ترجمة وتحرير: نون بوست
في سنة 1923، تلقّى فهمي يلماز – أحد سكان قرية كريفجي (كيفوتوس حاليًا) في جنوب اليونان – تحذيرًا من زعيم قريته المحلي. ومع أن يلماز وعائلته عاشوا في القرية منذ قرون، إلا أن زعيم القرية قال إنهم مجبرون مع جميع المسلمين الآخرين على مغادرة اليونان نحو تركيا في رحلة مضنية تبدأ سيرًا على الأقدام، ثم بالقطار، وأخيرًا بالعبّارة لنقلهم عبر البحر من ثيسالونيكي إلى إسطنبول.
خاض حوالي 400 ألف مسلم هذه الرحلة الشاقة عبر البحر نحو جارتهم الشرقية، وفعل أكثر من 1.2 مليون مسيحي نفس الأمر في الاتجاه المعاكس. كان الهدف من هذا التبادل السكاني بين اليونان وتركيا، الذي تم الاتفاق عليه قبل قرن وتحديدًا في 30 كانون الثاني/ يناير 1923 من قبل الحكومتين، ضمان الانسجام من خلال إنشاء دول متجانسة عرقيًا يفترض أنها خالية من الصراع الطائفي. لقد هجر أكثر من 1.6 مليون شخص موطنهم قسرًا، وأجبروا على النزوح إلى أراض لم يسبق لهم زيارتها، والعيش بجانب أشخاص لا تجمعهم بهم أي روابط مشتركة سوى الدين.
أخبر آيكان يلماز، ابن فهمي يلماز، موقع “ميدل إيست آي” أن والده زار مسقط رأسه مرة أخرى بعد 77 عامًا في سنة 2001 ليستعيد ذكريات طفولته، أنه “بكى كثيرا. وجمع بعض التراب، واشترى بضعة أرغفة من الخبز وبعض علب الزيتون. وعند عودته إلى قريته في تركيا، أكل هو ورفاقه الخبز والزيتون ودموعهم تنهمر، وأحيا ذكريات وطنهم. وعندما توفي، وضعنا تربة كريفجي في قبره كما أوصى”.
دول متجانسة
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، احتلت قوات الحلفاء الأناضول وكان الجيش اليوناني يسير باتجاه أنقرة. وفي سنة 1919، تحدّت الحركة الوطنية التركية بقيادة القائد العسكري مصطفى كمال (أتاتورك) المعاهدات التي أبرمها السلطان العثماني مع الحلفاء وشنت حملة عسكرية لتأكيد السيطرة على شبه الجزيرة وطرد القوات الأجنبية.
عندما تم صدّ الجيش اليوناني من داخل الأناضول الداخلية إلى شواطئ بحر إيجة، بدأ الرعايا المسيحيون في الإمبراطورية العثمانية الفرار إلى البرّ الرئيسي لليونان خوفًا من أن يقتلهم القوميون الأتراك، وهو وضع تفاقم بسبب محاولات الجيش اليوناني تجنيدهم في القتال. ووفقًا لصَفَر جوفينك، الباحث في التبادل السكاني، كان حوالي مليون مسيحي قد غادروا الأناضول بالفعل قبل عملية التبادل الرسمية، بينما هجر 200 ألف مسلم اليونان.
في 16 آذار/ مارس 1922، صرّح وزير الخارجية التركي يوسف كمال تنغريسنك بأن الحكومة القومية “تؤيد بشدة حلاً يرضي الرأي العام العالمي ويضمن الأمن في بلدها”، وقالوا إنهم مستعدون “لقبول” فكرة التبادل السكاني بين اليونانيين في الأناضول والمسلمين في اليونان”.
في أعقاب انتصار الحركة الوطنية التركية في سنة 1923، اجتمعت الحكومتان في مدينة لوزان واتّفقتا على تبادل السكان بعد اقتراح من الدبلوماسي النرويجي في الأمم المتحدة فريدجوف نانسن، بدعم قوي من البريطانيين.
أصبحت المدن اليونانية مثل دراما وكافالا وسالونيكي وكريت وكوس، التي سكنها المسلمون والمسيحيون الأرثوذكس لعدة قرون، خالية من المسلمين، بينما أصبحت الأناضول موطن المسيحيين الأرثوذكس لآلاف السنين خالية من المسيحيين. وعلى الرغم من أن التبادل القسري للسكان على هذا النطاق الضخم كان له سوابق تاريخية قليلة، أوضح البروفيسور كمال آري – المعروف بأبحاثه المكثفة حول التبادل السكاني – أن الاتفاقية القانونية ساهمت إلى حد كبير في تسريع العملية التي كانت جارية بالفعل.
كانت وتيرة القومية، باعتبارها ظاهرة، تتسارع على امتداد المائة سنة الماضية لا سيّما فيما يتعلّق باستقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية في سنة 1821، ويعتقد الكثيرون أن اليونان وتركيا كانتا في طريقهما بالفعل إلى أن تصبحا دولتين قوميتين متجانستين – حتى لو كانت طريقة تحديد من كان “يونانيًا” أو “تركيًا” تركز بشكل كبير على الدين، لينتهي المطاف بالمسيحيين الناطقين باللغة التركية والمسلمين الناطقين باليونانية إلى العيش مع أشخاص لا يفهمونهم.
