طوع الرئيس التونسي قيس سعيد، لأكثر من سنة، كل مؤسسات الدولة دون استثناء لإنجاح الانتخابات التشريعية المبكرة، لأهميتها في برنامج حكمه السلطوي، رغم أن البلاد تشهد وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا حرجًا كان من الأولى التركيز عليه لتجاوزه أو بدرجة أقل محاولة الحد من تداعياته على المواطن.
في أغلب خطب الرئيس سعيد، كان التركيز على هذه الانتخابات، ليس لأهمية البرلمان القادم – فهو منزوع الصلاحيات – وإنما رغبة من سعيد في إضفاء مزيد من الشرعية على برنامجه الأحادي القائم على حكم الفرد الواحد.
رغم كل ذلك، كان مصير هذه الانتخابات المبكرة الفشل، وظهر ذلك في نسب العزوف والمقاطعة الكبيرة في كلتا الدورتين، وأيضًا في خسارة أغلب مساندي الرئيس وعدم تمكنهم من الصعود للبرلمان، وقد كانوا يظنون أن الطريق معبدة لذلك.
تطرح هذه المعطيات العديد من التساؤلات، لعل من بينها: هل يتلقى سعيد الرسالة التي أرسلت له في ظرف مضمون الوصول ويعدل الأوتار أم أنه ماض في طريقه غير مكترث بأحد؟ الأمر ذاته بالنسبة لقوى المعارضة، كيف ستتعامل مع هذه النتائج؟ هل سيتم استثمارها أم ستمر كغيرها؟
فشل ذريع
عقب الإعلان عن نسب التصويت في الدور الأول للانتخابات التشريعية المبكرة الذي نظم يوم 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أطل الرئيس سعيد على التونسيين قائلًا: “نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول بل بالدورتين”.
وفق سعيد فإن نسبة التصويت تحتسب بجمع النسب خلال الدورتين، دعنا إذا نطبق نظرية الرئيس، ونجمع نسبة التصويت في الدور الأول التي كانت 11.22% والنسبة في الدور الثاني التي لم تتجاوز 11.3%، ما يعني أن النسبة 22.52%، ولنقل فرضًا أن هذه المعطيات صحيحة، فلم تتجاوز نسبة التصويت خلال الانتخابات التشريعية المبكرة في تونس ربع عدد التونسيين الذين يحق لهم المشاركة في هذا الاستحقاق الانتخابي رغم المجهودات الكبيرة التي بذلتها مؤسسات الدولة في ذلك.
تم تعطيل الدراسة قبل يوم من موعد الانتخابات، كما تم تأجيل مواعيد المباريات الرياضية المبرمجة نهاية الأسبوع، ومنحت شارات تنقل في الطريق السيارة مجانًا، كما تم جلب المسنين من دور الرعايا، وتجندت كل المؤسسات مع ذلك ظلت النسبة ضئيلة.
تعتبر نسبة 11.3% وقبلها 11.22% من أقل نسب التصويت في العالم، إن لم تكن أقلها، ما يعني أن التونسيين سئموا من هذه العملية الانتخابية ومن المسار الذي اعتمده سعيد منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في يوليو/تموز 2021.
مع ذلك، شكك مراقبون مستقلون للانتخابات، في الإحصاءات الرسمية لنسبة الإقبال واتهموا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بحجب البيانات التي يعتمدون عليها لمراقبة نزاهة الانتخابات، فيما نفت الهيئة حجب الأرقام وقالت إن مسؤولي مراكز الاقتراع كانوا مشغولين للغاية بحيث لا يمكنهم التعاون مع المراقبين.
أبرز أصدقاء سعيد الذين خسروا في هذه الانتخابات، هو أحمد شفتر، المدافع عن فكرة “البناء القاعدي”
على امتداد ثلاثة أسابيع، بقيت الحملة الانتخابية باهتة كما كانت عليه في الدور الأول، ولم تعرف تونس تنافسًا انتخابيًا، عكس ما كانت عليه الأجواء خلال الانتخابات السابقة سواء في 2011 أم 2014 أم 2019، أم حتى في الانتخابات البلدية سنة 2018.
ويعتبر كبار السن، أكثر المشاركين في هذا الدور الثاني من الانتخابات، إذ سجلت الفئة العمرية أكبر من 46 سنة نسبة مشاركة قدرت بـ67.72%، فيما كان إقبال الشباب محدودًا، إذ لم تتجاوز النسبة لمن هم بين 26 و45 سنة 27.44%.
