ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل منتصف الليل بقليل في الصحراء خارج مدينة الرياض، قدّم دي جي أمريكي عرضه المندمج مع دوامة من الأنماط الهندسية المتألقة بواسطة أشعة الليزر. وأسفل المسرح، كان آلاف الرجال والنساء يرقصون وأضواء هواتفهم تومض تحت النجوم. قال طبيب شاب سعودي وهو يحتضن صديقته هاتفًا “هذه هي المملكة العربية السعودية. أحب بلدي. نحن سعداء للغاية بكل ما فعله ولي العهد”، وتابع قائلًا: “حسنًا، أنا منتشٍ. لكنه أمر مذهل حقًا”.
إنه على حق في الواقع، فنحن في بلد كانت فيه موسيقى المصاعد قبل خمس سنوات موضع استياء لكونها غير إسلامية. والآن في أعقاب سلسلة من الإصلاحات الجذرية التي أدخلها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان البالغ من العمر 37 سنة، بات الرجال والنساء يرقصون معًا في مهرجان “مدل بيست” – وهو مهرجان لا يحظى بموافقة الدولة السعودية فحسب بل يتلقى تمويلا جزئيًا منها أيضًا.
على مدى نصف العقد الماضي، شهدت المملكة تحولًا اجتماعيًا واقتصاديًا دراماتيكيًا لم يسبق له مثيل. فقد سمحت التغييرات في القانون والتخفيف من القواعد المجتمعية الصارمة للمرأة بالطلاق في المحاكم عبر الإنترنت ضد رغبة أزواجهن، والسفر بدون إذن ولي الأمر الذكر، وارتداء الجينز والقمصان، وقيادة السيارة. وبات الشباب والشابات السعوديون يصنعون اللاتيه في مقاهي ستاربكس جنبًا إلى جنب، ويقودون سيارات الأجرة، ويعملون لدى شركات التكنولوجيا. لا تزال الكحول والمخدرات محظورةً، ولكن – مثل أي مكان آخر في العالم – هناك طرق للعثور عليها ويبدو أن الأمر أصبح أسهل من ذي قبل.
لكن هذا التحول ليس سوى جزء من الحقيقة. عند النظر إلى المملكة العربية السعودية اليوم، عليك أن تأخذ بعين الاعتبار فكرتين في وقت واحد: لقد طرأ تغير اجتماعي واقتصادي هائل على الدولة تحت حكم محمد بن سلمان، بيد أنه جعل البلاد قمعية أكثر من أي وقت مضى.
خلال السنة الماضية، عيّن الملك سلمان، البالغ من العمر 87 سنة، ابنه وليّ العهد محمد بن سلمان رئيسًا للوزراء مما أضفى الطابع الرسمي على سلطته الحالية على البلاد. وفي ظل حكمه الفعلي تم إسكات الأصوات المعارضة داخل القضاء وأجهزة الأمن ومجتمع الأعمال والعائلة المالكة نفسها – حيث اعتُقلوا، وفُرض عليهم حظر السفر، وأجبروا على تسليم مبالغ نقدية كبيرة للدولة.
مع أن حرية التعبير كانت محدودة دائمًا، إلا أن الشعب لا يتمتع بها بتاتا حاليًا. يمتلك صندوق الثروة السيادية في المملكة العربية السعودية حصةً كبيرة في منصة “تويتر”، الذي يضم حوالي 14 مليون مستخدم نشط في المملكة، ولكن يمكن أن يُلقى القبض عليك لمشاركتك أي شيء ينتقد الإصلاحات بأي شكل من الأشكال، أو حتى لنشر تغريد عن اعتقال الآخرين.
وفي الوقت الذي رُفع فيه الحظر عن قيادة المرأة للسيارة، تم اعتقال الناشطات اللاتي قضين سنوات في تنظيم حملات من أجل هذا التغيير. وقد تعرضت العديد منهن للتحرش الجنسي في السجن والضرب والتعذيب بالصدمات الكهربائية. ولا يزال بعضهن رهن الإقامة الجبرية.
