يواجه الفلسطينيون سلسلة من الإجراءات العقابية التي تتخذها حكومات الاحتلال الإسرائيلي أمام حالة الفشل في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني، بالذات مع تصاعد العمليات سواء الفردية أو الجماعية المنظَّمة.
ومع صعود حكومة بنيامين نتنياهو ودخول أحزاب “الصهيونية الدينية” إلى سدّة الحكم في الاحتلال مطلع العام الجاري 2023، بدأ بعض الوزراء يلوّحون بالعقوبات الجماعية كأداة لمواجهة العمليات الفردية والمقاومين الفلسطينيين في الضفة والداخل المحتل عام 1948.
غير أن اللافت في كثير من هذه العقوبات التي تستهدف المقاومين الفلسطينيين وعوائلهم، أنها تعود إلى حقبة ما قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، أي فترة الانتداب البريطاني، مثل الترحيل أو الاعتقال أو حتى الغرامات المالية والإعدام.
في المقابل، يتعامل المراقبون العسكريون والمختصون في الشأن الأمني الإسرائيليون مع هذه الإجراءات التي تلوّح بها حكومة نتنياهو والوزراء، وتحديدًا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، على أنها تعكس حالة الإفلاس والدوران في حلقة مفرغة، إلى جانب محاولة استرضاء المستوطنين في ظل تصاعد العمليات.
وعند الحديث عن العقاب الجماعي، يجب الإشارة إلى ما يواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال الإسرائيلي حاليًّا، من سعي إسرائيلي لسنّ قوانين تبيح إعدام منفّذي العمليات منهم، وإبعاد آخرين إلى خارج مناطق سكنهم ومدنهم وسحب الهويات منهم.
العقوبات في السجون.. منذ العهد البريطاني
وفق المراجع التاريخية، جرى اعتقال الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني والعربي منذ صدور قرار وعد بلفور وخلال الاحتلال البريطاني لفلسطين، وحسب المصادر التاريخية فإن الاعتقالات كانت بالجملة وشملت كل فئات الشعب الفلسطيني والعربي مصحوبة بعقوبات تعسُّفية عديدة، وقد تضاعفت حملات الاعتقال بعد ثورة القسام عام 1935 والثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، والتي امتدت 6 شهور.
تصاعدت عمليات الإعدام بعد الثورة عام 1936 وفق قوانين الطوارئ، حيث نفّذت سلطات الانتداب البريطاني 148 حكمًا بالإعدام.
عام 1936، وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى، اعتقلت قوات الانتداب البريطاني قرابة 15 ألف فلسطيني في الوقت الذي كان جميعهم يعرَض على محاكم عسكرية بريطانية، فيما كانت القرارات في منتهى القسوة، وهو ما يتحقق اليوم عبر عمليات الاعتقال الجماعي التي تنفّذها سلطات الاحتلال.
ومع الحديث عن عقوبة الإعدام بحقّ الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية في ظل حكومة نتنياهو، فإن المحاكم العسكرية البريطانية فرضت هي الأخرى هذه الأحكام على المئات من الثوار الفلسطينيين والعرب، حيث كان الإعدام يتمّ في سجن عكا وسجن القدس المركزي المسكوبية.
وخلال فترة 1920-1930 أُعدم ما بين 2 إلى 8 فلسطينيين في سجن عكا، كان من أبرزهم محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي على خلفية انتفاضة البراق، وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1937 تمَّ إعدام الشيخ فرحان السعدي لنشاطه وقيادته للثورة، وهو كبير في السن في الثمانينات، وأُعدم وهو صائم في شهر رمضان.
وقد تصاعدت عمليات الإعدام بعد الثورة عام 1936 وفق قوانين الطوارئ، حيث نفّذت سلطات الانتداب البريطاني 148 حكمًا بالإعدام، وكان واضحًا من السياسة البريطانية في مواجهة الثورة المندلعة أنها استخدمت أشد الأساليب عنفًا وقسوة في معاملة الثوار والسكان.
تصاريح العمل
اعتمد الاحتلال الإسرائيلي في أعقاب احتلاله لفلسطين عام 1948 على سياسة العصا والجزرة، فهو تارةً يذهب نحو فرض قوانين وإجراءات عقابية ضد الفلسطينيين، وتارةً أخرى يسعى لامتصاص حماسهم ومقاومتهم وحراكهم الشعبي بسلسلة من التسهيلات الحياتية.
