ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما أعلن محمد الجدعان خلال تجمع للنخبة السياسية والتجارية العالمية أن المملكة العربية السعودية ستفرض، في المستقبل، شروطًا لتقديم المساعدات الخارجية، كان وزير المالية يعلن عن توسيع الشروط القائمة بدلاً من اتباع نهج جديد تمامًا.
لا يربط الشرط الجديد الذي أطلق عليه اسم “السعودية أولاً” المساعدة بالسياسات والإصلاحات الاقتصادية المسؤولة فحسب، بل يدعم السياسة الجيوسياسية للمملكة.
منذ فترة طويلة؛ دأبت المملكة العربية السعودية على منح المساعدات دون فرض أي قيود علنية. وتمت مراقبة المساعدات من خلال مطالبة البلدان المتلقية بدعم سياسات المملكة، وغالبًا ما تستخدم سياسة الجزرة والعصا للحج، الذي يعد من أحد أركان الإسلام الذي يتم تأديته سنويًّا إلى مدينة مكة المكرمة، والمخصص لجميع البلدان في أنحاء العالم.
فهم الأمر بشكل أفضل
نتيجة لذلك؛ على مر السنين، ضخت المملكة العربية السعودية عشرات المليارات من الدولارات على دول استخدمت المساعدات كوسيلة مساعدة لمعالجة أزمة فورية دون بذل أي جهود هيكلية لحل الأسباب الكامنة وراءها.
بالنسبة لدول مثل لبنان ومصر وباكستان، كان هذا يؤدي إلى التعثر في سلسلة من الأزمات المتتالية. في هذا السياق؛ صرح الجدعان خلال للمنتدى الاقتصادي العالمي هذا الشهر الذي عقد في منتجع دافوس السويسري: “نحن بصدد تغيير الطريقة التي نقدم بها المساعدة والمساعدة الإنمائية. اعتدنا على تقديم المنح والودائع المباشرة دون قيود، لكننا أحدثنا تغييرات على هذه السياسة ونحن نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول إننا بحاجة إلى رؤية الإصلاح”.
سياسة “السعودية أولًا” تخدم أهداف السعودية المتعددة
تربط الدوافع الجيوسياسية للمساعدات السعودية بالمعايير الاقتصادية التي من المرجح أن تعزز نفوذ المملكة، وتخلق فرصًا للاستثمار والأعمال السعودية، وتعزز علاقات المملكة بالدول المتلقية.
وبذلك؛ تضع المشروطية الإضافية المملكة كعضو بناء يتطلع إلى المستقبل في المجتمع الدولي. ويجعل هذا الشرط المملكة العربية السعودية متسقة مع جهود المؤسسات متعددة الأطراف مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبنوك التنمية الإقليمية، والجهات المانحة الرئيسية على غرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويمكن للحكام السعوديين من الالتفاف على الآثار المترتبة على مبدأ “لا ضرائب بدون وجود تمثيل شعبي” الذي تعود جذوره إلى الثورة الأمريكية.
وتضمن إصلاحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على المستوى الاجتماعي والاقتصادي للمملكة في ظل تشديد قبضته السياسية كجزء من خطته لتنويع اقتصاد المملكة، فرض ضرائب دون مشاركة سياسية.
وحسب الباحثة في شؤون الدول الخليج؛ كريستين سميث ديوان “يرى السعوديون أن مواردهم تذهب إلى الخارج بينما يُطلب منهم دفع الضرائب، وخفض فوائدها، وما إلى ذلك. لذا أعتقد أن هذا الموقف السعودي الأول يعد وسيلة لمحاسبة واحتواء الشعبوية”.
من شأن التحايل السعودي على المبدأ الثوري الأمريكي، بغض النظر عما إذا كان يساعد في تهدئة السعوديين، أن يكون له عواقب غير مقصودة؛ ففي وقت سابق من هذا الأسبوع، أقال البرلمان الأردني النائب محمد الفايز على إثر رسالة وجهها لولي عهد السعودية محمد بن سلمان ناشده فيها عدم إرسال مساعدات للأردن.
وقال السيد الفايز في رسالة إلى ولي العهد: “كل مساعداتكم تذهب إلى جيوب الفاسدين. كل هباتكم تذهب لدفع فواتير جميع الأردنيين منها براء. نسمع بالمساعدات للدولة ولكن لا تذهب سوى لطبقة فاسدة تزداد غنى على حساب كرامة المواطن الأردني الأبي”.
وتزامن إجراء البرلمان الأردني مع إعلان وزير المالية السعودي؛ حيث كتب الفايز في رسالته في كانون الأول/ ديسمبر في ذروة الاشتباكات التي جدت في مدينة معان الجنوبية بين قوات الأمن والمتظاهرين الغاضبين جراء ارتفاع أسعار الوقود وسوء الإدارة.
