سجل الدور الثاني للانتخابات التشريعية المبكرة في تونس، نسبة عزوف ومقاطعة كبيرة، ناهزت 90%، وهي المرة الأولى التي تسجل فيها هذه النسبة في تاريخ الانتخابات بالعالم، ما يؤكد عدم رضا التونسيين عن المسار الذي يقوده الرئيس قيس سعيد منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية في يوليو/تموز 2021.
بالتوازي مع هذا الغضب الشعبي الكبير ورفض المسار الذي يصفه الرئيس قيس سعيد وأنصاره بـ”التصحيحي”، طالبت العديد من القوى السياسية والمدنية، سعيد، بفتح قنوات التواصل والحوار معه أو الاستقالة من منصبه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتجنيب تونس خطر الانهيار.
لكن يبدو أن سعيد مصر على مواصلة فرض مشروع حكمه الأحادي، فقد أرجع سبب العزوف الكبير عن التصويت في الانتخابات التشريعية المبكرة إلى عدم ثقة التونسيين بالبرلمان، كما استبق تحركات القوى المعارضة على رأسها الاتحاد التونسي للشغل بتعديل وزاري.
تعديل وزاري جديد، أكد من خلاله سعيد، نية التصعيد وعدم الاكتراث لتهديد المركزية النقابية والقوى المدنية والسياسية التي تنسق معها، فقد عرف كيف يخترق اتحاد الشغل من الداخل ويكسب عماد الاتحاد إلى صفه.
تعديل حكومي جزئي
في هذا التعديل الوزاري الجديد، قام الرئيس التونسي بتغيير وزيري التعليم والزراعة، وفق بلاغ مقتضب صادر عن رئاسة الجمهورية، نشرته الرئاسة عبر حسابها بـ”فيسبوك،” عقب لقاء جمع سعيد ورئيسة الحكومة نجلاء بودن في قصر قرطاج، من دون ذكر سبب التعديل الحكومي.
الرئاسة قالت إن سعيد قرر الإثنين “إجراء تعديل جزئي” عين بمقتضاه محمد علي البوغديري وزيرًا للتربية (التعليم) خلفًا لفتحي السلاوتي، وعبد المنعم بلعاتي وزيرًا للفلاحة والموارد المائية والصيد البحري (الزراعة) خلفًا لمحمود إلياس حمزة.
إقحام عسكري آخر في الحكومة وفتح الأبواب أمام المؤسسة العسكرية للقيام بأدوار سياسية، له أن يُسيل لعاب المؤسسة ويغريها بالتغلغل أكثر في الحياة السياسية التونسية
قبل 3 أسابيع، أقال سعيد وزيرة التجارة وتنمية الصادرات فضيلة الرابحي وخلفتها بعد ستة أيام كلثوم بن رجب، وتلك الإقالة هي الأولى في حكومة بودن التي بدأت عملها في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عندما أعلنت تشكيلة من 24 وزيرًا وكاتبة دولة وحيدة، فيما تعود أول استقالة في حكومة بودن إلى 8 مارس/آذار 2022، وهي لكاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والهجرة عائدة حمدي.
عسكري على رأس الزراعة
في هذا التعديل الحكومي، اختار سعيد اللجوء مجددًا إلى العسكر في بدعة جديدة لم تعرف تونس لها مثيلًا، إذ نصّب على رأس وزارة الفلاحة والصيد البحري ضابطًا في الجيش التونسي، كما هو الحال مع وزارة الصحة التي يقودها العميد بالجيش التونسي علي مرابط.
بعد المشاكل التي عرفتها الوزارة، عين سعيد عبد المنعم بلعاتي وزيرًا الفلاحة، وهو الذي يشغل خطة متفقد عام للقوات المسلحة منذ سنة 2017، وسبق أن شغل خطط آمر الوحدة الجوية 15 وآمر القاعدة الجوية بصفاقس وآمر القاعدة الجوية بالخروبة ورئيس مكتب التدريب والعمليات بأركان جيش الطيران ومدير التعاون والعلاقات الدولية.
يذكر أن بلعاتي حاصل على الشهادة العسكرية من المدرسة الحربية العليا اختصاص طيار نفاثة، وحصل أيضًا على تكوين ضابط بالأكاديمية العسكرية بتونس وتكوين ضابط طيار بالأكاديمية الجوية بإيطاليا وتكوين ضابط طيار مقاتل بتونس.
يُرجع هذا التعيين، هوس سعيد في إدخال العسكر للسلطة إلى الواجهة، إذ يسعى سعيد منذ توليه رئاسة تونس للتقرب من الجيش وفتح المجال أمامه للتغلغل في السلطة كما هو الشأن في أغلب الدول العربية، بهدف كسب وده وضمان دعمه له.
