تدخل العلاقات المغربية العراقية فصلًا جديدًا من التناغم والتنسيق إثر إعلان المغرب إعادة فتح سفارته في بغداد، بعد إغلاق دام نحو 18 عامًا، وذلك في أعقاب الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة للعراق أول أمس السبت 28 يناير/كانون الثاني الحاليّ التي وصفها نظيره العراقي فؤاد حسين بأنها “تاريخية كونها أول زيارة لوزير خارجية مغربي ومسؤول حكومي منذ مدة طويلة”.
وتكسر الزيارة التي تعد الأولى لوزير مغربي لبغداد منذ ربع قرن تقريبًا حالة الجمود في العلاقات بين البلدين منذ حرب الخليج، حيث أغلقت الرباط سفارتها في بغداد عام 2005 وتم نقلها إلى العاصمة الأردنية عمان بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة في العراق، واستمرت هناك حتى اليوم في ظل الاضطرابات التي تحياها بلاد الرافدين خلال العقدين الماضيين.
خطوة دبلوماسية تحسب للرباط وبغداد في إطار مساعيهما لتوسيع نفوذهما الإقليمي من جانب وتوسيع محيطهما العربي من جانب آخر، من أجل مواجهة التحديات الناجمة عن حرب الاستقطابات العالمية التي تحياها الخريطة الدولية خلال الآونة الأخيرة التي أعادت النظر في العديد من التوجهات والسياسات الخارجية للدول.
نجاح دبلوماسي للرباط وبغداد معًا
العامان الماضيان تحديدًا شهدا حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا للرباط وبغداد، بجانب بعض العواصم العربية الأخرى كالدوحة والرياض، لتوسيع دائرة التحالفات الإقليمية وفتح قنوات اتصال جديدة بغية كسب الدعم والتأييد لبعض الملفات الحساسة التي تحتاج إلى تجييش دبلوماسي إقليمي ودولي.
العراق الخارج للتو من تجربة قاسية تحت هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” يسابق الزمن لاستعادة حضوره الإقليمي مرة أخرى، وفرض الأمن والاستقرار عبر دعم دولي لسياساته وتوجهاته الجديدة، لذا يعمل بخطوات متسارعة لتعزيز العلاقات مع محيطيه الخليجي والعربي على وجه الخصوص من خلال الانخراط في اتفاقيات تعاون تشمل كل المجالات في محاولة للانصهار داخل عمقه العربي مرة أخرى.
وقد نجحت الدبلوماسية العراقية بتسجيل عدة أهداف في مرمى الدعم الإقليمي، حيث دخلت علاقاتها مع السعودية والإمارات وقطر ومصر مرحلة جديدة من الوئام والتناغم، تجسدت في عشرات الاتفاقيات المبرمة بينها وبين تلك الدول، بجانب الزيارات المكوكية المتبادلة بين مسؤولي الطرفين.
الموقف العراقي من قضية الصحراء ليس مفاجئًا، فهو الموقف الذي أعلنته بغداد قبل سنوات، وأكدته مجددًا في مايو/أيار 2022
ومن المنظور المغربي، فبجانب الأبعاد الاقتصادية والإستراتيجية، هناك هدف رئيسي تسعى الرباط لتحقيقه من خلال جهودها الدبلوماسية المبذولة مؤخرًا، يتمثل في الحصول على أكبر تأييد عربي وشرق أوسطي لملف الصحراء ومشروع الحكم الذاتي ووحدة الأراضي المغربية، خاصة بعد النجاحات التي حققتها جبهة البوليساريو على هذا المسار ووضعت الرباط في مأزق.
وتلتقي هنا المصالح العراقية مع الأهداف المغربية، فتريد بغداد دعم الرباط لمسارها السياسي الجديد وهو ما أكده وزير الخارجية المغربي خلال لقائه ونظيره العراقي بقوله: “المغرب يدعم المسار الديمقراطي في العراق واحترام وحدة وسيادة العراق والمسار الجديد في بناء مؤسساته، خاصة بعد أن دخل العراق المسار الديمقراطي الجديد”.
