بطريقة مدهشة، يحتشد فيلم “هانجر غيمز3- موكينغ جيه1” بدلالات وإسقاطات تلهب مشاعر الكثيرين في العالم الثالث، أكثر بكثير حتى مما كانت تقصده مؤلفة الرواية سوزان كولينز ومخرج الجزء الأول من الفيلم المأخوذ عن الرواية فرانسيس لورانس، اللذين ينتميان لعالم “أول” مختلف عن ما يعيشه أبناء عالمنا المبتلى بمستبدين حقيقيين، و”ألعاب جوع” حقيقية، و”كابيتول” حقيقية، وعدد لا نهائي من الـ”موكينغ جيه” الحقيقيات والحقيقيين الذين يمثلون ويمثلن أيقونات للثورة والنضال ضد الاستبداد والاحتلال.
الفيلم الأمريكي الذي ينتمي لعالم أفلام “الخيال العلمي”، لا يزال يحصد للإسبوع الثالث على التوالي الإيرادات الأكثر في الولايات المتحدة، لأسباب تتعلق بروعة الإنتاج، وأداء النجوم، وحجم الإبهار في التصوير والتقنيات والخدع السينمائية، وحجم الخيال في مشاهد الفيلم، ولكنه يحظى لأسباب مختلفة تماما بمتابعة جيدة في دور السينما العربية، نظرا لإسقاطاته المذهلة؛ البعيدة عن الخيال، على نضالات الشعوب العربية ضد الاحتلال والاستبداد.
وقد أخذ الفيلم من الجزء الثالث لرواية هانغر غيمز أو “ألعاب الجوع”، وهي رواية تحكي عن طبقة متحكمة في العاصمة التي يطلق عليها اسم “كابيتول”، وتسيطر على الأحياء أو الضواحي، وتستخدم لإحكام سيطرتها عليها قدرا هائلا من القوة التدميرية العسكرية، إضافة إلى الحرب الإعلامية ذات التقنيات العالية.
وفي إطار الحرب الإعلامية يستخدم قادة “الكابيتول” ألعاب الجوع إمعانا في اضطهاد سكان الضواحي، وقتل الروح النضالية في داخلهم، وذلك بإجراء ألعاب ينفذها أطفال مختارون من الضواحي، يقومون بقتل بعضهم البعض لإدخال السرور والنشوة على قادة الكابيتول! الذين يريدون من خلال هذه الألعاب بعث رسالة لأهالي الضواحي أنهم خاضعون تماما لقوة الكابيتول وحكامه.
في هذا الجزء من الرواية/ الفيلم، يستطيع متمردو/ ثوار الضواحي تحرير “كاتنيس إيفيردين” واثنين من أصدقائها من لعبة الجوع رقم 75، ويؤخذ الثلاثة إلى مقر للثوار يقع تحت الأرض، تحت أنقاض الحي 13 الذي دمره جيش الكابيتول تماما، لتبدأ كاتنيس رحلة جديدة مع النضال، من خلال اختيارها لتكون “موكينغ جيه”، أي أيقونة الثورة التي يفترض أن تشكل إلهاما لثوار الضواحي في حربهم مع مستبدي الكابيتول.
إلى هنا ينتهي الجزء الخيالي من الفيلم الذي لا يشبهنا، لتبدأ مرحلة من الأحداث التي تشبه بدقة تفاصيل نضال شعوبنا العربية ضد الاستبداد والاحتلال، أي استبداد وأي احتلال!
هنا تذهب أيقونة الثورة، وما أكثر أيقونات ثوراتنا العربية ضد الاحتلال والاستبداد!، تذهب إلى الحي رقم 8 الذي دمرته طائرات الكابيتول، وهنا لا يمكن أن تخطئ العين العربية قراءة المشهد، فهذا الحي يشبه حي الشجاعية، أو الزيتون، أو رفح، أو خزاعة، أو قانا اللبنانية، أو غيرها من الأحياء التي دمرتها مقاتلات كابيتول/ تل أبيب، ولكنه يشبه أيضا حمص ومخيم درعا ومخيم اليرموك التي دمرتها طائرات نظام الأسد.