في آب/ أغسطس، عادت سلمى الشهاب، طالبة الدكتوراه السعودية البالغة من العمر 34 عامًا والتي كانت تدرس في جامعة ليدز، إلى بلدها لقضاء العطلة وكانت تخطط لتسافر مع زوجها وابنيها الصغيرين إلى المملكة المتحدة. وبدلا من ذلك، اُعتُقلت وصدر في حقها حُكم بالسجن لمدة 34 عامًا بتهمة إعادة نشر تغريدات لمعارضين سعوديين دعوا فيها للإفراج عن سجناء سياسيين، لمتابعيها البالغ عددهم 2500، خلال تواجدها في المملكة المتحدة.
لم تكن قضيتها الأولى من نوعها، فقد كان الناس يختفون الواحد تلو الآخر في المملكة العربية السعودية ليتم نقلهم إلى مراكز الاحتجاز أو السجون، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، من سكان المدينة أو القرويين. وكان يتم الإعلان عن أسمائهم في بعض الأحيان، وأحيانًا أخرى يختفون دون أي أثر.
اعتقل سعد إبراهيم الماضي، وهو مواطن أمريكي يبلغ من العمر 72 عامًا من أصول سعودية، في سنة 2021 عندما وصل إلى المملكة خلال رحلة كان من المفترض أن تدوم أسبوعين فقط. وحكم عليه بالسجن 16 عاما لعدد من التهم منها الإرهاب ومحاولة زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية. وقال نجل سعد إبراهيم إنه سُجن بسبب عدد من التغريدات التي انتقدت، من بين أمور أخرى، أعمال الهدم في مكة وجدوى الوجود العسكري للتحالف بقيادة السعودية في اليمن.
انتقد ناشط سعودي هذه الأحكام الوحشيّة قائلا: “هذا ليس خطأ، بل إنها رسالة مفادها أنه حتى لو كنت شخصا عاديا ولديه عدد قليل من المتابعين، فأنت لست في أمان”. وبمجرد أن يصبح هؤلاء الأشخاص وراء القضبان، لا يحصل الكثير منهم على محاكمة عادلة. وثقت جماعات حقوقية استخدام التعذيب والاعتداء الجنسي من قبل السلطات في السجون السعودية، حيث يمكن أن تكون العقوبات دموية وعلنية وصريحة.
خلال الأسابيع التي سبقت مهرجان “مدل بيست”، قُطع رأس 12 شخصًا أدينوا بجرائم مخدرات – وكان معظمهم من الرعايا الأجانب، على الرغم من تعهد محمد بن سلمان بالحد من هذه الممارسة. وفي آذار/ مارس 2022، قُطع رأس 81 شخصًا في يوم واحد بسبب مجموعة واسعة من الجرائم – فيما وصفته منظمة العفو الدولية “بموجة الإعدامات”. وخلال السنة الماضية، اُعدِم 138 شخصًا، أي أكثر من ضعف ما كان عليه في سنة 2021. وبعد أربع سنوات من اغتياله في قنصلية المملكة في إسطنبول على يد عملاء الدولة السعودية، لا تزال جثة الصحفي السعودي جمال خاشقجي مفقودة.
كل هذه المهرجانات والحفلات والقيود الاجتماعية المخففة لها ثمن: وهو الطاعة الكاملة والإخلاص لمحمد بن سلمان. تعهّد بالولاء له وسيحميك، لكن إذا ارتكبت خطأ أو لم تكن داعما بدرجة كافية لمشروعه التحويلي، فقد تكون في خطر. من الصعب التركيز على السعوديتين وانتقال عقلك بينهما، لكن لا يمكن لأحدها أن يتواجد دون الآخر. ويراهن محمد بن سلمان على أن الجمهور لن يمانع طالما أنهم مستمتعون.
