شرعت السلطات الإيرانية التحقيق في ملابسات هجوم طائرات مسيّرة على مجمّع صناعي تابع لوزارة الدفاع الإيرانية في مدينة أصفهان فجر الأحد، حسبما أفادت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية “إيرنا”، في تحوّل مهم يعكس طبيعة الوضع المعقّد الذي تعيشه إيران اليوم.
رغم السيناريوهات المتعددة التي وُضعت لتوضيح طبيعة هذا الهجوم والجهة التي تقف خلفه، إلّا أنه يعكس حقيقة واحدة، هي أن هناك خطوطًا حمراء بدأت تُرسَم أمام إيران لمنع وصولها إلى العتبة النووية، فطبيعة الهجمات الأخيرة كانت الرسالة التي تقف خلفها: كلّما زادت إيران أنشطتها النووية أو استفزازاتها الإقليمية، كلّما تصاعدت حدة الهجمات عليها.
إن نظرة بسيطة إلى طبيعة الهجوم الذي تعرّض له المجمّع الصناعي في أصفهان، يشير بما لا يقبل الشك إلى أنه جاء وفق نماذج سابقة تعرّضت لها مواقع عسكرية إيرانية في أماكن أخرى، والتي حملت بصمات إسرائيلية واضحة، رغم أن الهجوم الأخير يحتمل تفسيرات أكبر، حيث تعرّضت منشأة نطنز النووية في يوليو/ تموز 2020، ومرفق نووي مختلف في نطنز في أبريل/ نيسان 2021، ومنشأة نووية أخرى في كرج في يونيو/ حزيران 2021، وتدمير حوالي 120 طائرة إيرانية مسيّرة في فبراير/ شباط 2022.
إن طبيعة ردود الفعل الإيرانية التي برزت بعد الهجوم تعكس توترًا إيرانيًّا واضحًا في التعامل مع هذا الحدث الأمني، الذي على ما يبدو لم يكن في حسابات الدولة الإيرانية، خصوصًا أن التحقيقات الإيرانية لم تصل حتى اللحظة لنتيجة قاطعة حول الجهة المنفِّذة، إذ وصف وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الهجوم بالعمل الجبان، فيما اعتبرته وزارة الدفاع الإيرانية هجومًا فاشلًا، أما الحرس الثوري الإيراني فقد اتهم “إسرائيل” بالوقوف خلف الهجوم.
جهات متعددة ومصالح مشتركة
أدّت السلوكيات الإيرانية في الفترة الماضية إلى اتساع قائمة الأعداء للجمهورية الإسلامية، بين أعداء داخليين وأعداء خارجيين، ورغم أن أكثر الترشيحات تذهب نحو “إسرائيل” باعتبارها الطرف الأبرز الذي يحتمل وقوفه خلف الهجوم الأخير لعدة أسباب، أبرزها الخشية من امتلاك إيران للسلاح النووي، إلى جانب عقيدة متشدّدة يحملها رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو ضد إيران، فإن هذا لا يمنع من القول إن هناك أعداء آخرين يمكن أن يكونوا خلف هذا الهجوم.
إذ أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إلى أن المسيّرات التي استهدفت مواقع بأصفهان، يُعتقد أنها انطلقت من داخل إيران، وأضافت أن الطائرات بدون طيار وتُسمّى “كوادكوبتر” لأن لديها 4 دوارات، ولديها مدى طيران قصير.
فيما أشارت مصادر أخرى على صلة بهذه الفرضية إلى أن الجهة المنفِّذة لهذا الهجوم هي منظمة مجاهدي خلق الإيرانية عبر تعاونها مع الاستخبارات الأوكرانية، كردٍّ على الدور الإيراني في دعم روسيا بحربها الجارية في أوكرانيا، رغم أن هذه الفرضية مستبعَدة بعض الشيء، لأسباب فنية ولوجستية لا تسمح لأوكرانيا أن تعمل بحرّية داخل الأراضي الإيرانية.
