أعادت عملية إطلاق النار الأخيرة التي نُفّذت داخل مستوطنة “النبي يعقوب” في القدس وقُتل فيها 7 مستوطنين على يد الشاب الفلسطيني خيري علقم، مساء الجمعة 27 يناير/ كانون الثاني 2023، الضوء على الدور المتزايد للعمليات الفردية في منظومة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
برزت العمليات الفردية بالنسبة إلى الفلسطينيين اعتبارًا من “هبّة القدس”، أو ما عُرف باسم “هبّة السكاكين” عام 2015، والتي أوقعت أكثر من 35 قتيلًا من الإسرائيليين، و106 شهداء فلسطينيين، بينهم 12 طفلًا دون الثامنة عشرة من العمر.
تنوّعت العمليات في أشكالها وأدواتها، ففي بدايتها كان شكلها مقتصرًا على الطعن والدهس، ثم انتقل لاحقًا ليأخذ أشكالًا متنوعة أخرى كعمليات إطلاق النار باستخدام أدوات بدائية مثل “سلاح الكارلو” وبعض الأسلحة الرشاشة البسيطة.
“الكارلو” هو سلاح يدوي بدائي الصنع، أُطلق عليه خلال الانتفاضة الأولى “سلاح الفقراء” نظرًا إلى انخفاض سعره، وبات رمزًا من رموز المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي خاصة خلال انتفاضة القدس، ويستخدم السلاح رصاصة من عيار 9 ملم، كما أن مخزن البندقية يتّسع لحوالي 25 رصاصة من هذا العيار.
في المقابل، برز سعي الاحتلال الإسرائيلي لترويج اسم “الذئاب المنفردة” على منفّذي هذه العمليات، في ضوء فشله أمنيًّا وعسكريًّا في وضع خطة لمنع حدوثها، باستثناء التعامل الميداني مع المنفّذين فقط عند محاولتهم لتنفيذ هذه العمليات.
أما فلسطينيًّا، فإن هذا الوصف الإسرائيلي تمَّ نبذه ورفضه تمامًا، على اعتبار أن الإسرائيليين يسعون للترويج ما بين هذا الوصف والمنفّذين وما بين العمليات التي نفّذها تنظيم “داعش” في دول العالم، والتي كانت تروّج بالوصف ذاته.
ويُعتقد على نطاق واسع أن أهم ميزات العمليات الفردية الحالية تكمن في توزيعها الجغرافي، فمن حيث الموقع نُفّذت هذه العمليات في مختلف المدن الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية المحتلة أو القدس المحتلة أو الأراضي المحتلة عام 1948.
وخلال السنوات التي تلت عام 2015، تطورت العمليات الفردية بشكلٍ لافت من ناحية القدرة على تحقيق الخسائر في صفوف الاحتلال الإسرائيلي، مقارنة مع البدايات الأولى لها، والتي شهدت أعدادًا كبيرة من المنفّذين مقابل حجم خسائر محدود في صفوف الاحتلال.
“الذئاب المنفردة”.. لماذا تطلق “إسرائيل” هذا الوصف على المقاومين؟
اعتاد الاحتلال الإسرائيلي وإعلامه لسنوات إطلاق وصف “المخرّبون” على منفذي العمليات، سواء عملوا في إطار تنظيمات فصائلية أو نفّذوا هجماتهم بتخطيط فردي مباشر، لكنّ مصطلح “الذئاب المنفردة” قفز إلى الواجهة الإعلامية في العامَين الماضيَين بشكلٍ لافت.
مسمّى “الذئاب المنفردة” ليس حديثًا، إذ ظهر للمرة الأولى عام 1990 لكنه كان مرتبطًا بـ”الإرهاب”، حيث كان ظهوره الأول في أمريكا، حين دعا عنصريان أمريكيان الخلايا الفردية والصغيرة إلى العمل بسرّية تامة، ومنذ ذلك التاريخ ظهرت في الولايات المتحدة هجمات عنصرية ترتكبها هذه المجموعات بصفة منفردة من دون هرم تنظيمي، وكان هدفهم القبض على غير البيض وترويج اغتيالهم.