في سنة 2018، عندما كنت في البلاد لآخر مرة، كان التحوّل قد بدأ وكانت أولى الحفلات الموسيقية تجري في ظل بعض القيود. ذات ليلة ذهبت لرؤية المطرب المصري تامر حسني حيث فُرض الفصل بين الجنسين في الحفلة الموسيقية وذُكر على التذاكر أنه “ممنوع الرقص أو التمايل”. وفي كل مرة يصفق فيها أحدهم بحماس شديد، تأتي امرأة ترتدي حجابًا أبيض وعباية حمراء لتخبره بالتوقف عن ذلك.
لقد كانت تلك مرحلة عابرةً في تحول المملكة العربية السعودية. تأسست المملكة في سنة 1932 على يد الملك عبد العزيز آل سعود بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وامتدت قوة عشيرة آل سعود من مناطقهم الصحراوية حول الرياض إلى ميناء جدة التجاري بالإضافة إلى المدينتين المقدستين مكة والمدينة. عندما عززت عائلة آل سعود سلطتها، أصبحت تقاليد قبيلتهم – الأكثر محافظة بكثير من العديد من التقاليد الأخرى في المملكة – هي العرف السائد. وعاشت النساء والرجال في فصل صارم بين الجنسين وغالبًا ما كانت النساء يغطين وجوههن وكذلك شعرهن.
في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كانت عائلة آل سعود وصية على أقدس موقعين في الإسلام، وكانوا يعتقدون أن سلوكهم يجب أن يكون أكثر تحفظًا من البلدان الأخرى، حيث وصفهم منتقدوهم بمتعصبي القرون الوسطى. وبينما كان الملك هو الحاكم، كانت المملكة العربية السعودية في الممارسة العملية محكومة من خلال نظام بطيء من حكم الإجماع، حيث تتدخّل المؤسسة الدينية وأفراد العائلة المالكة الآخرين ورؤساء القبائل والتجار البارزون في عملية اتخاذ القرارات.
مع ذلك، تغيرت الأمور على مرّ العقود. في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، كان بإمكان بعض السعوديين – وخاصة أولئك الذين يعيشون في مدن عالمية مثل جدة – الذهاب إلى السينما أو الاستماع إلى الموسيقى في المقاهي، كما أصبح بإمكان النساء ارتداء سترات وفساتين طويلة بدلا من العباءة، حتى أن بعضهن تركن شعرهن مكشوفًا.
ثم في ليلة 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، اقتحم متشددون إسلاميون المسجد الحرام في مكة، وأعلنوا أن زعيمهم هو المنقذ للعالم الإسلامي في محاولة للإطاحة بأسرة آل سعود، التي اتهموها بجلب النجاسات الغربية إلى البلاد.
استغرقت استعادة السعوديين السيطرة على أحد المواقع المقدسة الإسلامية بدعم من القوات الفرنسية الخاصة أسبوعين وحياة مئات الرهائن. ترك ذلك الهجوم شرخا لا يُنتسى في المملكة – على غرار الهجوم الإرهابي على الفاتيكان. ردًا على ذلك، أصدر الملك الذي حاول يائسا استعادة السيطرة على البلاد سلسلة من المراسيم التي رسخت نظاما إسلاميا محافظا للغاية يقضي بارتداد النساء جلابيب سوداء تغطيهن من الرأس إلى أخمص القدمين وغلق دور السينما. وضُخت مليارات الجنيهات للترويج للأصولية الدينية في الداخل والخارج.
كانت هذه هي المملكة العربية السعودية التي أراد محمد بن سلمان تغييرها. وفي سنة 2015، اعتلى والده الملك سلمان العرش وعيّنه وزيرا للدفاع. وبحلول سنة 2017، تخطى محمد بن سلمان جميع الأعمام والإخوة وأبناء العم في ترتيب الخلافة ليصبح وليًا للعهد. ومنذ ذلك الحين بدأ تغيير المجتمع السعودي بكل بطء من خلال إقناع الجميع بخطته. قام بتفكيك الشرطة الدينية المكروهة، الذين اعتادوا الصراخ على النساء في الشارع لستر أنفسهن ومضايقة الأزواج أثناء التسوق. افتتح دور السينما. كما أعرب أن النساء متساويات مع الرجال وأن العباءة ليست مطلوبة بموجب الشريعة الإسلامية. ومن المثير للاهتمام أنه جعل الحياة في المملكة العربية السعودية أقل مللاً.
