أصبحت المناطق الحدودية بين السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد مسرحًا لصراع محلي ودولي، بحثًا عن النفوذ والمكاسب الاقتصادية خاصة الذهب، في ظل أزمات سياسية تعيشها البلدان الثلاث تتفاقم مع تعدد الفاعلين في الشأن العام.
وتنشط في حدود الدول الثلاث المشتركة شبكات تعمل في تجارة المخدرات وتسهيل الهجرة غير الشرعية وتهريب السلاح، إضافة إلى انتشار جماعات مسلحة منها واحدة على الأقل سودانية، تدعم تحالف جماعة سيليكا الساعية لتغيير حكومة أفريقيا الوسطى الحالية، فيما يبدو أنها بدعم من فرنسا بطرق غير مباشرة.
وعلى هذه الخلفية، سجّل رئيس الحكم العسكري السوداني عبد الفتاح البرهان في 29 يناير/ كانون الثاني، زيارة إلى تشاد التي زارها في اليوم التالي نائبه محمد حمدان “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية، عقدا فيها وبصورة منفصلة مباحثات مع رئيس تشاد المؤقت الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو.
وأبدى البرهان وديبي قلقهما، وفقًا لبيان مشترك، عن تكاثر النزاعات بين المجتمعات في المناطق الحدودية بين البلدَين، وقالا إن هذا يستدعي تعزيز القدرة العملياتية للقوة السودانية التشادية المشتركة، لمواجهة التحديات الأمنية التي تزداد تواترًا في الحدود عبر إقامة علاقات مباشرة بين الجهات المعنية بالأمن والدفاع، بجانب تبادل المعلومات الاستخباراتية بين أجهزة الأمن والتعاون القضائي.
واتفق الطرفان على اتخاذ إجراءات قوية لاحتواء الهجرة غير الشرعية وتهريب الأسلحة، كما أثارا الحاجة إلى تفعيل القوة الثلاثية المشتركة بين السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد، وهي قوات جرى تكوينها في 18 يناير/ كانون الثاني 2005 لمكافحة انعدام الأمن على الحدود المشتركة للدول الثلاث والبالغ طولها 1500 كيلومتر.
ما وراء الزيارة؟
ناقش البرهان وديبي إبعاد جميع القوات من حدود ولاية غرب دارفور، وهي قوات وصلت إلى هذه الولاية من تشاد هذا الشهر، وفيما تقول الحكومة إنها تابعة لجماعات التمرد المسلحة الموقّعة على اتفاق السلام، إلا أن شكوك دعم هذه القوات لعملية الانقلاب العسكري ضد الرئيس المؤقت ديبي لا تزال قائمة، وما يعزز هذه الشكوك تضمينها في أول مباحثات تُعقد بين البلدَين منذ الانقلاب.
وقال موقع “سودان تربيون“، نقلًا عن مصدر مطّلع، إن القمة السودانية التشادية بحثت تمدد قوات الدعم السريع على الحدود وإعادة تموضعها، وقلق فرنسا وتشاد من انتشار الدعم السريع الكثيف على الحدود مع أفريقيا الوسطى.
ويظهر أن القلق بدأ مع تزايد أنشطة قوات الدعم السريع لمنع انضمام مزيد من المقاتلين السودانيين إلى تحالف جماعة سيليكا، بالتعاون مع مجموعة فاغنر ذات الصلة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي فرضت عليها الولايات المتحدة الأميركية عقوبات إضافية مؤخرًا، وصنّفتها جماعة إجرامية عابرة للحدود.
اتفق الطرفان على اتخاذ إجراءات قوية لاحتواء الهجرة غير الشرعية وتهريب الأسلحة.
ويتعلق هذا التعاون بصورة رئيسية في دعم رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، فوستان أركانج تواديرا، والتنقيب عن الذهب في حدود السودان وأفريقيا الوسطى، وهذا التعاون كان يمضي دون عوائق إلى أن ظهر توتر جديد.
وبدأ التوتر في خواتيم نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، عندما احتشد عدد كبير من المسلحين الذين ينتمي بعضهم إلى جماعة تمازح المسلحة، والتي يعتقَد على نطاق واسع أنها قريبة من الجيش، والبعض الآخر ينتمي إلى قوات حرس الحدود التي دُمجت في الدعم السريع، إضافة إلى مسلحين قَبَليين؛ في مناطق تقع بالقرب من الحدود مع أفريقيا الوسطى.
وكان هؤلاء المسلحون الذين يستعملون سيارات دفع رباعي مُحمّلة بأسلحة خفيفة وثقيلة، يتجمعون من أجل دعم تحالف جماعة سيليكا المناوئة لحكومة أفريقيا الوسطى، وهي جماعة تمتلك روابط اجتماعية وقَبَلية ومصالح سياسية واقتصادية مع مجتمعات سودانية تقيم على الحدود، بما في ذلك إمدادها بالأسلحة عبر التهريب.
وفي 9 ديسمبر/ كانون الأول 2022، اختفى في العاصمة السودانية الخرطوم الجنرال المتقاعد أحمد عبد الرحيم شكرت الله، الذي تقول تقارير صحفية إنه قائد لهذه التجمعات المسلحة التي جنّدها مستفيدًا من صلته بالمجتمعات المحلية، ودوره في إنشاء قوات حرس الحدود التي قاتلت حركات التمرد في دارفور خلال حقبة الرئيس المعزول عمر البشير، ولا يزال اختفاؤه بمثابة لغز.