كان العداء السعودي تجاه نظام الجنرال المصري السابق عبد الفتاح السيسي واضحًا في ظل غياب المملكة عن اجتماع لقادة المنطقة في أبو ظبي في وقت سابق من هذا الشهر، في حين كان السيسي من الحاضرين.
ستتجلى التعقيدات الجيوسياسية التي تفرضها الشروط الجديدة على دول مثل لبنان وباكستان ومصر، التي يُحتمل أن تكون الأكثر تأثرًا بالشروط الجديدة للمساعدات السعودية.
بالنسبة للمملكة العربية السعودية؛ يتعلق لبنان بمواجهة إيران ووكيلها الشيعي اللبناني، حزب الله، وهي مليشيا قوية وحركة سياسية لها تأثير كبير في الحكومة وهيكل السلطة في البلاد؛ حيث تأمل المملكة العربية السعودية أن تفرض الشروط الجديدة تغييرًا في ديناميكيات السلطة في لبنان.
في هذا الشأن؛ تساءل الكاتب السعودي حمود أبو طالب قائلًا: “العالم كله يعرف ما قدمته المملكة العربية السعودية للبنان… حتى يستعيد قوته. ولكن ماذا يمكننا أن نفعل إذا اختارت السياسة اللبنانية الحالية تسليم مقاليد سلطة دولة عربية قديمة إلى وكيل إيران في ذلك البلد؟”، ومن المؤكد أن المؤسسة اللبنانية مسؤولة عن تأرجح البلد على حافة الانهيار.
ووصف البنك الدولي الأزمة التي يغذيها الفساد والهدر والسياسات المالية غير المستدامة بأنها واحدة من أسوأ الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وتعكس المعركة القضائية التي جرت هذا الأسبوع حول محاسبة الشخصيات النافذة في البلاد على انفجار مرفأ بيروت الذي حدث سنة 2020 والذي امتد إلى شوارع العاصمة اللبنانية؛ عزم الحكومة اللبنانية على حماية نفسها بغض النظر عن التكلفة التي سيتكبدها لبنان ككل؛ حيث أدى الانفجار الذي وقع في مستودع بالميناء يضم مئات الأطنان من نترات الأمونيوم، وهي مادة تستخدم في الأسمدة، إلى مقتل 218 شخصًا وإصابة أكثر من 6 آلاف وإلحاق أضرار بأجزاء كبيرة من بيروت.
ومن شأن مساهمة السعودية في فرض التغيير السياسي، وهو شرط لا غنى عنه لوضع لبنان على طريق التعافي من أزمته المتعددة الأبعاد، أن يكون موضع ترحيب، كما أنه سيقطع شوطًا نحو تحمل المملكة المسؤولية عن دورها في خوض حرب بالوكالة استمرت عقودًا مع إيران والذي تسبب في جعل هذه الدولة المتوسطية تجثو على ركبتيها.
أي إذا كانت الشروط التي تفرضها السعودية مصممة بطرق تسمح بالإسهام في التغيير مع والتخفيف من الأزمة التي يعاني منها اللبنانيين؛ حيث فقدت الليرة اللبنانية 95٪ من قيمتها، وارتفعت الأسعار بشكل كبير، فضلا عن انهيار القوة الشرائية.
حاول السيسي دون جدوى التلاعب بالعملة المصرية، وتحديد أولويات الإنفاق المضللة، وإطلاق مشاريع عملاقة مكلفة، وتوسيع سيطرة الدولة والعسكر التي أضرت بشكل كارثي الاقتصاد المصري.
وتتمثل إحدى الطرق في جعل المساءلة عن انفجار بيروت شرطًا لتقديم المساعدات في المستقبل.
في المقابل؛ كان العداء السعودي تجاه نظام الجنرال المصري السابق عبد الفتاح السيسي واضحًا في ظل غياب المملكة عن اجتماع لقادة المنطقة في أبو ظبي في وقت سابق من هذا الشهر، في حين كان السيسي من الحاضرين.
وتعكس حالة الجمود حقيقة أن مصر عبارة عن ثقب أسود؛ حيث ضخت السعودية والإمارات ودول الخليج الأخرى عشرات المليارات من الدولارات دون أن تلحظ أي النتائج الملموسة باستثناء الحفاظ على السلطة في ظل نظام انبثق عن انقلاب عسكري عام 2013 بدعم من المملكة والإمارات.
ودعمت السعودية والإمارات الانقلاب كجزء من حملة لدحر إنجازات الانتفاضات العربية الشعبية سنة 2011 التي أطاحت بأربعة قادة، بمن فيهم الرئيس المصري حسني مبارك.