في غضون سنوات قليلة فقط، نجح محمد بن سلمان – بمساعدة مجموعات من الاستشاريين الأجانب المأجورين ومجموعة من المستشارين المتفانين – في تحويل المملكة من أكثر المجتمعات المنغلقة في العالم إلى بلد لم يكن المواطن السعودي قبل سنة 2016 ليتصوّره.
حاول أنصار ولي العهد إضفاء الشرعية على برنامجه للتغيير بقول إن القيود المتشددة التي يفككها كانت خارجة عن المألوف وفُرضت على خلفية حصار المسجد الحرام، وأنه في الوقت الراهن استعاد النظام الطبيعي للثقافة السعودية.
سرّعت بعض الإصلاحات التغييرات التي أطلقت في عهد الملك عبد الله، سلف والده، الذي توفي في سنة 2015. عندما وصل محمد بن سلمان إلى السلطة، بدأت النساء العمل في المتاجر وأطلق حملة واسعة النطاق للحد من مظاهر التطرف في البلاد. لكن في الواقع تتسم تغييرات الأمير بطابع متشدد أكثر مما يتوقعه أي شخص.
إن محمد بن سلمان يوجّه دفة التغيير لتحويل البلاد إلى دولة قومية متطرفة ذات نظرة إسلامية معتدلة واقتصاد حديث وتشكيل هالة لتمجيد شخصه هو ووالده. وتشمل رؤية 2030 العديد من المجالات بدءًا من بناء مدينة عملاقة حديثة محاطة بالمرايا وخالية من الطرق بطول 100 ميل – فيما يُعرف بمشروع نيوم “ذا لاين” الذي لايزال قيد الإنشاء ولا تزال شواطئه المتوهجة في الظلام والقمر الاصطناعي حبرا على ورق التصميم – إلى زيادة مدخرات الأسر السعودية من خلال تعزيز محو الأمية المالية. يستثمر مشروع نيوم الملايين في خطة بريطانية لالتقاط الطاقة الشمسية في الفضاء وإرسالها إلى الأرض عبر موجات الراديو عالية التردد.
أنفقت الحكومة السعودية المليارات من أجل تعزيز قطاع الرياضة، من خلال تنظيم مسابقات الملاكمة العالمية، وسباقات الفورمولا 1، والتنس، وكرة القدم، وبطولات الغولف (وإطلاق جولة غولف احترافية لمنافسة رابطة لاعبي الغولف المحترفين الأمريكية) في بلد لم يكن له أي مكانة ونفوذ قبل سنة 2018. وفي السنة الماضية، فازت المملكة العربية السعودية بحق استضافة دورة الألعاب الآسيوية الشتوية لسنة 2029 في منطقة صحراوية جبلية حيث من المقرر أن تشكّل منحدرات تزلج باستخدام الثلج الاصطناعي.
يهدف كل هذا إلى تعزيز الإنتاجية وتحفيز الاقتصاد مع تنوعه بعيدًا عن النفط وجذب الاستثمار الأجنبي وممارسة القوة الناعمة في العالم – ولكنه ينبع أيضًا من رغبة حقيقية في تحديث المجتمع السعودي. لا يُعد كل شخص في المملكة ثريًا، إذ يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 20 ألف جنيه إسترليني (مقابل 55 ألف جنيه إسترليني في قطر). ومع أن معظم السعوديين أفضل حالا من العمال المهاجرين الذين يكدحون في مدنهم مع التمتع بحقوق قليلة، إلا أن الكثيرين في هذا البلد الذي يبلغ تعادد سكانه 40 مليون نسمة يكافحون لتغطية نفقاتهم وإيجاد عمل ودفع الإيجار. ومن شأن القطاع الخاص النشط أن يوفر فرصًا لهم.