أما الفرضية الثالثة تذهب باتجاه القول إن الولايات المتحدة هي الجهة التي نفّذت الهجوم، ورغم عدم صدور تصريح أمريكي رسمي بنفي أو تأييد هذه الفرضية، إلّا أنه لا يمكن استبعاد هذه الفرضية لعدة أسباب، منها قيام الجماعات الموالية لإيران في العراق بشنّ هجوم عبر طائرات مسيّرة على قاعدة التنف، التي تتواجد فيها القوات الأمريكية على الحدود العراقية السورية الأسبوع الماضي، وأن ما حصل قد يأتي في سياق استراتيجي كردٍّ أمريكي على هذا الهجوم.
فضلًا عن ذلك، فإن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بعد الهجوم الأخير في أصفهان، تحمل رسائل تحذيرية لطهران من مغبّة الردّ على الهجوم، عندما أشار إلى أن الجهود الأمريكية العسكرية هدفها الأساسي هو ردع المعتدين، “لا سيما المناورات الأمريكية مع “إسرائيل””.
السيناريو المقبل
عملت إيران مرارًا على توظيف استراتيجية “تقبُّل الخسائر” في الهجمات التي تتعرض لها المواقع النووية، والردّ عليها في ساحات لا تتجاوز فيها عتبة الانتقام، سواء كانت أهداف أمريكية أو إسرائيلية، إذ ما زال السيناريو الذي تعرّض له قائد قوة القدس السابق، قاسم سليماني، راسخًا في ذهنية صانع القرار الإيراني.
إذ نجحت الولايات المتحدة في تأكيد صدقية الردع الأمريكي في النسق العقيدي الإيراني، ودفع صانع القرار الإيراني إلى عدم المراهنة على الحلول المتطرفة، لأن النتيجة قد تكون تفوق قدرة إيران على مواجهتها، وهو ما يتّضح بالآلية التي تعاملت بها إيران بعد الهجمات التي تعرضت لها بعد اغتيال سليماني.
فالخشية الأمريكية من جهة، والأيديولوجيا المتطرفة لنتنياهو من جهة أخرى، ترشحان فرضية استمرار الهجمات التي تتعرض لها إيران في الداخل، سواء عبر الطائرات المسيّرة أو عمليات الاغتيال، ومن ثم يدفعنا هذا للقول إن إيران ستكون في وضع أمني وعسكري صعب للغاية، والأكثر من ذلك ستكون محرجة أمام جمهورها وحلفائها، ما قد يدفعها إلى وضع بنك للأهداف التي يمكن أن تستهدفها للرد على الهجمات التي تتعرض لها.
يمكن القول إن طبيعة الرد الإيراني على الهجوم الأخير لن تذهب بعيدًا عن الساحات والمجالات التقليدية، سواء عبر استهداف سفن الشحن في منطقة الخليج، أو تصعيد أمني في العراق وسوريا، أو شنّ هجمات سيبرانية في الداخل الإسرائيلي، كما أن الوضع المتوتر في الداخل الفلسطيني قد يدفع إيران للدخول على خطه لتوسيع رقعة المواجهة مع “إسرائيل”، فهي لا ترغب في خوض حرب غير مباشرة على أراضيها في ظل استمرار الاحتجاجات المناهضة للنظام والوضع الاقتصادي الصعب.
تجد إيران نفسها في وضع استراتيجي صعب للغاية، فإلى جانب عودة شبح الهجمات في الداخل الإيراني، هناك أزمة اقتصادية خانقة تواجهها بسبب استمرار العقوبات الأمريكية، وانحسار عمليات تهريب الدولار الأمريكي من العراق إليها، بسبب القيود التي يفرضها البنك الفيدرالي الأمريكي.
فضلًا عن تحركات دبلوماسية إقليمية تجري على الساحة السورية بدأت تتجاوز المصالح الإيرانية، وتحوُّل نوعي في الموقف الأوروبي منها بعد قرب إعلان الحرس الثوري منظمة إرهابية من قبل دول الاتحاد، وفي ظل هكذا وضع يمكن القول إن كل الخيارات متاحة أمام إيران لتجاوز هذا الوضع بأقل الأضرار، والتي يأتي في مقدمتها إمكانية العودة الطوعية للمحادثات النووية في المسقبل القريب.