وضعت عملية القدس الأخيرة التي نفّذها الشاب خيري علقم، الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو في مأزق كبير، أحرجته أمام جمهور المستوطنين، لا سيما أن العملية كانت كبيرة وموجعة جاءت في توقيت حسّاس يجعل من الصعب تخطيها.
تلك العملية المنفردة التي قُتل فيها 8 اسرائيليين، جاءت انتقامًا لـ 9 فلسطينيين قتلهم جنود الاحتلال في مخيم جنين، وتأتي في ظل أجواء متوترة تعيشها حكومة نتنياهو مع جمهورها الداخلي، وليحتوي غضبهم توعّدَ الفلسطينيين بالرد بـ”يد ثقيلة” واتخاذ سلسلة من الإجراءات العقابية، ومنها التعهُّد بتسليح آلاف المستوطنين الإسرائيليين.
ليست المرة الأولى التي يتم فيها التلويح بتسهيل عملية تسليح المستوطنين الذين يسكنون في بؤر استيطانية داخل مدن الضفة المحتلة، فقد سبق نتنياهو عددًا من الوزراء المتطرفين، وأبرزهم كان وزير الأمن الداخلي آنذاك، يتسحاق أهرونوفيتش، حين قرر في عام 2014 تسهيل وزيادة تسليح المستوطنين.
وبعد أقل من أسبوع على قرار أهرونوفيتش بـ”تسهيل وزيادة تسليح الجمهور الإسرائيلي”، وتحديدًا في القدس، ارتفع عدد الإسرائيليين المقبلين على شراء الأسلحة عشرة أضعاف مقارنة بالإقبال الطبيعي.
لم يكن القرار مفاجئًا حينها بالنسبة إلى الفلسطينيين، الذين اعتادوا رؤية المستوطنين في الشوارع الرئيسية بين المدن وهم مسلحون بأكثر الأسلحة تطورًا.
حجم الأسلحة التي يمتلكها المستوطنون
وفق معطيات أمنية إسرائيلية ذكرتها صحيفة “هاآرتس” العبرية، فإن نحو 148 ألف مستوطن ومواطن إسرائيلي يحملون رخصة حمل سلاح حاليًّا، وهذا العدد الكبير لا يشمل جنود الاحتلال وأفراد الشرطة الإسرائيلية والحرّاس وغيرهم.
مستوطنة “أريئيل” تتصدر نسبة حاملي السلاح بنحو 9.2%.
وأضافت الصحيفة أن 86 من بين 100 بلدة نسبة حاملي السلاح فيها مرتفعة، وهي مستوطنات في الضفة الغربية، وتتصدر مستوطنات “أدورة” في جنوب جبل الخليل و”كريات نتافيم” و”نغوهوت” الأماكن التي توجد فيها أعلى نسبة من حملة السلاح، وتصل فيها النسبة إلى ثُلث سكانها، والنسب المرتفعة لحملة في بلدات داخل “إسرائيل” وليس في الضفة الغربية هي بلدات حدودية بغالبيتها.
وأوضحت “هاآرتس” أن مستوطنة “أريئيل” تتصدر نسبة حاملي السلاح بنحو 9.2%، ومستوطنة “معاليه أدوميم” بنسبة 6%، وتليها قرية المغار بنسبة مشابهة، وفي المقابل إن نسبة حاملي السلاح في تل أبيب والقدس هي 1.5% تقريبًا، وفي حيفا 1.8%.
رخصة لقتل الفلسطينيين وخلق ظواهر سلبية
ولقرار تسليح المستوطنين خطورة كبيرة على حياة الفلسطينيين في الضفة والقدس المحتلة، فهو يأتي بمثابة ضوء أخضر يمنح المستوطنين ارتكاب جرائم قتل وإعدام ميداني لأي فلسطيني ودون أي عقاب أو مساءلة، وهو يخالف القوانين الإنسانية والدولية كافة.
ويقول عصمت منصور، المختص في الشأن الإسرائيلي، إن ظاهرة العمليات الفردية الأخيرة التي ينفّذها الفلسطينيون في القدس والداخل المحتل يصعب على الاحتلال وقفها، لذا لجأ إلى سياسة تسليح المستوطنين للتصدي للمقاومة ومنفّذي العمليات.
ويرى منصور خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن التهديد بتسليح المستوطنين هو إعلان ضمني بأن حكومة نتنياهو والمنظومة الأمنية الإسرائيلية تقف عاجزة عن مواجهة العمليات في الضفة والقدس.
