ترجمة وتحرير: نون بوست
تقترب الحرب في أوكرانيا من ذكراها السنوية الأولى؛ وقد أسفرت عن عواقب تمتد إلى ما هو أبعد من الحدود الأوروبية، مما قوّض تأثير الجهات الفاعلة على المسرح الدولي في مواجهة روسيا وأوكرانيا وما وراءهما. في غضون ذلك؛ رأت بعض الدول في الاضطرابات التي سببتها الحرب فرصة سانحة للعمل للنأي بنفسها عن الكرملين وتعزيز دورها الإقليمي والدولي.
أما بالنسبة لباقي الدول، فقد قوّضت الحرب من وكالتها وقدرتها على اتخاذ موقف رشيد حيال الحرب. ومع ذلك؛ فإن تأثير الحرب ومدى إعادة تشكيل الوكالة غالبًا ما تم تجاهلهما أو يُنظر إليهما فقط من خلال منظور مركزي أوروبي، لكن الفهم الكامل للآثار العالمية للصراع يمكن تحقيقه فقط من خلال تحليل كيفية تجربة الدول غير الغربية لتأثير الحرب.
نوافذ الفرص
أتاحت الحرب لبعض البلدان في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي فرصًا جديدة لمتابعة أهدافها الإستراتيجية، وتعد أذربيجان خير مثال على ذلك. ففي سبتمبر/أيلول الماضي، هاجمت القوات الأذربيجانية المناطق المتنازع عليها في إقليم ناغورنو كاراباخ، حتى أنها ضربت الأراضي الوطنية الأرمنية. ووفقًا لعدة خبراء، فإن قرارها كان مدفوعًا بالحرب في أوكرانيا.
في الواقع؛ كانت باكو تدرك أن انشغال موسكو بالغزو سيمنعها على الفور من إنقاذ حليفتها أرمينيا، وهذا ما يؤكده توقيت الهجوم الذي انطلق مباشرة بعد الانتكاسات الروسية في منطقة خاركيف. وكما توقعت باكو، كان الدعم الذي قدمه الكرملين لأرمينيا متأخرًا وضعيفًا، مما مكّن أذربيجان من الحفاظ على سيطرتها على الأراضي المحتلة.
وفي الوقت الذي تشير فيه هذه الأحداث إلى المدى الذي استغلت فيه أذربيجان غزو أوكرانيا، فإنها تدل أيضًا على أن الموقف الأرمني على المسرح الدولي قد يتم إعادة تشكيله من خلال استئناف الأعمال العدائية. وبالنظر إلى الدعم الضعيف والمتأخر الذي يقدمه الكرملين، قد تبدأ يريفان في التفكير في إمكانية النأي بنفسها تدريجيًّا عن روسيا، وقد بدأ الشقاق يدب حافريه بالفعل بين البلدين.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي؛ رفض رئيس أرمينيا نيكول باشينيان التوقيع على إعلان القمة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي اتفاقية الدفاع المشترك المكونة من جمهوريات سوفيتية سابقة. ومن المثير للاهتمام أنه بعد أسابيع قليلة من استئناف الأعمال العدائية، اجتمعت أذربيجان وأرمينيا لمناقشة حالة الصراع في مبادرة يقودها الاتحاد الأوروبي في محاولة لاحتواء تداعيات الحرب في أوكرانيا. من منظور أوسع؛ قد يتناسب ذلك مع إطار التقارب الدبلوماسي المعزز بين أرمينيا وفرنسا. وبالتالي؛ يمكن أن تفتح نوافذ جديدة لأرمينيا على المسرح الدولي.
وبالمثل؛ فإن اللاعبين الآخرين خارج منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي يستفيدون من الفرص الناشئة عن الحرب في أوكرانيا. ففي سوريا؛ قلّصت روسيا من وجودها العسكري مع تحويل مواردها إلى أوكرانيا، مما أتاح لإيران فرصة لتعزيز دورها الإقليمي، لا سيما أن روسيا قبل الغزو كانت قادرة على الحد من الطموحات الإيرانية، مثل التوسع في محيط دمشق من خلال بناء مركز لمليشياتها الشيعية، لكن تركيز روسيا الفريد على أوكرانيا سمح لإيران بمواصلة تحقيق هذه الأهداف بحرية أكبر؛ حيث بسطت طهران منذ بداية حرب أوكرانيا سيطرتها على بعض المناطق التي تسيطر عليها موسكو.
وعلى الرغم من أن هذه الديناميكية يمكن تصورها كجزء من التعاون طويل الأمد بين البلدين، إلا أنه لا ينبغي التقليل من سعي إيران للقيام بدور أكثر بروزًا في المنطقة. وفي الوقت نفسه؛ يجب أن تكون طهران حذرة فيما يتعلق بالآثار الإستراتيجية والعسكرية المحتملة لتراجع وجود روسيا في سوريا. فعلى سبيل المثال؛ قررت موسكو إزالة منظومة الدفاع الجوي “إس – 300” وإعادة نشرها في أوكرانيا، وهو قرار من المرجح أن يُضعف إيران في المنطقة، لا سيما أنها أثبت أهمية حاسمة خلال السنوات القليلة الماضية في مواجهة الضربات الجوية الإسرائيلية التي عصفت بشدة بالقوات الإيرانية في جنوب سوريا. لذلك؛ فإن حرية المناورة التي تم تحقيقها حديثًا قد تعيد إشعال التوترات المحلية وتُفضي إلى سيناريوهات غير متوقعة في المنطقة.