ومع تصاعد العمل المقاوم، وظّفت “إسرائيل” تصاريح العمل كأداة ردع لمنع المزيد من العمليات، ولربط وقوعها بالتقييدات على حرية التنقُّل، والتضييق على لقمة العيش، حيث تحوّل التصريح إلى “عقوبة جماعية” تطال عددًا كبيرًا من الناس في محاولة لدفعهم إلى نبذ أيّ فعل مقاوم بوصفه مدمّرًا لحياة الناس، وتحوّل صاحب هذا العمل إلى مُدان من الفلسطينيين أولًا لأنه يمسّ حياتهم بفعله، وربما يمكن اعتبار ذلك أحد أشكال كَيّ وعي الفلسطيني.
وعلى سبيل المثال، قامت سلطات الاحتلال بإلغاء التصاريح خلال هبّة عام 2015 وما تلاها من عمليات فدائية، في فبراير/ شباط 2016 مثلًا، قرّر منسّق الحكومة الإسرائيلية تجميد تصاريح أبناء عائلات أبو الرّب وكميل ونصار من بلدة قباطية في جنين، بعد قيام ثلاثة من أبناء هذه العائلات بعملية طعن وإطلاق نار في القدس المحتلة.
منذ مطلع عام 2023 سحب الاحتلال مئات التصاريح من العمل على صعيد الضفة المحتلة والقدس، بالإضافة إلى القطاع الذي سحب منه 230 تصريحًا بحجّة مشاركة أقارب العمّال في التحريض على تنفيذ عمليات بالضفة ضد الاحتلال.
وفي يونيو/ حزيران 2016، وعقب عملية إطلاق نار نفّذها خالد ومحمد مخامرة في تل أبيب، جمّدت “إسرائيل” 83 ألف تصريح من الضفة الغربية، ومئات التصاريح من غزة، إضافة إلى تجميد 204 تصاريح تعود لأشخاص من عائلة المنفذين.
وفي أغسطس/ آب 2017 تقرر سحب 1000 تصريح عمل من فلسطينيين من عائلة أبو عرام من يطا في الخليل، بعد تنفيذ إسماعيل أبو عرام عملية طعن ضدّ مستوطن، كما تكرر الأمر مع عائلة الجمل من بيت سوريك، شمال غرب القدس، فقد سُحب 150 تصريح عمل من أفراد العائلة عقب عملية نفّذها نمر الجمل في مستوطنة هار آذار.
ومنذ مطلع عام 2023 سحب الاحتلال مئات التصاريح من العمل على صعيد الضفة المحتلة والقدس، بالإضافة إلى القطاع الذي سحب منه 230 تصريحًا بحجّة مشاركة أقارب العمّال في التحريض على تنفيذ عمليات بالضفة ضد الاحتلال.
قانون الإعدام.. اللعب بالنار
مع تصاعد حالة المقاومة في الضفة والقدس المحتلتَين، ومع حضور بن غفير المتطرف في حكومة نتنياهو، عاد الحديث عن إقرار قانون الإعدام في كنيست الاحتلال بصورة رسمية، من أجل تنفيذ الإعدام بـ”الكرسي الكهربائي” بحقّ الأسرى منفّذي العمليات.
ومن شأن هذا القانون أن يفجّر الأوضاع على كل الجبهات فيما لو تمَّ تنفيذه بعد إقراره، لا سيما مع المقاومة في غزة التي لن تقف متفرّجة في ظل تحذيرها المتكرر ممّا يجري داخل السجون الإسرائيلية من انتهاكات تبقى أصغر من جريمة الإعدام.
ومع طرح وزير الأمن القومي، بن غفير، لهذا القانون، ينبغي الإشارة إلى أن هذا القانون تمَّ طرحه عام 2017، إذ كان مشروع القانون يتيح تنفيذ حكم الإعدام على فلسطينيين من سكان الضفة الغربية أُدينوا بارتكاب عمليات ضد أهداف إسرائيلية.
وقد حظيَ بتأييد الائتلاف الحكومي حينها، والغريب أنها كانت خلال فترة حكومة بنيامين نتنياهو، وكانت الذريعة حينها محاولة ردع المقاومين الفلسطينيين، وفي يوليو/ تموز 2017 رفض الكنيست الإسرائيلي بأغلبية أعضائه إقرار القانون.
وحكم الإعدام منصوص عليه في القانون الإسرائيلي، إلا أن السلطات لا تطبّقه استنادًا إلى تعاليم الدين اليهودي، وتكتفي بأحكام السجن لمدد طويلة تصل إلى مئات السنين، وتزعم وسائل الإعلام الإسرائيلية أن حالة الإعدام الوحيدة في “إسرائيل” نُفّذت عام 1962 بحقّ المقدم الألماني أدولف إيخمان، حيث اختطفه عملاء الموساد الإسرائيلي عام 1960 ونقلوه إلى القدس المحتلة، ثم شنقوه وأحرقوا جثته بعد محاكمة قضائية معقّدة تمَّ بثها عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية المرئية، وأخذت زخمًا عالميًّا كبيرًا.
