا للأمن والسلم الدوليين، وتنفيذًا لقراراته ذات الصلة.
وقال بيان الشبكة الحقوقية: “على الدول الأطراف لا سيما الدول الحضارية أن تستخدم حقها المنصوص عليه في الفقرة 8 من المادة التاسعة من الاتفاقية وتطلب إجراء تفتيش موقعي بالتحدي داخل الأراضي السورية لغرض توضيح وحل أي مسائل تتعلق بعدم امتثال محتمل من الحكومة السورية لأحكام الاتفاقية”، وأوصت الشبكة باستخدام “الحق المنصوص عليه في الفقرة 12 (أ) في أن توفد ممثلاً لها، لمراقبة سير التفتيش؛ وفي أن يتم إجراء هذا التفتيش دونما إبطاء”.
بدوره قال الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” إن عدم محاسبة نظام الأسد على استخدام الأسلحة الكيميائية وانتهاكه اتفاقية حظرها، يعطيه ضوءًا أخضر لمواصلة شن هجمات مميتة بالأسلحة الكيميائية، وعدم اتخاذ إجراءات جدية للمحاسبة وتحقيق العدالة للضحايا هو اتجاه ينذر بخطر يهدد الإنسانية، وقالت المنظمة السورية: “أي محاولة لتعويم نظام الأسد الذي استخدم السلاح الكيميائي ضد السوريين مرفوضة تمامًا، الشيء الوحيد الذي يجب أن يقوم به المجتمع الدولي هو تطبيق المادة 21 من قرار مجلس الأمن 2118 لعام 2013 التي تنص على تجريم كل من يستخدم السلاح الكيميائي وفق البند 7 من ميثاق الأمم المتحدة”.
بالمحصلة، لا ينتظر السوريون اليوم من العالم بيانات إدانة واستنكار بقدر ما يريدون ردًا واضحًا وملموسًا للقضاء على السلاح الكيماوي وحامله الذي يبدو أنه لن يرتدع إلا بحلول قاسية وجازمة تمنعه من استخدام كل الأسلحة وليس الترسانة الكيماوية فقط.