ويؤكد أن نتنياهو لا يمتلك أدوات جديدة لمنع العمليات الفلسطينية، أو أدوات مختلفة عمّا كان بحوزة الحكومة السابقة، لذلك يبحث عن قرارات جديدة لاحتواء غضب الجمهور الإسرائيلي.
ويشير منصور إلى أن تداعيات قرار التسليح خطيرة، خاصة في ظل التحريض عبر خطاب الكراهية المستمر، ما سيحوّل الاحتكاك اليومي مع الفلسطيني إلى نزوة إسرائيلية، وبالتالي يصبح كل إسرائيلي يشعر بأن لديه رخصة لقتل الفلسطينيين.
وتطرّق منصور إلى نقطة هامة، وهي أن القرار سيخلق ظواهر سلبية ومنها الإتجار بالسلاح، ما قد يؤدي إلى انزلاق بعض الفلسطينيين في هذا المجال الذي سيكون خطرًا عليهم.
يعترف الإنجليز في الوثيقة نفسها بأنهم هم من سلّح اليهود.
وفي الوقت الذي يعمل فيه الاحتلال على تسهيل حمل المستوطنين للسلاح، يراقَب ويلاحَق أي فلسطيني يصنع أو يمتلك السلاح، ويعلق المختص في الشأن الإسرائيلي منصور بالقول: “يحارب الاحتلال وصول السلاح للفلسطيني عبر محاصرة مصادر تهريبه وتمويله والتجارة فيها ويسجّل نجاحات بذلك، وكل ما يمرّ بعملية تناقل الأسلحة بين الفلسطينيين يكون تحت أعينه، بحيث يميز سلاح المقاومة ويتغاضى عن سلاح الخلافات الداخلية”.
ويؤكد منصور أن هناك مراقبة كبيرة لمن يحمل السلاح من الفلسطينيين، حيث يتم ملاحقة كل من يحصل على قطعة سلاح أو يصنعها، بحيث تكون عقوبته كبيرة بالسجن لمدة طويلة.
الانتداب البريطاني نزعَ السلاح من الفلسطينيين وسمح لليهود اقتناءه
منذ الانتداب البريطاني هناك تمييز كبير لصالح اليهود، حيث ساهمت حيازتهم للسلاح بحرّية في وقوع جرائم بحقّ الفلسطينيين.
البداية كانت حين سمحت الحكومة البريطانية للجنة صهيونية بقيادة حاييم وايزمن بالإشراف على أوضاع اليهود في فلسطين، وتسهيل دخولهم ومساعدتهم في تشييد المستعمرات اليهودية الناشئة، من خلال الأوامر العسكرية وفرض التشريعات، فشكّلت تلك اللجنة حلقة اتصال بين اليهود والسلطات البريطانية، بل إن اليهود في فلسطين شغلوا في تلك الفترة معظم المناصب العليا في حكومة فلسطين التي خضعت لسلطة بريطانيا.
وسمحت السلطات البريطانية للجنة الصهيونية بإنشاء حراسة خاصة لحماية المستعمرات، فأسّست الحركة الصهيونية في يونيو/ حزيران 1921 وحدات الدفاع الذاتي “الهاغاناه”، وقامت السلطات البريطانية بتسليح وتدريب اليهود ومدّتهم بالسلاح، وتغاضت عن عمليات تهريبهم للأسلحة ميسّرة طرق وصولها إليهم.
اعترف الإنجليز في وثائقهم بـ”أن قتلى العرب من البنادق الإنجليزية، أما قتلى اليهود فهي نتيجة الطعن بالسكاكين والهراوات”
مقابل ذلك، ومنذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، أخضعت السلطات البريطانية جميع الأراضي الفلسطينية أمنيًّا لسيطرة الجيش البريطاني، ووقفت ضد أي محاولات أو مساعٍ لتسليح الفلسطينيين، بل سنّت قوانين تحظر حصولهم على السلاح أو اقتناءهم له، وعاقبت بشدة كل مَن امتلك مجرد بندقية، فقد كان يصل حكم من يحمل السلاح إلى الإعدام.
مثلًا، يوجد ملف في أرشيف وزارة المستعمرات البريطانية يرجع تاريخه إلى عام 1929، أي فترة حوادث البراق الشريف، ومن المفروض أن يتم نشره عام 1979، لكن الإنجليز أجّلوا نشره آنذاك لأنها تمسّ سمعة بعض الإنجليز الأحياء أو العرب أو اليهود الأحياء، أو أن الإنجليز قاموا بأعمال مخالفة للقوانين الدولية.