وأنهى الانقلاب رئاسة محمد مرسي، الزعيم الأول والوحيد المنتخب ديمقراطيا في مصر. ذلك لأنه كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، كان السيد مرسي يشكل خطرا وشيكا على دولتي الخليج.
وأدركت الإمارات في وقت مبكر أنها بحاجة إلى ضمان توزيع ملياراتها بحكمة، لذلك استندت إلى مسؤول على مستوى مجلس الوزراء في القاهرة للدعوة إلى الإصلاحات والمساعدة في صياغة السياسات التي من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح.
وفد الجهود الإماراتية باءت بالفشل، حيث تحتاج مصر باستمرار إلى أموال إضافية من الخليج وصندوق النقد الدولي والإمارات العربية المتحدة، مما سمح للسيسي بتحويل الجيش إلى اللاعب الاقتصادي الأول في البلاد.
وأدى تأثير جائحة كوفيد-19 وحرب أوكرانيا على أسعار السلع والطاقة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر والتي كانت إلى حد كبير نتاج سوء إدارة السيسي الاقتصادية.
وحاول السيسي دون جدوى التلاعب بالعملة المصرية، وتحديد أولويات الإنفاق المضللة، وإطلاق مشاريع عملاقة مكلفة، وتوسيع سيطرة الدولة والعسكر التي أضرت بشكل كارثي الاقتصاد المصري.
وسيحدد الوقت الدروس التي قد يتعلمها السعوديون من التجربة الإماراتية. على عكس لبنان؛ فإن السؤال هو ما إذا كانت المملكة العربية السعودية ستفرض بصرامة شروط سياستها الخاصة بالمساعدات أو تواصل النظر إلى مصر على أنها أكبر من أن تفشل.
إنشاء اللبنات الأساسية التي تتضمن علاقات أوثق مع متلقي المساعدات الخارجية السعودية من خلال فرض قيود معقولة مرتبطة يعد خطوة أساسية نحو ترسيخ النفوذ الجيوسياسي للمملكة.
تكمن مشكلة المملكة العربية السعودية ودول الخليج في أن مستوى السخط الشعبي آخذ في التصاعد في مصر ويمكن أن ينفجر في أي وقت، وما يجعل الأمور أكثر تقلبًا هو احتمال حدوث محنة للفلسطينيين، والتي تفاقمت بسبب سياسات الحكومة القومية اليهودية المتشددة الجديدة في إسرائيل، لتصبح حافزًا للاحتجاجات المناهضة للحكومة.
وقال صحفي مصري: “مثل هذه المظاهرات لها حياة خاصة بها، وفي لحظة يمكن أن تتحول إلى احتجاج ضد الحكومة، ضد الفقر وهدر المال، ومن المحتمل أن تندلع مواجهة مباشرة يمكن أن تكون نتائجها مدمرة”.
قد يكون أحد العوامل في تدخل السعودية في الشؤون المصرية هو تصور أن الدولة الواقعة في شمال إفريقيا، التي رفضت الانغماس في حرب المملكة في اليمن، ربما لم تعد الحاجز الأمني في إفريقيا كما كانت في السابق مع السودان، البلد الذي يمر بمرحلة انتقالية بعد الثورة الشعبية لسنة 2019.
ويبدو أن هذا كان أحد أسباب توقيع مذكرة تفاهم هذا الشهر بشأن التعاون الدفاعي بين المملكة العربية السعودية وتشاد، الدولة الواقعة في منطقة مزقتها التمردات العرقية والجهادية.
وتشير المذكرة إلى اهتمام سعودي محتمل بلعب دور أمني في غرب إفريقيا في وقت تنسحب فيه فرنسا بينما يزداد تدخل تركيا وإيران ومجموعة فاغنر، المرتزقة الروس الذين تربطهم علاقات وثيقة بالرئيس فلاديمير بوتين.
خلال السنة الماضية؛ توسطت قطر في اتفاق سلام بين الحكومة التشادية وأكثر من 30 فصيلًا معارضًا ومتمردًا. ومع ذلك؛ رفضت تسع مجموعات، بما في ذلك جبهة التغيير والوفاق في تشاد، أقوى فصيل متمرد، التوقيع على الاتفاق.
من المرجح أن احتمال تولي المملكة العربية السعودية دورًا أمنيًا موسعًا بعيدًا عن شواطئها ضئيل في المستقبل القريب، ومع ذلك؛ فإن إنشاء اللبنات الأساسية التي تتضمن علاقات أوثق مع متلقي المساعدات الخارجية السعودية من خلال فرض قيود معقولة مرتبطة يعد خطوة أساسية نحو ترسيخ النفوذ الجيوسياسي للمملكة العربية السعودية.
المصدر: غلوبال فيلاج سبايس