أوكرانيا “قاتلة الوكالة”
في حين أن استئناف الصراع في ناغورنو كاراباخ قد سلّط الضوء على مدى استفادة اللاعبين المحليين من تداعيات الحرب في أوكرانيا، فإن الجهات الفاعلة الأخرى في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي يمكن أن ترى وكالتها ممنوعة؛ ويتجلى ذلك في كازاخستان.
فعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية والسياسية طويلة الأمد مع الكرملين؛ اتخذت الحكومة الكازاخستانية موقفًا مستقلاً إلى حد ما تجاه الغزو، ورفضت الإدلاء بموقفها في الاستفتاءات بشأن إقليم دونباس، وقدمت المساعدات الإنسانية إلى أوكرانيا. ويعكس هذا الموقف الدرجة الأكبر من الاستقلال السياسي الذي تسعى إليه البلاد، لكن يصعب التكهن باستمرارية هذا الموقف الحاسم في ظل التداعيات الرهيبة للصراع.
في سياق ذلك؛ يهدد التضخم الناجم عن الحرب والذي يؤثر بشكل متزايد على البلاد بإحياء المعارضة الشعبية والاضطرابات في البلاد. ومن هذا المنطلق؛ فإن الاحتجاجات العنيفة التي اندلعت في البلاد في كانون الثاني/يناير الماضي – والتي سرعان ما قمعتها القوات الروسية بناءً على طلب كازاخستان – كانت مدفوعة بالظروف المعيشية السيئة للسكان. وبالنظر إلى الآفاق الاقتصادية المتدهورة بسبب الحرب؛ من غير المرجح أن تنأى أستانا بنفسها تمامًا عن الضامن الوحيد لبقائها في حالة المعارضة الشعبية، لكن ذلك في الوقت نفسه قد يحد من قدرتها على الحفاظ على موقف أكثر استقلالية عن الكرملين.
إلى جانب تداعياتها العسكرية والإستراتيجية؛ ترددت أصداء الحرب من خلال أبعاد أخرى تحد من فاعلية بعض الفاعلين في الساحة الدولية، حيث شهدت العديد من البلدان الأفريقية تقييد حريتها في العمل بشكل حاسم بسبب أزمة الغذاء التي سببتها الحرب. ومع إغلاق الموانئ على البحر الأسود بسبب الغزو، أدى انخفاض صادرات الحبوب والأسمدة إلى زيادة هائلة في أسعار هذه السلع؛ مما أدى إلى انتشار الجوع والاضطراب الاقتصادي في جميع أنحاء إفريقيا.
وبالنظر إلى هذا الوضع المعقد؛ وجدت العديد من البلدان نفسها تسير على حبل مشدود بين المطالب الغربية لاتخاذ موقف دبلوماسي متشدد ضد الغزو والعبء الناجم عن نقص الغذاء. وقد أدى ذلك إلى مواقف متحفظة إلى حد ما تجاه الحرب.
في البداية؛ تجنبت مصر، المستورد الأول للقمح الروسي، إدانة الغزو أو الانضمام إلى الدول التي فرضت عقوبات على موسكو، وفضّلت بدلاً من ذلك الدعوة إلى الحوار بين الطرفين. ومع ذلك؛ بعد أن ضغط الحلفاء الغربيون على مصر لاتخاذ موقف أكثر حسمًا، صوّتت القاهرة لصالح قرار للأمم المتحدة يدين الحرب. ويشير هذا الموقف المتذبذب إلى كيف أدت الضغوط الدولية المتنافسة والاعتماد القوي على السلع الروسية إلى تقييد حرية مصر في العمل. ونتيجة لذلك، تجد الحكومة نفسها في مرمى نيران دبلوماسية في الوقت الذي تتضرر فيه بشكل متزايد جراء أزمة الغذاء.
تداعيات بعيدة المدى
تؤكد هذه الأمثلة الأخيرة التداعيات بعيدة المدى التي سببتها الحرب الدائرة في أوكرانيا على الساحة السياسية العالمية، والتي أثرت على قوة الفاعلين المختلفين داخل وخارج أوروبا. وبينما انتهزت بعض الدول الفرصة لتأكيد استقلالها وتقوية موقفها الدولي، رأى البعض الآخر أن ذلك يعمل على تقويض قدرتها على العمل بشكل مستقل. فمن جنوب القوقاز إلى أفريقيا جنوب الصحراء، من المرجح أن تؤدي هذه التغييرات إلى زيادة عدم الاستقرار والمواقف التحريفية المحتملة. وتعد أذربيجان وإيران أبرز مثال على ذلك.
في المقابل، تخاطر بعض الدول بالانخراط في منافسة القوى العظمى بين روسيا والغرب، وبالتالي فإن السؤال المتبقي يتعلق بمن سيكون قادرًا على جني فوائد هذه التغييرات الساحقة مع تجنب عواقبها؟
المصدر: إنترناشونال بوليسي دايجست