وقد حصلت حوادث البراق الشريف بين المسلمين واليهود بتاريخ 23 أغسطس/ آب 1929، واعترف الإنجليز في وثائقهم بـ”أن قتلى العرب من البنادق الإنجليزية، أما قتلى اليهود فهي نتيجة الطعن بالسكاكين والهراوات”، ويعترف الإنجليز في الوثيقة نفسها بأنهم هم الذين سلحّوا اليهود.
أبشع الجرائم التي اُرتكبت بحقّ الفلسطينيين
منذ عقود طويلة تشهد الأراضي الفلسطينية سلسلة من الجرائم الوحشية ضد ساكنيها من قبل المحتل، يستعرض “نون بوست” مجموعة من المذابح وأعمال التصفية التي تمَّ تنفيذها ضد الشعب الفلسطيني في القرن الـ 20 والممتدة حتى القرن الـ 21، والتي نُفّذت على عصابات المستوطنين مثل الهاغاناه وشتيرن والإرغون.
مذبحة بلد الشيخ: قامت العصابة الصهيونية الهاغاناه بتنفيذها بتاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأول 1947 بمهاجمة بلد الشيخ -يطلق عليها اليوم اسم تل حنان- ولاحقت المواطنين العزّل، وقد أدّت المذبحة إلى مصرع العديد من النساء والأطفال، وكانت حصيلة المذبحة نحو 60 شهيدًا وُجدت جثث غالبيتهم داخل منازل القرية.
مذبحة دير ياسين: هي عملية إبادة وطرد جماعي نفّذتها في أبريل/ نيسان 1948 مجموعتا الإرغون وشتيرن الصهيونيتان في قرية دير ياسين الفلسطينية غربي القدس، كان معظم ضحايا المجزرة من المدنيين ومنهم أطفال ونساء وعجزة، ويتراوح تقدير عدد الضحايا بين 250 و360 حسب المصادر العربية والفلسطينية.
مذبحة الطنطورة: وقعت بعد شهر تقريبًا من مذبحة دير ياسين عام 1948، واستكمالًا للهدف الصهيوني الرئيسي المتمثّل بعملية التطهير العرقي للبلاد بقوة السلاح والترهيب للسكان، تمهيدًا لتهجير أكبر عدد من المواطنين الفلسطينيين، تركت مذبحة الطنطورة أثرًا بالغًا على الفلسطينيين في القرى المجاورة ومهّدت لتهجيرهم بالفعل، بعدما قُتل فيها حوالي أكثر من 200 فلسطيني. اختار جيش الاحتلال هذه القرية بالذات بسبب موقعها على ساحل البحر المتوسط وسهولة مهاجمتها، متذرّعين أن القرية تمثل تهديدًا لهم، واتّهموا أهلها بتحويلها لمرفأ يصل منه السلاح للفلسطينيين.
مذبحة الأقصى: في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1990 حاول متطرّفون يهود ممّا يُسمّى بجماعة أمناء جبل الهيكل وضع حجر الأساس لما يُسمّى بالهيكل الثالث في ساحة المسجد الأقصى، فوقف أهل القدس على عادتهم لمنع المتطرفين اليهود من ذلك، فوقع اشتباك بين المصلين والمتطرفين الذين يقودهم غرشون سلمون، فتدخّل على الفور جنود الاحتلال الموجودون في ساحات المسجد وأمطروا المصلين بالرصاص، ما أدّى إلى مقتل 21 وإصابة 150 بجروح مختلفة واعتقال 270 شخصًا.
مذبحة الحرم الإبراهيمي: نفّذها باروخ غولدشتاين في مدينة الخليل فجر يوم الجمعة 15 رمضان 1414هـ/ الموافق لـ 25 فبراير/ شباط 1994، والتي قام بها بالتواطؤ مع عدد من المستوطنين والجيش بحقّ المصلين، حيث أطلق النار على المصلين المسلمين في المسجد الإبراهيمي أثناء أدائهم الصلاة، وقد استشهد 29 مصليًا وجرح 150 آخرين قبل أن ينقضّ عليه مصلون آخرون ويقتلوه.
في المحصلة، إن إعادة تكرار الإجراءات العقابية التي تتبعها “إسرائيل” منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية، والتي ورثتها عن الانتداب البريطاني، ما هي إلا “إعلان إفلاس لحكومة نتنياهو”، لاسترضاء المستوطنين وإقناعهم أنها توفّر لهم الأمن والحماية، في ظلّ عمليات المقاومة الفردية المتصاعدة التي تكشف هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية.