طفت بوادر التقارب التركي مع نظام الأسد على سطح المعادلة السورية، بعد سلسلة من التصريحات الرسمية التي افتتحها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، كاشفًا عن محادثة قصيرة أجراها مع وزير خارجية النظام فيصل المقداد، وحديثه عن ضرورة إيجاد حلّ للصراع في سوريا بعقد اتفاق بين المعارضة والنظام.
تبع ذلك تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول إمكانية عقد لقاء مع رأس النظام، وضرورة إيجاد تسوية بين المعارضة السورية والنظام، معتبرًا أنه “لا يوجد استياء أو خلاف أبدي في السياسة”.
وصولًا إلى اللقاء الثلاثي الذي جمع وزراء الدفاع التركي، خلوصي أكار، والروسي، سيرغي شويغو، مع وزير دفاع النظام السوري، علي عباس، في العاصمة الروسية موسكو، والذي يعد أول لقاء رسمي معلن على مستوى الوزراء بين تركيا والنظام السوري منذ عام 2011، وسط الحديث عن اجتماع قريب على مستوى وزراء الخارجية، تمهيدًا لاجتماع على مستوى أعلى بين أردوغان والأسد.
ويبدو أن مسار الانفتاح التركي تجاه النظام يسير بخط متعرّج مضطرب صعودًا وهبوطًا، بعد أن اصطدم بجملة من العراقيل والمنغّصات مع انتقال جولة المباحثات من حدودها الأمنية والعسكرية إلى حدود سياسية-دبلوماسية، أملًا في إنهاء عقد من القطيعة الدبلوماسية، وإقامة علاقات سياسية رفيعة المستوى بين الطرفَين.
دوافع تركيا من الانعطافة نحو النظام
ثمة محددات رئيسية صاغت الموقف التركي تجاه القضية السورية خلال عقد من عمرها، وبقيت هي صاحبة التأثير الفعلي في الاندفاعة التركية الحالية نحو نظام الأسد، والمتمثلة بأولوية القضاء على المشروع الانفصالي الكردي المتمثل بـ”قسد”، وتجفيف منابع تهديدات حزب الاتحاد الديمقراطي (YPG) الانفصالي، ذراع حزب العمال الكردستاني (PKK)، لا سيما مع تمدد الحزب على طول الحدود التركية السورية.
إضافة إلى أن السياق الدولي المتقلب تجاه الملف السوري لعب دورًا مهمًّا في إحداث تغييرات على صعيد الموقف التركي، في ظل اقتراب تركي جادّ من روسيا، والذي تصاعد عمليًّا إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، في ضوء توتُّر العلاقات التركية الغربية-الأمريكية وتدهور العلاقات بينهما بعد دعم غربي متنامٍ لمشروع “قسد” الانفصالي، وما نتج عن ذلك من انخراط عسكري مباشر في سوريا عبر عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” بتنسيق مع روسيا، بالتزامن مع انخراط سياسي فاعل عبر مسارَي أستانا وسوتشي، وهو ما يتطلب من تركيا مراعاة حساسية روسيا ومصالحها في سوريا، في سبيل الحصول على مكاسب وامتيازات مختلفة.
وانعكست تقلبات المشهد الداخلي التركي وتنامي الخطاب المعادي للاجئين السوريين على سياسة تركيا وتوجُّهاتها في سوريا، ومن ثم سرّعت من عملية التقارب مع نظام الأسد، خصوصًا مع تصاعُد حدّة الأزمة الاقتصادية في البلاد، والتي نجحت من خلالها أقطاب المعارضة التركية في تحويل ملف اللاجئين السوريين إلى مادة للاستقطاب والصراع السياسي، عبر تحميل اللاجئين مسؤولية تأزُّم الأوضاع الاقتصادية، وما ترتب عنها من تراجع مستمر في سعر الليرة التركية، وارتفاع مستوى التضخم لأرقام قياسية.
إذ استُغِلّ هذا الملف في تأجيج الرأي العام التركي ضد السوريين والدعوة إلى ترحيلهم لبلادهم، واتهام الحكومة التركية بتعثُّر سياساتها في إدارة هذا الملف، بهدف إضعاف موقف حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة التي حددها الرئيس التركي في يوم 14 مايو/ أيار المقبل.
وكذلك، تبنّت بعض أحزاب المعارضة خط التطبيع مع النظام والحوار معه كحلّ لمسألة عودة اللاجئين السوريين، ووسيلة للضغط على العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية القادمة، ما دفع الحكومة التركية إلى تسريع خطوة المفاوضات مع النظام، رغبة منها في سحب ورقة اللاجئين السوريين والمصالحة مع النظام من يد المعارضة.
وبالتالي، انتقل الخطاب التركي الرسمي من مجرد الحديث عن التنسيق الاستخباراتي والأمني مع النظام، مع دعم فكرة استكمال مشروع “المنطقة الآمنة” التي تنوي تركيا توسيعها في إطار جهودها لإعادة مليون لاجئ سوري إلى تلك المناطق، كحلّ يخفف من حدة الاعتراض الشعبي والمعارض على الوجود السوري في تركيا؛ إلى دائرة الحديث عن تطبيع سياسي ودبلوماسي واسع مع النظام، والتلويح المستمر بإمكانية لقاء أردوغان والأسد وإنهاء الخلافات العالقة بين الطرفَين.
وعليه، يمكن القول إن ملف الوجود السوري في تركيا، ومنع حدوث موجات لجوء جديدة إلى تركيا تهدد ترتيبات البيت الداخلي وعلاقة العدالة التنمية بالمجتمع التركي، والتهديدات المتعلّقة بمشروع “قسد” الانفصالي على حدود تركيا الجنوبية، إلى جانب تقاربها مع روسيا، وما تبع ذلك من ضغوط روسية على تركيا للانفتاح والتنسيق مع النظام، مقابل تجاهل أمريكي لمتطلبات الأمن القومي التركي في سوريا، فضلًا عن طموح تركيا بلعب دور إقليمي أكبر بعد عقد من المشاكل والتجاذبات مع عدد من الفواعل الإقليمية ضمن عودتها إلى سياسة “تصفير المشاكل” مع دول الجوار، كل ذلك دفع تركيا فيما يبدو لاتخاذ خطوات متقدمة في إطار التطبيع والحوار مع النظام.
تحديات مسار التطبيع التركي مع النظام
رغم العوامل والمحددات المشار إليها آنفًا، والتي أنتجت مقاربة تركية تصالحية جديدة مع النظام، يبدو أن المسار التقاربي مهدَّد بجملة من العراقيل والصعوبات التي من شأنها أن تنسف هذا المسار برمّته، أو تحدّ -على أقل تقدير- من إمكانية تحقيق خرق واضح في خط المفاوضات، والوصول إلى تطبيع سياسي ودبلوماسي كامل أو جزئي بين الطرفَين، وطيّ صفحة خلافات ومواجهات مباشرة وغير مباشرة دامت عقدًا من الزمن.
ورغم ما تحمله هذه التحركات التركية التصالحية مع النظام من مكاسب مهمة للنظام، من حيث كونها تنازلًا من الدولة الإقليمية الوحيدة الداعمة عمليًّا للمعارضة السورية، فإن النظام لا يزال يرفض تقديم تنازلات حقيقية على صعيد المصالح الاستراتيجية التركية، المتمثلة بإنهاء مشروع “قسد” ومحاربة حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري YPG وضمان العودة الآمنة للاجئين، والتي توليها تركيا أهمية قصوى في مسارها التقاربي، قبل تحقيق مجموعة من المطالب الرئيسية والشروط التعجيزية المناقضة تمامًا للأهداف التركية في سوريا، كالانسحاب التركي الكامل من الأراضي السورية، وإيقاف دعم المعارضة السورية.
وقد جاء هذا على لسان رأس النظام في تصريحه الأول عقب لقاء مع المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، حيث اشترط “إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب”، وتكرر ذلك على لسان وزير خارجية النظام الذي دعا تركيا إلى “احترام سيادة سوريا لأراضيها وإنهاء الاحتلال.. من أجل التقدم في مسار التطبيع وخلق البيئة المناسبة لعقد لقاءات على مستويات أعلى”، على حد تعبيره.
يراهن النظام على نتائج الانتخابات التركية المقبلة، ولا يرغب فعليًّا في إعطاء حزب العدالة والتنمية ورقة انتخابية حاسمة قد تسهم في نجاحه على حساب تيارات المعارضة التي يراها النظام أكثر جدية في التعامل والتعاون معه.
ولا يبدو أن النظام يرغب بتقديم تنازلات حقيقية متعلقة بإنهاء “قسد” وملف اللاجئين، خشية من تكاليفها المرتفعة عليه، لا سيما مع عدم قدرته في استيعاب ملف اللاجئين السوريين، الذي يعده مشكلة تركية داخلية وورقة قوة يستثمرها ضد تركيا، في ظل الأزمة التي يمرّ بها.
كما أنه لا يبدو متحمّسًا لمحاربة “قسد” التي يجمعه بها العداء المشترك للمعارضة السورية، ويحفل تاريخهما بدعم وتعاون مشترك سياسي وميداني في ضربها خاصة لأرياف حلب، واستهداف الجيش التركي وضرب مشروع “المنطقة الآمنة”، خصوصًا في ظل استمرار الحوار والتنسيق بين الطرفَين، حيث كشف القيادي في الحزب الشيوعي السوري الموحّد، ملول الحسين، مؤخرًا عن استعداد مجلس سورية الديمقراطية (مسد) للقاء نظام الأسد في دمشق، والحوار معه من دون شروط مسبقة.
في حين ترفض تركيا شروط النظام حول الانسحاب من سوريا، وأكّدت مرارًا على لسان مسؤوليها أن عملية انسحاب القوات التركية مرتبطة بالتزام النظام في محاربة “قسد”، وتأمين الحدود مع تركيا، وتدشين عملية الحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، وإرساء استقرار سياسي دائم وتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، إذ إن قبول تركيا بالانسحاب العسكري يعني إبعاد شرعية الوجود التركي في سوريا، وهو خيار مستبعَد -إلى الآن- بالنسبة إلى تركيا التي أسّست لوجود طويل الأمد يحفظ أمنها القومي، ويحدّ من مخاطر تدفُّق اللاجئين وتأمين عودتهم.