وفي الجهة الأخرى شدد العراق على موقفه الثابت بشأن دعم المغرب في قضية الصحراء كما أوضح وزير الخارجية العراقي الذي أكد أن بلاده “تدعم وحدة الأراضي المغربية وجهود الأمم المتحدة بشأن قضية الصحراء وأن العراق يؤيد القرارات الأممية ذات الصلة وحل الخلافات وبالطرق السلمية دون المساس بالتراب المغربي وتحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة”.
يذكر أن الموقف العراقي من قضية الصحراء ليس مفاجئًا، فهو الموقف الذي أعلنته بغداد قبل سنوات، وأكدته مجددًا في مايو/أيار 2022، ما تسبب في أزمة بالعلاقات مع الجزائر التي فشلت في كسب الدعم العراقي في هذا الملف رغم حصولها على تأييد طهران التي اتهمتها الخارجية المغربية قبل ذلك بتزويدها للبوليساريو بطائرات مسيرة، ما أسفر عن قطع العلاقات معها في 2018.
الاقتصاد كلمة السر
دفعت الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها العالم منذ تفشي جائحة كورونا (كوفيد 19) عام 2019 الدول إلى إعادة النظر في توجهاتها الخارجية وإستراتيجياتها في بناء التحالفات، فلم يعد الأمر مبنيًا فقط على المرتكزات السياسية والمعتقدات الأيديولوجية، حيث دخل الاقتصاد كأحد العوامل المؤثرة في ترتيب أولويات وتوجهات الدول، وهو ما تكشفه التحالفات الجديدة بين الخصوم السياسيين.
وفي قراءة سريعة للمشهد الاقتصادي العراقي والمغربي يلاحظ أنهما كانا في أشد الحاجة لتحالف اقتصادي سريع يخرج كل طرف من أزمته، في ظل امتلاك كل دولة لاحتياجات الدولة الأخرى، فالعراق يمتلك النفط ومصادر الطاقة التي تحتاج إليها الرباط التي بدورها تمتلك البنية الاستثمارية لدعم الاقتصاد العراقي في العديد من المجالات الصناعية الأخرى.
وهناك عامل مشترك بين اقتصادي العراق والمغرب يدفعهما نحو تعزيز علاقاتهما الاقتصادية في أسرع وقت، وهو أن هناك فجوةً كبيرةً بين المؤشرات الرسمية والواقع الفعلي، فبينما تشير أرقام البنك الدولي إلى أن العراق سجل نموًا اقتصاديًا بنسبة 8.9% لعام 2022 جراء ارتفاع أسعار النفط خلال العامين الماضيين، التي معها ارتفع دخل الفرد من الناتج القومي إلى 6 آلاف دولار إلا أن ذلك لا يعبر فعليًا عن المستوى المعيشي للمواطنين ولا عن الواقع الاقتصادي.
وهنا يحذر خبراء الاقتصاد من أن “عواقب اعتماد العراق على النفط أعلى بكثير من نظرائه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي نقاط ضعف شديدة أمام التحركات المعاكسة في أسعار النفط”، كما ذهب مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية، أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقًا، ثامر العاني، الذي استعرض بعض السياسات التي يجب على العراق اتخاذها لدعم اقتصاده الحقيقي وعلى رأسها العمل على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن تدعم عملية التنمية ومحاربة الفساد المتفشي.