لكن المصطلح بعد ذلك أصبح أكثر التصاقًا بعناصر تنظيمَي القاعدة و”داعش”، الذين ينفذون اعتداءات ضد المدنيين في مدن عديدة في العالم، منها مدن أوروبية، وشاع في الإعلام كتيّب قيل إن تنظيم القاعدة أعدّه، متضمّنًا الوصايا والنصائح لمنفّذي هجمات “الذئاب المنفردة”، كونهم يقومون بهجماتهم من دون اتصال وإشراف من أحد.
فلسطينيًّا، برز المصطلح بشكل لافت وواضح بعد عمليات نُفّذت في الأراضي المحتلة عام 1948، كان أولها في 22 مارس/ آذار 2022 وكان المنفّذ هو محمد أبو القيعان، أما العملية الثانية والتي نُفّذت في 27 مارس/ آذار من العام ذاته، والتي قُتل فيها شرطيان إسرائيليان، فقد نفّذها أيمن اغبارية وخالد اغبارية، وسعى الإعلام الإسرائيلي والمنظومة الأمنية الإسرائيلية لترويج المصطلح ذاته.
كان الاعتقاد السائد أن سبب استخدام هذا المصطلح يعود لكون منفّذي العمليات يحملون “الهوية الإسرائيلية”، كونهم من فلسطينيي الداخل، لكنّ استعمال المصطلح نفسه تواصل لوصف منفّذي عمليتَي تل أبيب في 29 مارس/ آذار و7 أبريل/ نيسان 2022، ضياء حمارشة ورعد حازم، وهما فلسطينيان من مناطق الضفة الغربية، عبرا الجدار الفاصل لتنفيذ عمليتَي إطلاق نار على إسرائيليين في منطقتَي بني براك وشارع ديزنغوف بتل أبيب.
يعني هذا أنّ الإعلام العبري قرّر تعميم هذه التسمية على الفلسطينيين من منفّذي عمليات المقاومة الفردية، أيًّا كانت انتماءاتهم، عوضًا عن مصطلح “المخرّبين”، وهكذا يوحّد الإعلام العبري، ومعه الإعلام الغربي الذي يتبنّى الرواية الإسرائيلية، مرة أخرى بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال، مصوّرًا مساعي الفلسطينيين إلى التحرُّر من الاحتلال الإسرائيلي على أنها هجمات إرهابية كالتي تعرّضت لها مدن أمريكية وأوروبية سابقًا.
العمليات الفردية: فشل الحلول الأمنية والعسكرية.. الأسباب والتداعيات
سعى الاحتلال عسكريًّا وأمنيًّا عبر منظومته لمواجهة العمليات الفردية بشتى السبل والوسائل، غير أن كل جهود المنظومة الأمنية والعسكرية تذهب هباء الريح أمام الإرادة الفلسطينية، وتحديدًا منفّذي هذه العمليات على اعتبار أنها غير مرتبطة بهرم تنظيمي ومن دافع شخصي.
من أسباب الفشل الإسرائيلي أن العمليات الفردية ذاتية التنفيذ، ومن ينفّذها أشخاص من خارج إطار الشك الأمني الإسرائيلي، إضافة إلى أن الجيل الحالي متقارب السلوك ولا يمكن لـ”إسرائيل” تتبُّعه، إضافة إلى التحفيز والرغبة والعيش على انتصارات المقاومة.
إسرائيليًّا، يؤكد المراسلون العسكريون أن المنظومة الأمنية والعسكرية لا يمكن لها تتبُّع الحالة العامة وتحديد ماهية المقاومين، الأمر الذي يتسبّب في معضلة لا يمكن للاحتلال مواجهتها، إضافة إلى حالة الترهُّل التي أصابت المنظومة الأمنية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة.