كما ردّت على تصريحات الأسد ووزير خارجيته بأنها “ليست قوة احتلال، وأن الخطر الحقيقي هو المنظمات الإرهابية في سوريا”، ورفضت مطلب النظام في إيقاف دعم فصائل المعارضة السورية وتصنيفها كـ”جماعات إرهابية”، إذ لا يبدو أنها في وارد فكّ ارتباطها مع المعارضة السورية بشقَّيها السياسي والعسكري التي تُعتبر حليفًا مهمًّا لأنقرة ميدانيًّا وسياسيًّا.
وقد حرص وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو، على تأكيد هذا الأمر في لقائه الأخير مع رئيس الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، ورئيس الحكومة المؤقتة، ورئيس هيئة التفاوض السورية، وأشار إليه في تصريحات سابقة عن أن “تركيا لن تتخلى عن المعارضة السورية، ولن تقدم على خطوات تطبيع مع النظام رغمًا عنها”.
وفي السياق ذاته، يراهن النظام على نتائج الانتخابات التركية المقبلة، ولا يرغب فعليًّا في إعطاء حزب العدالة والتنمية ورقة انتخابية حاسمة قد تسهم في نجاحه على حساب تيارات المعارضة، التي يراها النظام أكثر جدّية في التعامل والتعاون معه.
لا يخفى تأثير إيران، التي ترغب في ملء الفراغ الروسي المحتمَل في سوريا، على مسار التقارب من حيث قدرتها على عرقلة المسار بحكم نفوذها وتأثيرها على نظام الأسد.
من جهة أخرى، يبدو الموقف الأمريكي الرافض لعملية التطبيع مع النظام ومحاولات تعويمه عائقًا أمام تحقيق النتائج المرجوة من المسار التركي التقاربي مع النظام، في ظل تأزُّم العلاقات الأمريكية مع روسيا إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، ورغبة الولايات المتحدة في حرمان روسيا من أي مكسب خارجي قد يخفّف من الضغوط الدولية المفروضة عليها، لا سيما بعد التشريع الذي أقرّه الكونغرس الأمريكي بمجلسَيه الشيوخ والنواب لمشروع قرار فيما يتعلق بمعاقبة نظام الأسد ومكافحة إنتاج المخدرات والإتجار بها وتفكيك الشبكات المرتبطة بالنظام، ودمج المشروع بموازنة وزارة الدفاع الأمريكي لعام 2023.
وكذلك تحميل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية مؤخرًا النظام مسؤولية استهداف مدينة دوما في الغوطة الشرقية بريف دمشق بغاز الكلور عام 2018، عقب تحقيق استمرَّ قرابة العامَين، وهو ما أيّدته تركيا التي أعلنت عبر وزارة خارجيتها مسؤولية النظام ودعمها لـ”الجهود الرامية لضمان المساءلة في سوريا”.
ولا يخفى تأثير إيران، التي ترغب في ملء الفراغ الروسي المحتمَل في سوريا، على مسار التقارب من حيث قدرتها على عرقلة المسار بحكم نفوذها وتأثيرها على نظام الأسد، فرغم إبدائها “سعادة” بالحوار التركي مع النظام، إلا أن خشيتها من استبعادها وتهميش دورها في سوريا على حساب تكريس الحضور التركي قد يدفعها إلى لعب دور مفسد في عملية تقارب لا تأخذ مصالحها بعين الاعتبار.
بالمحصلة، يبدو أن مسار التطبيع التركي مع نظام الأسد بات قرارًا سياسيًّا لن تتخلى تركيا عنه، رغم العوائق التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق تقدّم سياسي ملموس، ولكن يمكن القول إنه سيأخذ خطًّا طويلًا من المفاوضات الصعبة والمعقّدة رغم الحماس والإفراط في التفاؤل، نظرًا إلى عدم استعداد تركيا ونظام الأسد تقديم تنازلات جوهرية على الأمد المنظور.
وأيضًا مع الأخذ بعين الاعتبار عدم مقدرة النظام على تقديم تنازلات سياسية أو أمنية حقيقية لتركيا فيما يتعلق بملف اللاجئين و”قسد”، إضافة إلى التأثيرات الخارجية المحتملة على المسار لا سيما الأمريكية والإيرانية، فضلًا عن ثقل الملفات السياسية العالقة بين الطرفَين وعمق الخلاف بينهما.
ومن المتوقع رفع مستوى التنسيق الأمني والاستخباراتي، وتمرير بعض مصالح واحتياجات الطرفَين في المدى القريب، كالانفتاح الاقتصادي التركي المباشر على النظام، ومساعدته في الالتفاف على العقوبات الدولية، وإرجاء الملفات العالقة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية التي سيكون لها انعكاس وتأثير مباشر على مسار التطبيع مع النظام، وعلى التموضع التركي العام في سوريا.