التوق إلى العودة
استثنت اتفاقية التبادل السكاني الروم الأرثوذكس المسيحيين المقيمين في إسطنبول ومسلمي تراقيا الغربية. ومع ذلك، غادر عدد كبير من المسيحيين إسطنبول في أعقاب مذبحة سنة 1955، في الوقت الذي كان يعاني فيه المسلمون التراقيون من تمييز واسع النطاق حتى يومنا هذا.
رغم المعارك الطاحنة بين الجيشين الوطنيين في الأناضول، طوّرت عائلة يلماز علاقات حميمة مع جيرانهم المسيحيين، حتى أنهم فتحوا منازلهم للاجئين المسيحيين. ولكن في النهاية لم يكن خيار المغادرة أو البقاء بيدهم.
أوضح آيكان “وصل أجدادي إلى ثيسالونيكي في غضون أسبوعين وركبوا العبارة. كانت مليئة بالناس الذين كانوا يتضورون جوعا ويعانون من الأمراض. وكلما قرع الجرس في العبارة، كان الرجال يتجهون إلى سطح السفينة للصلاة من أجل راكب ميت. ثم يربطون قطعة حديدية صغيرة في قدميه ويرمون الجثة في البحر”.
مع الذكرى المئوية للتبادل السكاني، حان الوقت بطريقة ما لتضميد جراح عمليات الترحيل والمساعدة في إعادة بناء العلاقات بين المتبادلين وأوطانهم التاريخية
ينتمي عيسى خليل إرجيلين، الأمين العام لمؤسسة “تبادل لوزان” – وهي منظمة مكرسة لمناقشة أحداث سنة 1923 – إلى عائلة عاشت هذه التجربة أصلها من كافالا في شمال اليونان. وأوضح قائلا “حمل أجدادي أي شيء يمكنهم حمله معهم، واستقلوا العبارة إلى تركيا. ولم ينسوا كافالا قط وبكوا على طردهم من وطنهم. اُبعِد والدي عن كافالا ورفض زيارتها مجددا حتى لا يستحضر الذكريات المؤلمة التي كان على والديه تحمّلها”.
“ابن يونانيّ”
لم تسر عملية وصول المسلمين اليونانيين المتبادلين إلى تركيا بسلاسة. تم توطينهم في منازل كانت مملوكة سابقًا لمسيحيي الأناضول المطرودين. ورغم توصيفهم من قبل الحكومة القومية الجديدة على أنهم أتراك، إلا أن العديد من السكان المحليين لم يثقوا بهم. وبالنسبة لأولئك المسلمين الذين يتحدثون اليونانية كلغة أولى، كان الوضع أسوأ.
قال إرجيلين إنه “حتى سبعينات القرن الماضي، حافظ الأشخاص الذين تم تبادلهم على مسافة بينهم وبين السكان المحليين لأنهم لم يكونوا موضع ترحيب. وكانت كلمة “ابن يونانيّ” من أشهر الشتائم التي كان يتناقلها السكان المحليون بينهم، للتعبير عن رفضهم لعملية التبادل”.
Today is the centennial of the “Convention Concerning the Exchange of Greek and Turkish Populations.” 1.6 million people were uprooted from their ancestral lands. Christians were sent from Turkey to Greece, and Muslims from Greece to Turkey, usually against their will. (1/3)
— Timur Kuran (@timurkuran) January 31, 2023
وأوضح أن الاندماج استغرق عقودًا عديدة، وقد ساهم في تسريعه التحضّر الجماعي في تركيا بشكل خاص، الذي شهد انتقال الملايين – سواء من سكان التبادل أو المواطنين – إلى المدن من المناطق الريفية والتكيف معًا مع بيئة جديدة أخرى.
مع ذلك، يعتقد يلماز أن الفجوات الكبيرة في الثقافة والعادات والمطبخ أبقت المجتمعات منفصلة لسنوات عديدة، ولم يصبح الزواج المختلط أمرًا طبيعيًا إلا مؤخرًا نسبيًا. ولطالما اعتقد الأتراك المتبادلون أنهم سيعودون يومًا ما، وكذلك فعل اليونانيون.
صداقة خالية من السياسة
مع الذكرى المئوية للتبادل السكاني، حان الوقت بطريقة ما لتضميد جراح عمليات الترحيل والمساعدة في إعادة بناء العلاقات بين المتبادلين وأوطانهم التاريخية.
يقوم أحفاد المسلمين المتبادلين حاليا بزيارات منتظمة إلى مسقط رأسهم في اليونان. ويَلقوْن في الغالب ترحيبا من السكان المحليين. ونوّه إرجيلين قائلا “أنا وابنتي نزور قريتنا في كافالا كل سنة لأننا أصدقاء لسكانها الآن. لم يسمحوا لي أبدًا بالبقاء في فندق”.
لقد صعّبت الخلافات المنتظمة التي تحدث بين حكومتي تركيا واليونان العملية. ومع ذلك، قال آيكان يلماز إن معظمهم وضعوا السياسة جانبا وعززوا علاقاتهم بشأن تجربة مشتركة للخسارة والتاريخ.
وفي الواقع، لدى كلا الجانبين قصص متشابهة. فقد عانى اليونانيون من هذا التبادل أيضا. وقال آيكان “في زياراتنا الأولى، كان كلا الجانبين أكثر قلقًا وبُعدًا عن بعضهما البعض – ومع ذلك، كلما تحدثا أكثر أدركا أنهما متشابهان للغاية مع بعضهما البعض لدرجة أن السياسة لا يمكن أن تخلق خلافًا بينهما”.
المصدر: ميدل إيست آي