الوضع يتشابه كثيرًا على الساحة المغربية، فبحسب مؤشر ممارسة الأعمال العالمي (دوين بيزنس) حقق المغرب نجاحات اقتصادية كبيرة قفز بها من المرتبة 130 في عام 2009 إلى المرتبة 53 في عام 2020، وهو المؤشر الذي تتغنى به الحكومة المغربية وتعتبره إنجازًا يحسب لها ولإدارة المملكة، غير أن مناخ الأعمال في البلاد لم يتحسن بهذا الشكل وهو ما تكشفه لغة الأرقام.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن المغرب حقق نموًا اقتصاديًا بين عامي 2010 – 2020 بمعدل 3.3% فقط، بل وصل إلى أدنى مستوياته عام 2016 بمعدل 1.06% فيما كان أعلى معدل نمو اقتصادي حققته المملكة عام 2006 حين بلغ وقتها 7.2% وكان ترتيبه 102 عالميًا، وخلال الأعوام 2013 و2014 و2017 شهدت الرباط تراجعًا كبيرًا في معدلات النمو رغم التصنيف العالمي المتقدم وفق مؤشرات التقييم الاقتصادي العالمية، ما يعكس حالة ازدواجية واضحة توثق تسييس مثل تلك التقارير وبعدها التام عن الواقع الفعلي، لذا كان لا بد من التحرك وبأقصى سرعة لإعادة ترتيب المشهد الاقتصادي من الداخل عبر شراكات اقتصادية فعلية مع المحيط العربي للمغرب.
وفي ظل تلك الوضعية كان التحرك نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات بين المغرب والعراق ضرورة حيوية، حيث احتل الملف الاقتصادي مرتبة الصدارة في جدول أعمال زيارة بوريطة واجتماعه مع نظيره العراقي الذي رجح “أن تشهد العلاقات الاقتصادية والتجارية مرحلة جديدة من خلال وضع آلية لجميع رجال الأعمال والمستثمرين في البلدين وتأسيس منتدى لرجال الأعمال لتطوير التعاون المشترك على المستوى الحكومي والقطاع الخاص والعمل على إحياء العلاقات التجارية بين البلدين”.
وأضاف فؤاد حسين أن إعادة افتتاح السفارة المغربية في بغداد “خطوة مهمة.. لبناء وتطوير العلاقات والصداقة” بين البلدين، و”مرحلة جديدة من العلاقات بين بغداد والمملكة المغربية”، معربًا عن أسفه إزاء العلاقات الاقتصادية “شبه المنعدمة”، مشددًا على ضرورة تعزيز “التعاون التجاري والاقتصادي في مختلف المجالات”، وقد تناولت المباحثات بين الوزيرين تسهيلات دخول رجال الأعمال والمواطنين العراقيين إلى المغرب “وإعادة النظر لأكثر من 40 اتفاقية بين البلدين بحيث تنسجم مع المتغيرات التي طرأت على البلدين خلال السنوات الماضية”.
طي صفحة الجمود في الملف السياسي بين العراق والمغرب بعد 18 عامًا من التعثر، هو إنجاز دبلوماسي بكل المقاييس، له تبعاته الاقتصادية الإيجابية
وفي أول تحرك رسمي إزاء هذا التنسيق الاقتصادي وانطلاق المرحلة الجديدة من العلاقات رفع المغرب الحجز عن الأموال العراقية الخاصة بمصرفي الرشيد والرافدين الحكوميين حسبما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية العراقية، أحمد الصحاف، وهي خطوة جيدة تعكس حسن النوايا المغربية في تعزيز العلاقات مع الجانب العراقي.
يذكر أن مجلس الأمن الدولي وفي إطار العقوبات الاقتصادية التي فرضها على العراق عقب حرب الخليج عام 1991 قد جمد أرصدة فروع مصرفي الرشيد والرافدين المملوكين للحكومة العراقية في عدة دول، وقد أثر ذلك على الاقتصاد العراقي طيلة السنوات الماضية، إذ كان بحاجة ماسة لتلك الأموال غير المحصاة لكنها تمثل أرقامًا كبيرةً في ظل الحجم السوقي للبنكين في ذلك الوقت حيث كانا من أكبر بنوك المنطقة.
وفي الأخير فإن طي صفحة الجمود في الملف السياسي بين العراق والمغرب بعد 18 عامًا من التعثر، هو إنجاز دبلوماسي بكل المقاييس، له تبعاته الاقتصادية الإيجابية، ليدخل البلدان منعطفًا جديدًا من التنسيق والتناغم السياسي والاقتصادي، لكن على الجانب الآخر فإنه قد يزيد توتير الأجواء بين العراق والجزائر من جانب، وبين الحكومة العراقية وطهران من جانب آخر.