خلال الفترة الماضية، سعى خبراء الأمن لدى الاحتلال للتفكير في أدوات الوقاية أو الردع كأفضل حلّ لهذه العمليات، لكن في النهاية بات من الصعب توفير كل هذه الأدوات، إذ إن أكثر ما كان يركّز عليه خبراء الاحتلال هو بناء التصور للأشخاص الذين قد ينفّذون عمليات، إلا أن هذا التصور كُسر، فمثلًا كانوا يعتقلون أشخاصًا في العشرينات عندهم دوافع وطنية غير متزوجين، ولكن من يقوم بالتنفيذ أشخاص في سنّ الأربعين ولديهم أطفال ووضعهم المالي جيد.
يمكن القول إن أقصى ما عملت المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وأقصى ما يمكن التركيز عليه لمواجهة هذه العمليات، هو العقوبات كهدم المنازل، وقد أثبتت التجربة عدم جدواها من خلال استمرار تنفيذ العمليات.
وتركزت المعالجة الإسرائيلية على تفعيل قانون التسلل الذي سُنّ في عام 1954، والذي يتيح القتل أو السجن والغرامة لكل مَن يقترب من الحدود الإسرائيلية ضمن مسافات قصيرة جدًّا، إضافة إلى إغلاق فتحات الجدار التي يتسلّل منها المقاومون وغيرهم.
ارتفعت عمليات القتل الإسرائيلي والتصفية الميدانية خلال عام 2022، حيث تسبّبت ذلك في استشهاد 224 شهيدًا ارتقوا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، بينهم 59 شهيدًا من محافظة جنين، إضافة إلى بقية شهداء المحافظات الأخرى.
لقد أوقعت العمليات الفردية الأخيرة خسائر بشرية ومعنوية قياسًا بالحسابات الإسرائيلية، ورفعت من نِسَب الخوف في صفوف المستوطنين الإسرائيليين الذين أصبحوا غير آمنين في المدن المركزية، وصار التفوق الأمني والعسكري الهائل غير قادر على إزالة التهديد الذي يقوّض أمن الإسرائيليين، والذي تسبّبه مبادرات الشبان الفردية، الأمر الذي أحرج الحكومة والمؤسسة الأمنية على حد سواء، واللتين تتجاهلان بالكامل ضرورة إيجاد حل للصراع مع الشعب الفلسطيني ينهي الاحتلال والسيطرة على شعب، ويوقف جرائم المستوطنين والفاشية الدينية اليهودية.
هل تتصاعد المقاومة المنظَّمة أم الفردية؟
تشير البيانات الصادرة عن جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك”، إلى أن عام 2022 شهد زيادة مضطردة في عدد العمليات ضد المستوطنين وجنود الاحتلال بواقع 1933 عملية، أدّت إلى مقتل 29 جنديًّا ومستوطنًا إسرائيليًّا وجرح نحو 128 آخرين، بزيادة واضحة عن العام السابق 2021 الذي شهد 1570 عملية قُتل فيها 18 مستوطنًا إسرائيليًّا وأُصيب 196 آخرين.
تبدو هذه الزيادة مرشّحة للاستمرار في ظل استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وآخرها مجزرة جنين التي ارتقى خلالها 9 شهداء على يد الاحتلال، قبل أن يتمَّ تنفيذ عمليتَي القدس.
عند الحديث عن إمكانية تصاعد عمليات المقاومة المنظمة التي تنظمها الخلايا العسكرية، مثل عرين الأسود أو كتيبة جنين وغيرها من الخلايا المحسوبة على المقاومة، مقارنة مع العمليات الفردية، يجب الإشارة إلى أن ما جرى يعكس بشكل نسبي فشل عمليات الهندسة الاجتماعية، وجهود تحييد الجماهير في الضفة الغربية، وكذلك استعادة ثقافة المقاومة في الضفة الغربية بالتأثُّر بمشهدية الحرب المتلفزة في غزة عام 2014 وعام 2021، وبوعي الجماهير الغريزي بفشل مشروع التسوية وانسداد آفاقه، وتعاظُم التهديدات الاستعمارية الإسرائيلية، لا سيما فيما يخصّ المسجد الأقصى، العنوان الأبرز لأكثر محطات الحالة الكفاحية المفتوحة.