طيار مقاتل في #المؤسسة_العسكرية تم تعيينه وزيرا الفلاحة، كان هذا مش غباء سياسي وإداري وتسييري شنو اسمه ؟#يسقط_الانقلاب
— Khaoula Boukrim ? (@khaoulaboukrim) January 30, 2023
أكدت العديد من المؤشرات رغبة سعيد في إضفاء العسكرة الشاملة على كل الأسلاك والقطاعات في تونس، رغم أنه لم يسبق في تونس أن اقتحم الجيش ميدان السياسة، حتى في عهدي بن علي وبورقيبة، فكلاهما تعمد إضعاف المؤسسة العسكرية خوفًا من تغوّلها.
غالبًا ما كانت المؤسسة العسكرية في تونس بعيدة عن الحياة السياسية، مهتمة بحماية حدود البلاد والمشاركة في بعض المشاريع التنموية على غرار مشروع واحات رجيم معتوق بالجنوب التونسي، لكن سعيد يريد تغيير هذا الأمر.
إقحام عسكري آخر في الحكومة وفتح الأبواب أمام المؤسسة العسكرية للقيام بأدوار سياسية، له أن يُسيل لعاب المؤسسة ويغريها بالتغلغل أكثر في الحياة السياسية التونسية، وحينها يمكن أن تكرر تونس تجربة العديد من الدول العربية في هذا الشأن كمصر والجزائر، والنتائج معلومة للجميع.
بعد انقلابه على دستور البلاد، تشير بعض المؤشرات إلى سعي قيس سعيد إلى الانقلاب أيضًا على مدنية مؤسسات الدولة وعسكرتها، ما من شأنه أن يعود بالسلب على سمعة الجيش التونسي وصورته الجيدة في أذهان غالبية التونسيين.
الاستنجاد بنقابي استباقًا لتحركات اتحاد الشغل
إلى جانب الاستنجاد بعسكري على رأس وزارة الزراعة، استنجد سعيد بنقابي ليعينه وزيرًا للتربية، وهو محمد علي البوغديري، القيادي السابق بالاتحاد العام التونسي للشغل، حيث شغل في وقت سابق خطة الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل.
ومعروف عن البوغديري، دخوله في خلاف مع القيادة الحاليّة لاتحاد الشغل، ورفضه نتائج المؤتمر الأخير للاتحاد، الذي صادق على تنقيح الفصل 20 من النظام الأساسي للاتحاد ليجيز لأعضاء المكتب التنفيذي الترشح لأكثر من دورتين متتاليتين.
إصرار الاتحاد على إقصاء أبرز قوى المعارضة من مبادرته وتحميلها مسؤولية الوضع في البلاد، هو إعلان مباشر بفشل المبادرة
يرتبط البوغديري بعلاقات كبيرة مع الأسعد اليعقوبي الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي، الذي يسيطر على قطاع التعليم الذي يضم نحو 250 ألف بين أساتذة ومعلمين وقيمين وإداريين وعملة، وهو أكبر قطاع عمالي في تونس.
من خلال هذا التعيين، أراد سعيد إحكام قبضته على قطاع التعليم واستغلال صداقة البوغديري باليعقوبي، واتقاء شر إضرابات هذا القطاع الذي يعتبر عماد المركزية النقابية في تونس، وضمان وده هو ضمان لود الاتحاد.
يعلم سعيد أن الاتحاد سيمضي في جملة من الإضرابات القطاعية للضغط عليه للجلوس على طاولة الحوار، لكن إحكام السيطرة على قطاع التربية هو تعطيل لمحرك أساسي من محركات الاتحاد، وإضعاف لقوة المركزية النقابية.
نفهم من هنا، أن الرئيس سعيد يسعى لبعث رسائل للاتحاد العام التونسي للشغل الذي يقود مشاورات حثيثة صحبة بعض القوى المدنية لبلورة مبادرة لإخراج تونس من أزمته السياسية والاقتصادية التي تعيش على وقعها منذ انقلاب قيس سعيد على مؤسسات الدولة.
يريد سعيد إقناع قيادات الاتحاد بقدرته على اختراق المنظمة النقابية من الداخل والسيطرة على أبرز القطاعات فيها وتعطيل محركاتها، الأمر الذي يفرض على اتحاد الشغل مزيدًا من التحرك والتنسيق مع باقي القوى الوطنية المعارضة لبرنامج سعيد وتوجهاته.
إصرار الاتحاد على إقصاء أبرز قوى المعارضة من مبادرته، وتحميلها مسؤولية الوضع في البلاد، هو إعلان مباشر بفشل المبادرة، فسعيد يستغل جيدًا التشتت الحاصل داخل معسكر المعارضة للمضي قدمًا في إرساء مشروع حكمه.