رغم تذمّر الكثيرين من حدوث هذه التغييرات بسرعة فائقة، إلا أن محمد بن سلمان يحظى بشعبية كبيرة بين الشباب الذين تحدثت إليهم. لقد غيّر حياتهم من العزلة مع وجود القليل من سبل الترفيه خارج المنزل والمجتمع المباشر – خاصة بالنسبة للنساء – إلى حياة على قدم المساواة مع البلدان الأخرى في المنطقة. ويظهر التغيير الأكثر وضوحًا في لباس النساء، حيث أن معظمهن لا يزلن يرتدين العباءة – عباءة طويلة – وغطاءً للرأس، وبعضهن يغطين وجوههن بالنقاب، فإن البعض الآخر يتجولن في مراكز التسوق في الرياض مرتديات جينز وقمصان.
تُعد كل هذه التطورات الاجتماعية جيدة إذا ما كانت لديكِ عائلة ليبرالية، ولكن إذا كنتِ من خلفية محافظة فإن ولي أمرك – الأب، والأخ، والزوج – لا يزال لديه الكثير من السلطة عليكِ. تأتي الضغوط على النساء من عائلاتهن ومجتمعاتهن وكذلك من الدولة، إذ لا يوجد قانون ينص على أن المرأة يجب أن ترتدي النقاب، ولكن الكثيرات يفعلن ذلك لأنهن لا يردن جلب العار أو الإحراج لأسرهن.
في حين أن الإصلاحات الأخيرة في النظام القانوني عززت بشكل كبير حق المرأة في الطلاق، يقول النشطاء إنه من غير الواضح مدى اتساع نطاق وعدالة تنفيذها في غياب الشفافية الرسمية. ومن جانبها، قالت هالة الدوسري، الباحثة والناشطة السعودية: “بات [الآن] هناك طرق أسهل وأسرع لإنهاء الزواج بالنسبة للنساء اللواتي لم يعدن يرغبن في البقاء مع أزواجهن – ولكن فقط إذا استطاعت إعالة نفسها ولم تواجه أي اعتراضات من عائلتها”.
مع أن الطلاق يمكن أن يؤدي إلى التمييز ضد المرأة السعودية، إلا أنه أصبح أكثر قبولًا بشكل عام. ولطالما كان الإجهاض أكثر تساهلاً مما هو عليه في بعض الدول الغربية، حيث يُسمح بالإجهاض في ظروف معينة، بما في ذلك عندما تكون صحة الأم الجسدية أو العقلية في خطر.
تمكنت سيدتان تحدثت إليهما من الطلاق ضد رغبات أزواجهن عبر مكالمة على الإنترنت مع قاض لحوالي 10 دقائق – وهو أسرع مما كان يمكن أن يحدث في المملكة المتحدة – ولم أصدق الحظ الذي تتمتعان به. وأوضحت إحداهن، التي حاولت إنهاء زواجها قبل سنوات دون جدوى: “عندما أرسلوا لي ورقة الطلاق، لم أفهم. اعتقدت أنه سيتم عقد جلسة استماع أخرى أو شيء من هذا القبيل. ولكنني كنت قد تطلقت بالفعل. شيء كنت في أمس الحاجة إليه، لسنوات عديدة، وقد حدث للتو”.
ربما يكون مهرجان “مدل بيست” أكثر الأمثلة تطرفًا على التغييرات الطارئة، وهو المثال الذي يحطم بشكل واضح وعلني القانون الاجتماعي السعودي. بدأ المهرجان في سنة 2019، عندما كان المفهوم غريبًا للغاية لدرجة أن بعض منظميه – سعوديون وأجانب على حد سواء – اعتقدوا أنه لن ينجح حتى اللحظة الأخيرة. ومنذ ذلك الحين، دعي إليه المؤثرون والمشاهير من جميع أنحاء العالم لمشاركة هذه الرؤية الجذابة لدولة ترفيهية تتطلع إلى المستقبل – وهي مناورة علاقات عامة فعالة بأسلوب دولة الإمارات العربية المتحدة.