يمكن القول إن الحكومة الائتلافية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو ووزرائه المحسوبين على أحزاب “الصهيونية الدينية”، سيدفعون نحو تصاعد العمليات الفلسطينية خلال الفترة المقبلة، لكن تحديد وجهتها فردية أم منظمة سيبقى مرتبطًا بقدرة الفصائل الفلسطينية على إسناد الخلايا العسكرية المحسوبة عليها، لا سيما في مناطق جنين ونابلس شمالي الضفة المحتلة.
إلا أن غلبة الطابع الفردي للعمليات يعكس ظرف الحركة الوطنية في الضفة الغربية، بعدما استنزفت فصائل المقاومة كادرها وصفّها في الانتفاضة الثانية دون قدرة على استيعاب الخسائر، ثم بعد الانقسام، حينما استهدفت السلطة الفلسطينية، لا حركات المقاومة أو خصمها التقليدي حماس فحسب، بل مجمل الحركة الوطنية على النحو الذي سبق وصفه، ومن ثم بدأت الجماهير في أخذ زمام المبادرة، بعدما كان العمل المنظم هو الطاغي على التاريخ الكفاحي للفلسطينيين.
بالمجمل، ستواصل المقاومة الفلسطينية حاليًّا التنوع والتطور فرديًّا وتنظيميًّا مع انتشار الخلايا العسكرية في أكثر من منطقة بالضفة المحتلة، حتى إن ظلت محصورة حتى اللحظة في مدن وقرى شمالي الضفة الغربية المحتلة.
تطور وتنوع.. كيف تنوعت أساليب المقاومة الفردية؟
قبل عام 2007 كانت المقاومة الفلسطينية في الضفة والقدس المحتلتَين منظمة بطريقة عسكرية عبر خلايا تتبُّع للفصائل والأذرع العسكرية التابعة لها، تعتمد على عمليات التفجير وتفجير الباصات والأحزمة الناسفة، إلى جانب الاشتباكات المنظَّمة واستهداف المستوطنين والجنود.
لكن بعد عام 2007 مرّت الضفة بحالة من الهدوء والمقاومة المحدودة بفعل التنسيق الأمني والاستهداف الإسرائيلي حتى عام 2014، وبعد حرب غزة عادت الضفة للفعل المقاوم بالشكل الفردي عبر عمليات الطعن بالسكاكين.
في مرحلة لاحقة، دخلت عمليات الدهس على خط العمل المقاوم الفلسطيني لتعزز عمليات الطعن، وظلت هاتان الوسيلتان حاضرتَين حتى برزت في وقتٍ لاحق أدوات جديدة، كالزجاجات الحارقة التي تستهدف مركبات المستوطنين وسياراتهم.
ولاحقًا دخل سلاح “الكارلو” على خط المواجهة من خلال الاشتباك الفردي، سواء بتنفيذ العمليات في شوارع الضفة المحتلة أو القدس أو حتى في الداخل الفلسطيني عام 1948، وهو ما أكسب المقاومة الفردية تنوعًا في الأدوات والأساليب المستخدَمة.
ما هو متوقع أن المقاومة الفردية ساهمت بشكل واضح في مرحلة المقاومة المنظمة الحاصلة حاليًّا، وهو ما يعني أن الكثير من المقاومين الباحثين عن الفعل المقاوم سينخرطون خلال الفترة المقبلة في التشكيلات العسكرية للفصائل أو بتنفيذ عمليات فردية.