فشل مساندي سعيد في الوصول للبرلمان
لم تكن نسبة المشاركة ونسبة العزوف والمقاطعة العالية التي سجلتها الانتخابات التشريعية المبكرة، الصدمة الوحيدة التي تلقاها سعيد في هذا الخصوص، فأغلب أنصاره فشلوا أيضًا في حشد الشارع خلف مسارهم السياسي.
استطاع التونسيون حشر الرئيس سعيد وجماعته في الزاوية، إذ لم يمنح المشاركون في هذا الاستحقاق الانتخابي أصواتهم لجماعة قيس سعيد، وقطعوا طريق باردو أمامهم، لعدم اقتناعهم ببرنامجهم، أي برنامج سعيد.
ما يعني أن حتى المشاركين في هذه الانتخابات، لم يشاركوا اقتناعًا بأهميتها وأهمية برنامج قيس سعيد، وإنما شاركوا لأسباب أخرى، فإن كانوا مقتنعين ببرنامج الرئيس لكانوا صوتوا لجماعته ومنحهم مفاتيح برلمان باردو.
أبرز أصدقاء سعيد الذين خسروا في هذه الانتخابات، هو أحمد شفتر، المدافع عن فكرة “البناء القاعدي”، وهو مبدأ ينوي، بمجرد انتخابه، تطبيقه في دائرة جرجيس (جنوب)، لكنه فشل في الحصول على أغلبية الأصوات، ولم يتجاوز عدد المصوتين له آلفي شخص.
يرى المحلل السياسي التونسي سليم الهمامي في حديث لـ “نون بوست”، أن فشل جماعة سعيد في الوصول للبرلمان، يعتبر “ضربًا لسردية الرئيس وأنصاره بشأن شعبيته المزعومة، وتعرية فشلهم لا شعبيًا فقط بل على كل الأصعدة”.
ماذا بعد؟
“المؤكد أن المحطة الانتخابية شهدت فشلًا ذريعًا لا يمكن إخفائه لا بالخطابات الشعوبية فارغة المحتوى أو عبر البروباغندا الإعلامية التافهة”، وفق المحلل السياسي التونسي سعيد عطية، لكن في الوقت ذاته تساءل عطية “هل فهم الرئيس الرسالة؟”.
الإجابة وفق عطية، كانت بالنفي طبعًا، إذ قال في حديثه لـ “نون بوست”: “المؤكد أن الرئيس مستمر في مشروعه ولا ينصت لأحد ولا تهمه لا لغة الأرقام الانتخابية أو الاقتصادية، وبالنسبة له كل هذا يندرج في إطار مؤامرة كونية على برنامجه الخارق للعادة”.
ويؤكد عطية في حديثه أن الرئيس سعيد “لن يتزحزح ولن يتراجع قيد أنملة إلى الوراء، فهو لا يلق بالًا لفشل المحطة الانتخابية، ومصر على مواصلة تنزيل برنامج حكمه السلطوي دون اكتراث بأي شيء”.
في مقابل ذلك، يرى عطية أن فشل المحطة الانتخابية يمثل “سردية جديدة قابلة للترويج الإعلامي خاصة الخارجي بالنسبة للمعارضة”، مستدركًا بالقول “مع ذلك لن تستطيع المعارضة استغلال هذه الفرصة ولن تكون قادرة على تغيير الموازين داخل الشارع”.
أضاف محدثنا “قدرة المعارضة في التغيير شبه منعدمة لعدم قدرتها على تجديد نفسها من ناحية ونظرًا للإكراهات الاقتصادية القاسية التي جعلت المواطن يكره السياسة والسياسيين بصفة عامة، ما يعني أن الواقع لن يتغير في المدى القريب”، وفق قوله.
يقاسم سليم الهمامي سعيد عطية هذا الرأي، إذ يقول لـ “نون بوست” إن “رغم ضبابية الأمور ومواصلة سعيد قيادة تونس نحو المجهول، ورغم الضربات المتتالية لنظام الرئيس الأوحد، ليست هناك أي بوادر انفراج على المدى القريب”.
وتطالب أغلب الأحزاب التونسية، الرئيس قيس سعيد بالجلوس إلى طاولة الحوار على أساس دستور 2014، لوضع حد للأزمات التي تشهدها تونس، ومست كل القطاعات، فأي تأخير في الحوار ستكون نتائجه وخيمة على البلاد، لكن سعيد لا يصغ لأحد.
صحيح أنه لا توجد بوادر انفراج قريبة، لكن الضغوطات تزداد أكثر فأكثر، ما يفرض على سعيد التفكير مجددًا وفتح قنوات الاتصال والحوار مع باقي الأطراف السياسية والمدنية في البلاد، ذلك أن إصراره على مواصلة الطريق بهذا الشكل سيسرع بانهيار الدولة.