ومع هذه التحركات التي يقوم بها بن غفير، فإن تنفيذ عقوبة الإعدام ضد المقاومين الفلسطينيين ستشعل فتيل الأزمة في الأراضي المحتلة، خاصة في الضفة الغربية ومدينة القدس وقطاع غزة، لا سيما أن الإسرائيليين لم ينفّذوا هذا الحكم تاريخيًّا إلا مرة واحدة.
سحب الجنسية والترحيل.. قانون إسرائيلي جديد
يمكن القول إن الفترة الحالية تشهد عملًا إسرائيليًّا منظَّمًا على أكثر من صعيد لمواجهة العمل المقاوم أمام حالة الفشل الأمني والاستخباري والعسكري في العامَين الماضيَين، لكن العمل الإسرائيلي يتركّز على سنّ قوانين وتشريعات مخالفة للقانون الدولي، وتتمثّل في سحب الجنسية وترحيل الأسرى.
ومع مصادقة الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى على مشاريع قوانين لسحب المواطنة أو الإقامة من كل أسير فلسطيني يحصل على مخصصات من السلطة الوطنية الفلسطينية، سيواجه الأسرى من الداخل المحتل أو حملة الهوية الإسرائيلية عقوبات جديدة.
يتقاضى الكثير من حاملي الجنسية أو الإقامة الإسرائيلية رواتب شهرية من السلطة الفلسطينية كأجور وتعويضات عن ارتكاب “أعمال عدائية”.
وينص القانون على أنه “يتعيّن على وزير الداخلية المصادقة على سحب المواطنة أو الجنسية وترحيل الأسرى الفلسطينيين الذين تلقّوا مخصصات من السلطة الفلسطينية خلال 14 يومًا، في حين يتوجب على وزير القضاء المصادقة على القرار في غضون 7 أيام، كما يتوجب مصادقة المحكمة في غضون 30 يومًا لكي يصبح القرار نافذًا”.
وبموجب مشروع القانون، فإن “الأسير المُدان بتنفيذ عمليات وحُكم عليه بالسجن سيعتبَر أنه تخلى عن جنسيته أو تصريح إقامته الدائمة، حسب الحالة، إذا ثبت لوزير الداخلية أنه تلقّى أموالًا من السلطة الفلسطينية”، ويقضي القانون بأنه “سيتم نقل الشخص المذكور (الأسير الذي تنطبق شروط القانون عليه) إلى مناطق السلطة الفلسطينية (الضفة الغربية المحتلة) أو إلى قطاع غزة في نهاية فترة سجنه”.
وجاء في تفسير الاقتراح: “في هذه الأيام، يتقاضى الكثير من حاملي الجنسية أو الإقامة الإسرائيلية رواتب شهرية من السلطة الفلسطينية كأجور وتعويضات عن ارتكاب “أعمال عدائية”، وهذه الرواتب تزداد تدريجيًّا مع زيادة عدد سنوات السجن للمسجونين”.
العقوبات الجماعية.. من الفشل إلى الفشل
منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، استخدمت سلطات الاحتلال والحكومات المتعاقبة سياسة العقاب الجماعي في مواجهة العمليات، فاستخدمت هدم منازل منفّذي العمليات ومنعهم من إعادة بنائها، إلى جانب الغرامات المالية المرتفعة.
وبمحاذاة هذا الأمر، عمد الاحتلال إلى منع أقارب المنفّذين من الدرجة الأولى والثانية في بعض الأحيان من السفر إلى الخارج عدا عن سحب تصاريحهم، إلى جانب نقلهم إلى مناطق أخرى محسوبة على السلطة الفلسطينية.
ومع هبّة القدس عام 2015، عادت هذه الإجراءات إلى الواجهة من جديد، اعتقادًا من الاحتلال بأن أسلوب العقاب الجماعي وفرض الإجراءات التي تصل في بعض الأحيان إلى فرض إغلاق على قرى ومحاصرتها قد يجدي نفعًا.
ويواجه الفلسطينيون هذه الإجراءات بمزيد من العناد والصبر، وهو ما يظهر في ارتفاع وتيرة العمل المقاوم، حيث شهد عام 2022 مقتل 29 جنديًّا ومستوطنًا إسرائيليًّا وجرح نحو 128 آخرين، بزيادة واضحة عن العام السابق 2021 الذي شهد 1570 عملية قُتل فيها 18 مستوطنًا إسرائيليًّا وأُصيب 196 آخرين.