بينما كنت أتجوّل في موقع مهرجان مدل بيست في ليلة الجمعة من هذا الشتاء، كانت الموسيقى صاخبة، وفتيات يضعن تيجان الزهور يصرخن أمام فريق “سويديش هاوس مافيا”، أدهشتني حقيقة أن ما رأيته موجود في أي مكان آخر في العالم، لولا مشاهدتي للعباءة والثوب عرضيًا، أو حقيقة أن الناس ظلوا يهتفون “أهلا بكم في السعودية!”.
ليس هناك ما يشير إلى أن منظمي مهرجان “مدل بيست” كانوا على علم بأي تعاطي للمخدرات أو الكحول، وتم تفتيش جميع الزوار أثناء دخولهم، كما حذرت اللافتات الضخمة من أن أي شخص أدين بالتحرش (وهي مشكلة كبيرة في السنوات السابقة) سوف يُعاقب بغرامات كبيرة وأحكام بالسجن. ومع ذلك، قالت معظم النساء اللاتي تحدثت إليهن إنهن تعرضن للتحرش، إحداهن تدعى شهد (22 سنة) قالت إن النساء وأفراد مجتمع الميم تعرضوا للإزعاج وأحيانًا اللمس من قبل مجموعات من الرجال، قالت بصوت خافت: “إنهم حفنة من الحمقى، أنا لا أشعر بالأمان هنا”.
قال صديقها بدر (22 سنة) الذي ينتمي لمجتمع الميم: “لم يعتادوا رؤية النساء والمثليين يتجولون ويعتقدون أن بإمكانهم استغلال الوضع”. من غير القانوني أن تكون شاذًا في المملكة العربية السعودية، ويمكن جلد المدانين والحكم عليهم بالسجن سنوات. لم يصارح أي من الشواذ الذين تحدثت عائلاتهم، ولكن في بعض المقاهي والمساحات في المدن الكبرى مثل الرياض وفي المهرجان، يعد مجتمع الميم مرئيًا ومزدهرًا.
على مقعد بالقرب من واحة مليئة بأشجار النخيل، كانت فاطمة (25 سنة) وشقيقها أحمد (27 عامًا) يستريحان من الرقص، كان أحمد يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً مع منديل أبيض مربوط حول رأسه، فيما كانت فاطمة ترتدي عباءة سوداء وحجاب رأس أخضر وقناع. قالت ضاحكة بغمزة تآمرية عندما سألتها عن ملابسها: “أوه، أنا لست محافظة، أنا أرتدي هذه الملابس فقط حتى لا يتعرف علي أحد”. وأخرجت هاتفًا وأظهرت لي مقطع فيديو التقطته لنفسها قبل دقائق على المسرح حيث كان شعرها الكستنائي الطويل يتدلى فوق قميصها وكانت ترقص وتضحك وتستمتع بوقتها. لكن في الخارج؛ حيث كان هناك الكثير من الشباب الذين لديهم هواتف، لم تشعر أنه من الآمن إظهار وجهها، لأنه إذا قام أي شخص بتصويرها ونشرها على الإنترنت، فقد يراها شخص من قبيلتها – ويمكن أن تصل إلى والديها، مما يدمر سمعتها وسمعتهم. قالت: “إذا علمت عائلتي أنني هنا فسوف يقتلونني، لن يقتلوني في الواقع، لكنهم سيكونون غاضبين للغاية”.