وفي هذا الحي المدمر، تزور أيقونة الثورة مستشفى ميدانيا لعلاج جرحى القصف، وهنا يطغى على ذاكرة المشاهد العربي، بدون ترتيب، مستشفى رابعة الميداني، وهو يعج بالجرحى وجثث الشهداء الذين باغتهم رصاص القوى الأمنية المصرية في حرب غير متكافئة، تماما كالحرب التي تخوضها الضواحي ضد عصابات الكابيتول في الفيلم.
وأثناء زيارة “موكينغ جيه/ أيقونة الثورة” للمستشفى، والحديث مع الجرحى والأطباء والمصابين في محاولة لرفع معنوياتهم، رد الجرحى والأطباء والممرضون عليها برفع الشارة التي طالما تحدى بها ثوار الضواحي جلاديهم في الكابيتول، وهي الشارة التي تتكون من ثلاثة أصابع؛ في لحظة صمود كثيفة؛ كانت كافية لتنسي المشاهد العربي غياب الأصبع الرابع الذي يشكل شارة “رابعة”، تلك الشارة التي صارت رمزا لرافضي الاستبداد العسكري في مصر وفي كل مكان، وعنوانا للتحدي والصمود في وجه الجلادين.
أثناء الزيارة، تصل المعلومات الاستخبارية للكابيتول، فتقوم طائراتها المدمرة بقصف المستشفى وما تبقى من الحي المدمر أصلا، لتحرقه تماما، ولكن “موكينغ جيه” استطاعت الخروج منه بسلام، وبينما وقفت الأيقونة ورفاقها وفريق التصوير المرافق معها يراقبون ألسنة اللهب، قالت الرسالة الأهم في الفيلم، بل الرسالة الأهم من كل مناضلي الحرية إلى قاتليهم، سواء كانوا من طغاة الداخل، أو من مجرمي الاحتلال: “قد تستطيعون تعذيبنا وقصفنا وإحراق أحيائنا عن بكرة أبيها، ولكن هل ترون؟ إن النار تندلع في كل مكان.. وإذا ما احترقنا فستحرقون معنا”.
تنتقل كلمات “موكينغ جيه” عن الحريق كالنار في الهشيم، لتعيد بعضا من الروح النضالية إلى سكان الضواحي المسماة “بانيم”، وفي رحلتها المضنية لتثوير شعبها تذهب الأيقونة إلى أطلال الحي 12 المدمر كليا، وفي لحظة صفاء تغني أمام النهر أغنية شجرة الشنق “The Hanging Tree” التي تقول بعض كلماتها:
“هل ستأتي إلى الشجرة؟
سيشنقون رجلا هناك
يقولون إنه قتل ثلاثة
هل ستأتي إلى الشجرة؟
حيث قلت لك أن تهرب،
كي يمكن لكلانا أن يعيش حرا”
تصبح الأغنية أهزوجة لشعوب الضواحي، ويتجمع الآلاف منهم ليتوجهوا إلى السد الذي يزود الكابيتول بالكهرباء وهم يرددون كلمات الأغنية، وبرغم إطلاق النار عليهم يستطيعون اقتحام السد وقطع الكهرباء عن قادة الكابيتول الذين يضطرون لاستخدام المولدات لاستعادة الكهرباء.
في هذا المشهد، يركض الثائرون المدججون بالعزيمة “إلى حتفهم باسمين”، ويرعبون طغاة الكابيتول بأغنيتهم “شجرة الشنق”، وفي خلفية المشهد، فلسطيني يشاهد الفيلم من على مقاعد السينما في إحدى مدن اللجوء، يتذكر فجأة محمود درويش وهو يشدو “على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ: نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها.. هتافاتُ شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ”.
في هذا المشهد أيضا تتركز عصارة القصة، قصة الفيلم، بل قصة نضال الشعوب ضد جلاديها من المحتلين والمستبدين، إذ إن ثوار شعوب الأحياء الضعيفة، برغم محاولات رئيس الكابيتول تسميتهم بالإرهابيين أو القتلة، ورفضه تسميتهم بالمتمردين، تماما كما يفعل طغاة الاحتلال والاستبداد، إلا أنهم ظلوا في ضمير شعوبهم ثوارا ملهمين.. وبرغم ضعفهم مقارنة بجلاديهم، إلا أنهم استطاعوا القتال مع جموع شعبهم، واستطاعوا أن يوقفوا الكهرباء عن قيادة الكابيتول، واستطاعوا أيضا أن يحققوا المقولة الرئيسية في الفيلم: إذا احترقنا فستحرقون معنا!.
المصدر: عربي 21