سماء العلاقات بين المغرب وفرنسا ملبّدة بالغيوم منذ ما يقرب العام، وبعد أن كان من المنتظر أن يحلَّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالمغرب بداية العام الحالي قصد تسوية الخلافات، إلا أن الفترات الصعبة ستبقى مستمرة لوقت إضافي، أو أن الأزمة الصامتة تتجه نحو القطيعة، خاصة أن المغرب أصبح أكثر من أي وقت مضى يتخذ من قضية الصحراء محددًا رئيسيًّا لسياسته الخارجية.
لا تزال فرنسا تحافظ على موقفها الغامض من قضية الصحراء، في حين تطالب الرباط باريس بتوضيح موقفها، وما كان للأزمة الصامتة أن تظهر للعلن لولا توالي رفض طلبات منح التأشيرة للمغاربة، علمًا أن فرنسا قد أعلنت خفض التأشيرات الممنوحة لمواطني الجزائر والمغرب وتونس إلى النصف، بعدما رفضت هذه البلدان استعادة مواطنيها الذين يعيشون في فرنسا بشكل غير قانوني.
زيارة ماكرون تأجّلت
أزمة التأشيرات مع المغرب قد انتهت، أو هذا على الأقل ما أعلنته وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، أثناء زيارتها للرباط وإجرائها مباحثات مع نظيرها المغربي، ناصر بوريطة، من أجل العودة إلى التعاون الكامل في مجال الهجرة، بيد أن الهدف الرئيسي من هذه الزيارة كان هو ترتيب زيارة ماكرون للمغرب بداية العام الحالي.
كان من المرجّح أن يحل ماكرون في الرباط خلال شهر يناير/ كانون الثاني، غير أن مصادر إعلامية تحدثت عن تأجيل الزيارة إلى شهر فبراير/ شباط بسبب قضية الصحراء، حيث لم يتوصّل البلدان إلى اتفاق نهائي حول هذا الموضوع بعد، لأن الرباط ترغب في انتزاع موقف صريح من باريس لصالحها خلال زيارة ماكرون، بينما يبدو أن الأخير لا يريد إبداء موقف واضح في القضية.
كما تمّت الإشارة إلى أن الرباط وباريس يتفاوضان حول قضية الصحراء، لهذا تمَّ منح مهلة أطول لتوسيع المباحثات، وحتى يتوصل الطرفان إلى خلاصة تؤدي إلى لقاء ماكرون بالعاهل المغربي محمد السادس.
من الواضح كذلك أن المغرب يسخّر جميع وسائله من أجل دفع فرنسا إلى توضيح موقفها، خاصة أنها تعلن تأييدها لأطروحة الحكم الذاتي والسيادة المغربية الكاملة على الصحراء، على غرار ما فعلت الولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا.
مسار لم يخلُ من أزمات
بالعودة إلى مسار العلاقات الفرنسية المغربية، سنجد أنه لا يخلو من أزمات، مثل الأزمة التي اندلعت خلال فبراير/ شباط 2014 بسبب إرسال 7 رجال شرطة فرنسيين إلى مقرّ السفير المغربي بالعاصمة الفرنسية، بناءً على أمر من النيابة العامة، لإحضار رئيس المخابرات المغربية، ثم الاستماع إليه بخصوص شكاوى عن تعذيب مُفترض لمواطن فرنسي من أصل مغربي، بمقرّ المخابرات.
ازدادت أجواء العلاقات بين البلدَين تعكيرًا عقب التصريحات التي نُسبت إلى السفير الفرنسي في واشنطن، إذ شبّه حينها “المغرب بالعشيقة التي نجامعها كل ليلة رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها”.
لا ننسى كذلك فضيحة بيغاسوس التي اندلعت في يوليو/ تموز 2021، والتي عكّرت صفو العلاقات بين باريس والرباط، بعدما اتهمت صحف فرنسية المخابرات المغربية بالتجسُّس على الساسة الفرنسيين ومنهم الرئيس ماكرون، وقد لجأ المغرب إلى القضاء الفرنسي ضد الصحف التي اتهمته ونفى اقتناءه برنامج التجسُّس الذي تنتجه شركة “إن سي يو” الإسرائيلية.