كانت لا تزال عالقة بين السعودية القديمة والجديدة، وتقدم تنازلات محرجة باستمرار لتناسب مطالب عائلتها مع مجموعة واسعة من الفرص الجديدة التي أوجدتها الدولة. نجحت نساء أخريات في إيجاد مكان لأنفسهن في هذا العالم الجديد. فعلى خشبة المسرح، كانت نوف السفياني، الدي جي البالغة من العمر 30 عامًا والمعروفة باسم “كوزميكات”، قد أنهت للتو عزف مجموعتها. بدأت سفياني، مثلها مثل بعض منسقي الأغاني السعوديين الآخرين في سنها، العمل في حفلات خفية قبل أن تأتي التغييرات، حيث كانت تمارس شغفها للموسيقى في الحفلات في شاليهات مستأجرة على شاطئ البحر أو منازل خاصة، مخاطرة بالاعتقال والغرامات. وعندما تم السماح أخيرًا بالحفلات الموسيقية، كانت هناك قائمة جاهزة من المواهب السعودية جنبًا إلى جنب مع الفنانين الغربيين.
قالت سفياني: “عندما بدأت العزف في الحفلات الحية علنًا كنت خائفة بعض الشيء – لم أكن أعرف أبدًا كيف سيكون رد الفعل لأن أحدًا لم يفعل ذلك ولم يكن لدي من أتطلع إليه، لكنني فوجئت بشدة من أن رد الفعل كان إيجابيًا، مما دفعني إلى متابعة هذا الأمر إلى أبعد من ذلك”.
كل هذا شيء عظيم بالنسبة للسفياني وغيرها من الشباب السعودي الذين ينتقدون المجتمع المحافظ. لكن الكثيرين في السعودية، والأجيال الأكبر سناً على وجه الخصوص، تُركوا في حيرة من أمرهم؛ فالمعتقدات التقييدية التي نشأوا عليها وكافحوا ضدها واعتنقوها وقيل لهم إنها الحقيقة الوحيدة، تم إلغاؤها في غضون سنوات قليلة. وبعد أن عاشوا حياة منعزلة تحكمها فتاوى صارمة، يقال لهم فعليًا إنهم فعلوا ذلك دون سبب وجيه. تساءل أحد السعوديين الذي نشأ في أسرة محافظة: “في أي حال يبقينا ذلك؟ هل كان كل هذا مجرد كذبة؟ هل أهدرنا كل هذا الوقت لأجل لا شيء؟ ألم تكن كل هذه القواعد حقيقية أبدًا؟ لقد غيروا كل شيء ومن المفترض أن نتفق؟”.
على بعد ستة عشر ميلاً من مهرجان “مدل بيست”، وبجانب لافتة تشير إلى الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، أقيم مهرجان آخر في ضاحية الدرعية بالرياض. كان هذا المهرجان أبعد ما يكون عن موسيقى الهاوس، وكانت الرقصات الوحيدة تُأَدّى من قبل الرجال الذين يكتفون بهزّ سيوفهم بكل وقار على قرع الطبول بينما يردد المغني أبياتًا شعرية. تجوّلت العائلات لشراء الحلويات المنقوعة بالشراب أو جلسوا لتناول القهوة التي تُسكب من صنبور طويل في الدلة. في أرض المعارض، ترددت أصوات ضحكات النساء اللواتي يرتدين النقاب الأسود الطويل بينما كافحن للإمساك بتلابيب عباياتهن بينما كانت العربات تدور. قبل عشر سنوات كان هذا مقبولاً إلى حد ما على مضض.
مها (52 عامًا) أم لستة أطفال حضرت المهرجان مع أسرتها. مثل العديد من الأشخاص الآخرين هناك، سمعت عن مهرجان مدل بيست ولم يعجبها إطلاقاً. قالت “إن مهرجان مدل بيست لا يمثلنا. الأغلبية لا يذهبون إلى هناك، بل الأقلية فقط. إنه أمر ضار هناك. إنه تغيير هائل – هائل للغاية”.
قالت إن ابنها البالغ من العمر 34 عامًا طلب الذهاب إلى المهرجان لكنها منعته لأنه “توجد هناك مخدرات، وهذا ليس في صالح الناس”. أما صديقتها الجوهرة (52 عاما) فكان لها رأي مختلف: قالت: “يذهب أبنائي إلى هناك ولا أمنعهم، لكن لدي بعض الحدود. قلت لابني أنه ليس ممنوعًا التحدث إلى النساء، وإذا لم أسمح له فسيفعل ذلك بكل الأحوال. لا توجد مشكلة بالنسبة لهم في الذهاب وشرب القهوة معًا إذا كان الأمر في كنف الاحترام.. ولكن هناك حاجة إلى بعض القيود”.