وبعد أقل من شهر من اختفاء الجنرال المتقاعد، قال حميدتي إن قوات الدعم السريع أوقفت قائد هذه التجمعات، دون أن يذكر اسمًا، سواء كان شكرت الله أم غيره، وأعلن عن إحباطه هدف التجمعات الذي هو تغيير نظام الحكم في أفريقيا الوسطى انطلاقًا من الأراضي السودانية، وهذا ما نفاه البرهان لاحقًا.
أنشطة حميدتي الخفية
أغلقت قوات الدعم السريع الحدود المشتركة مع أفريقيا الوسطى، مانعة ممارسة أي نشاط بما في ذلك التجارة ونقل البضائع، في محاولة لمنع الجماعات المسلحة السودانية من الانضمام إلى مقاتلي السيليكا، لكنها فشلت في هذا الأمر.
ونجح المقاتلون السودانيون من الانضمام إلى حركة سيليكا، حيث نصب الطرفان كمينًا لقوات تابعة لمجموعة فاغنر على الطريق إلى منطقة اندها التي تضمّ مناجم الذهب التابعة لأفريقيا الوسطى، ليدخلا في اشتباكات يومَي الجمعة والسبت 28 و29 يناير/ كانون الثاني الجاري.
يخشى نظام الحكم في تشاد من دعم مجموعة فاغنر وبالتالي روسيا لأنشطة الجماعات المعارضة له، كما تخشى دول غربية جعل المناطق الحدودية نقطة انطلاق لزعزعة استقرار الانتقال السياسي في تشاد.
وقال أقارب مقاتلين لموقع “دارفور 24” إن هذه الاشتباكات خلّفت عشرات القتلى، بينهم سودانيين و7 عناصر من مجموعة فاغنر، إضافة إلى جنود من قوات أفريقية كانوا يرافقون الروس، كما جرى تدمير 3 دبابات واستيلاء قوات السيليكا على كميات من الأسلحة والمركبات العسكرية.
وهذه الاشتباكات، التي اُستخدمت فيها الدبابات، تشير إلى أن عدد القوات من الجانبَين كبير جدًّا، وفي حال استمرار المواجهات ربما تخرج المناطق الحدودية عن السيطرة، وهذا سيشكّل حرجًا كبيرًا لحميدتي أمام روسيا.
لا يخفى على أحد في السودان علاقة حميدتي مع مجموعة فاغنر التي تستخدمه لتصدير الذهب، وربما الإنتاج المشترَك من مناجم المناطق الحدودية بين السودان وأفريقيا، ويخشى نظام الحكم في تشاد من دعم مجموعة فاغنر وبالتالي روسيا لأنشطة الجماعات المعارضة له، كما تخشى دول غربية جعل المناطق الحدودية نقطة انطلاق لزعزعة استقرار الانتقال السياسي في تشاد.
وفي زيارته إلى العاصمة إنجمينا، ناقش حميدتي مع ديبي القضايا الإقليمية وتفعيل دور القوات المشترَكة التشادية السودانية في الحفاظ على أمن الحدود، ومنع تهريب الأسلحة والتجارة غير المشروعة والجرائم المنظمة، وفقًا للرئاسة التشادية التي لم تورد معلومات إضافية، خاصة فيما يتعلق بالأوضاع على حدودها بين السودان وأفريقيا الوسطى.
تأثير هذا الصراع على العملية السياسية
يُرجّح أن البرهان مصطف مع فرنسا وربما مع دول غربية أخرى لتأمين مصالحها في أفريقيا الوسطى التي قد تشمل تغيير نظام الحُكم فيها، فيما يُناصر حميدتي مجموعة فاغنر المهيمنة على الأوضاع في ثاني أفقر بلد في القارة السمراء.
وكان بمقدور البرهان، وهو قائد الجيش، أن يعمل على توقيف المقاتلين السودانيين منذ بداية تجمعهم، خاصة أنه عمل مع الجنرال المتقاعد المختفي شكرت الله على تأسيس قوات حرس الحدود، وهذا ما يعزز من مصداقية أنه مشارك في الترتيب لهذا الأمر، رغم نفيه.
وبالطبع، دعم البرهان وحميدتي لأي طرف في أفريقيا الوسطى ليس في صالح السودان، فهما يعملان بنهم من أجل الانفراد بالسُّلطة أو الإفلات من العقاب على الأقل من الجرائم التي ارتكباها، خاصة عملية فضّ الاعتصام حول قيادة الجيش في 3 يونيو/ حزيران 2019، لذا هما مستعدان للتعاون مع أي طرف لتحقيق ما يصبوان إليه.
وهذا التنافس انعكس على الأوضاع الداخلية، بما في ذلك العملية السياسية التي تيسّرها بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “إيقاد”، والرامية إلى إعادة العسكر إلى الثكنات وتسليم السُّلطة.
وتُجرى هذه العملية السياسية بناءً على توقيع البرهان وحميدتي لاتفاق إطاري مع قوى سياسية ومهنية أبرزها ائتلاف الحرية والتغيير، حيث تُعقد هذه الفترة نقاشات في قضايا شائكة، بعد التوافق عليها تُشكَّل حكومة مدنية متوقّع إعلانها بنهاية فبراير/ شباط المقبل.
ويستغل البرهان وحميدتي ثغرة في الاتفاق الإطاري، تتعلق بعدم محاسبتهما على جُرم الانقلاب العسكري الذي نفّذاه في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وبالتالي ضمان بقائهما في منصبيهما قائدَين للجيش والدعم السريع، ما أتاح لهما السعي إلى تأمين طموحهما في الترشح في أول انتخابات، ولهذا يبدو أن محاولة كل منهما تحجيم الآخر في المساحات التي يتحرك فيها مفهومة.