وحتى لو كانت أزمة 2021 لم تصل الى مستوى الأزمة التي عصفت بين البلدَين عام 2014، إلا أنها سارت في نفق مشابه، لأن العلاقات بالفعل تدهورت وفقدت دفئها المعتاد، كما هو الحال الآن.
نزيف الحلفاء في أفريقيا
بيد أن فرنسا تنفي وجود أزمة من الأساس، بل أكّدت أن الشراكة بين البلدَين “استنثائية”، وجاء هذا الرد خصوصًا بعد انتقاد الطبقة السياسية المغربية والإعلام المقرّب من الحكومة فرنسا بشدة، منذ أن تبنّى البرلمان الأوروبي بغالبية كبيرة قرارًا أعرب فيه عن القلق من تدهور حرية الصحافة في المملكة.
قد يبدو قريبًا من الصواب ذلك الوصف الذي وصف به الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا أولاند، حال العلاقات بأنه “سوء فهم”، وأنها تمرّ بلحظة فتور، لكن في وقت طفت على السطح أزمة التأشيرات توارى خلف الكواليس ملف الصحراء الذي هو لُبّ الخلاف، فالواضح أن الرباط تبدو أكثر إلحاحًا من ذي قبل على انتزاع موقف صريح، خصوصًا في هذه الآونة التي تشهد تقاربًا بين باريس والجزائر.
وبما أن فرنسا لا تريد أن تفقد مصالحها في الجزائر، يكون من الصعب أن تتخذ الموقف الأمريكي نفسه، ورغم أن ماكرون افتتح فرعًا لحزبه في الصحراء، إلّا أن هذا لا يعني بالضرورة اعتراف الإليزيه بالسيادة المغربية على المنطقة، ولا يصبّ حتى في خانة الاعتراف الجزئي.
الاتجاه العام يوحي بأن فرنسا تعاني من نزيف حلفائها في أفريقيا، خاصة مستعمراتها السابقة مثل مالي وبوركينا فاسو اللتين أعلنتا القطيعة بالفعل، كما وُصف ماكرون بأنه أسوأ رئيس فرنسي فيما يخصّ العلاقات مع المستعمرات السابقة، ذلك أنه يلعب على الكلمات ويخفي النوايا، بالضبط كما كان يفعل شارل ديغول.
تداخُل إنساني واقتصادي وثقافي
على العكس من ذلك، لن تصل العلاقات بين باريس والرباط إلى القطيعة بأي حال من الأحوال، بحكم المصالح العديدة المشتركة، فعلى الصعيد الاقتصادي والمالي تعدّ فرنسا المستثمر الأجنبي الأول في المغرب بحصولها على ثلث مجموع الاستثمارات، في حين أن المملكة المغربية هي المستفيد الأول في العالم من تمويل الوكالة الفرنسية للتنمية.
المغرب لديه 45 ألف طالب مبتعَث في فرنسا، أي أن طلابه يمثلون المجموعة الأولى من الطلاب الأجانب في الجامعات الفرنسية، كما يستضيف على أرضه مدارس فرنسية يدرس بها ما يزيد عن 46 ألف طالب، ثلثاهم مغاربة.
في فرنسا يوجد حوالي 700 ألف فرنسي من أصل مغربي، انبثقت منهم نخبة سياسية وثقافية، مثل وزيرة التعليم نجاة فالو بقاسم والكاتب الطاهر بنجلون، كما أصبح المغرب مكانًا لإقامة 51 ألف فرنسي مسجّلين في القنصليات، وهذا الرقم يتضاعف إذا أحصينا كذلك مزدوجي الجنسية، ما يعني باختصار أن هناك تداخلًا إنسانيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا لا مثيل له بين فرنسا ومستعمرتها السابقة.