بالنسبة لكل من مها والجوهرة، فإن بعض التغييرات التي طرأت على المملكة العربية السعودية إيجابية وضرورية. وفي حين أنهما لا تقودان السيارات بأنفسهما، فإنهما تعتقدان أنه من الجيد أن تفعل النساء الأخريات ذلك. وقد استحسنت مها حقيقة أن الرجال والنساء يمكنهم العمل معًا في المكاتب. وكانت القضية تتمحور حول سرعة هذه التغييرات ونطاقها.
قالت السفارة السعودية في لندن لصحيفة صنداي تايمز: “بفضل حزمة الإصلاحات التي أدخلها ولي العهد كجزء من رؤية 2030، تتمتع المملكة العربية السعودية بتحسينات ملحوظة في اقتصادها. إن التغييرات على هذا النطاق ليست سهلة أبدًا، لكنها قوبلت بترحيب، ولها تأثير مفيد بشكل واضح على اقتصاد أمتنا والفرص المتاحة لجميع أفراد شعبنا”.
في إحدى ليالي الشتاء، التقيت في أحد مقاهي جدّة بمُعارض سعودي بارز. كان قلقًا بشأن سلامته وطلب مني عدم ذكر اسمه، حتى في هذه المدينة التي يُنظر إليها تاريخيًا على أنها أكثر ليبرالية من الرياض.
قال هذا المعارض: “بينما نجلس هنا، على بعد حوالي ميل مربع حولنا، تم اقتياد خمسة أطباء، ثلاثة منهم مختصون في الطب، خلال الأشهر الستة الماضية”. وأضاف أن بعضهم اعتُقل بسبب تغريدات قديمة ربما لانتقادهم الإصلاحات. كان يبحث عن صديقة، وهي أم لسبعة أطفال، اختفت منذ سنة ونصف. لا أحد يعرف، أو على الأقل لا أحد سيخبره، أين هي ولماذا تم اعتقالها. ليس لديه أي فكرة أيضاً. قال إن المملكة أكثر قمعا مما كانت عليه في أي وقت مضى.
عدم انتقاد وليّ العهد لم يعد كافيًا اليوم – بل عليك أن تشيد بتغييراته وحكمه علنًا، ويفضل أن يكون ذلك على منصات التواصل الاجتماعي. أي شيء أقل من ذلك يعد مشكوكاً به، حتى أنه قد يعد دعوةً للتمرد. ومن وجهة نظر هذا الرجل، اقتنع الجمهور السعودي بمشروع محمد بن سلمان لأنهم خائفون ولا يفكرون بشكل نقدي. وأضاف: “كل هذا التقدم هو واجهة طالما لا توجد مساءلة. التعبير والحوار واحترام القانون والنظام – هذا هو التقدم. وليس الرقص وجعل كل شيء باللغة الإنجليزية.. انسَ مهرجان مدل بيست، إنها مستحضرات تجميل”. بالنسبة له، فإن التغييرات الاجتماعية في المملكة هي مجرد واجهة زائفة، وليست أكثر من وسيلة للتقرب من الغرب أثناء قمع أي معارضة.
أعتقد أن كِلا الأمرين يحتمل الصواب: فالتغييرات الاجتماعية والاقتصادية تعمل بشكل كبير على تحسين حياة العديد من الناس، لكنها تأتي بثمن يراهن محمد بن سلمان على أن معظم السعوديين سيقبلونه. وكما كتب الساخر الروماني جوفينال: الخبز والسيرك مقابل الطاعة والجمود السياسي. العقد الاجتماعي موجود والميثاق مُوقَّع وكل من يخرج عنه يواجه سخط الأمير.
المصدر: ذا تايمز