نجحت إيران بفرض نفسها على المفاوضات التركية مع النظام السوري بعد جولة لوزير خارجيتها حسين عبد اللهيان في المنطقة، بعد أن كانت قد بدأت محادثات على مستوى المخابرات والدفاع، مع نظام الأسد لتطبيع العلاقات بينهما بوساطة روسية دون إيران، رغم أن طهران أحد الفاعلين في المسألة السورية، وقد عملت إلى جانب روسيا على تثبيت أركان النظام.
من التهميش إلى الحضور
وبعد تجاهل ملحوظ لإيران، رأت أنقرة أن وجودها سيسهّل المفاوضات مع نظام الأسد، فيما يبدو، وذلك لسببين، الأول: المطالبات العلنية لنظام الأسد بدخول طهران على الخط، فقد صرح فيصل المقداد منذ أسابيع، أنه “من الضروري أن تلعب إيران دورًا في أي مبادرة سياسية في سوريا”، مشيدًا بـ”الدور الإيراني الفعّال للمساعدة في تسوية الأزمة السورية”.
والثاني، التشويش الإيراني على محاولات التقارب التي تجري بدونها، حتى بعد إعلانها الترحيب بمساعي التطبيع، فأراد المفاوض التركي كف تشويشها بإدخالها كوسيط. ويمكن قراءة هذا من حديث المسؤول التركي الأمني الذي قال: “طهران تريد أن يكون لها رأي في التطبيع بين سوريا وتركيا” لافتًا إلى أن “إيران تغذي الصحافة بأخبار سلبية مثل أن الأسد لا يريد لقاء أردوغان”، في إشارة واضحة إلى التشويش الإيراني على مساعي التطبيع، محذرًا من أن استمرار المشاكل بين تركيا والنظام يفسح المجال أمام التدخلات الإيرانية في المنطقة.
الرئاسة التركية، قالت إثر ذلك إنّ “مشاركة إيران في عملية التفاوض بين أنقرة ودمشق والجارية بوساطة روسية ستجعل الأمر أسهل”، وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد دعا الأحد إلى مواصلة عقد لقاءات بين بلاده وروسيا والنظام السوري بمشاركة إيران، “بهدف الوصول إلى الاستقرار شمال سوريا”، وقال: “رغم أننا لم نتمكن من الحصول في الوقت الراهن على النتيجة التي نرغب بها فيما يخص التطورات شمالي سوريا، فإننا ندعو لعقد اجتماعات ثلاثية”..”لتجتمع تركيا وروسيا وسوريا، ويمكن أن تنضم إيران أيضًا، ولنعقد لقاءاتنا على هذا المنوال، لكي يعم الاستقرار في المنطقة، وتتخلص المنطقة من المشكلات التي تعيشها”.
بدوره أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عن التوصل إلى اتفاق بشأن مشاركة إيران في عملية التطبيع التركي مع النظام السوري التي ترعاها موسكو، وقال لافروف: “جرى التوصل الآن إلى اتفاق من حيث المبدأ على مشاركة إيران في هذا العمل”، واعتبر لافروف أن من المنطقي أن ترافق روسيا وإيران المزيد من الاتصالات لتعزيز تطبيع العلاقات التركية مع النظام السوري، مضيفًا “أما بالنسبة للتوقيت، والأشكال المحددة للمشاركة، سواء كان على مستوى الجيش أم على مستوى الدبلوماسيين، فيتم العمل على هذا”.
وخلال زيارته لسوريا منتصف يناير/كانون الأول الماضي، قال حسين عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني: “نحن سنستمر بجهودنا الدبلوماسية للتقارب وحل المشكلات العالقة بين سوريا وتركيا”، وكان عبد اللهيان قد أظهر ترحاب بلاده بالتقارب التركي مع النظام السوري في الفترة الأخيرة.
وتعد طهران طرفًا ضمن مسار أستانة الذي فُرض على السوريين منذ عام 2017، كما تعد إلى جانب موسكو ضامنًا من طرف النظام فيما أنقرة ضامنًا لطرف المعارضة.
مسار جديد لأستانة
تركز طهران حاليًا على مسار أستانة في محاولة إلى جعل التطبيع التركي مع النظام يمر عبر هذا المسار، إذ أكد وزير الخارجية الإيراني نية طهران تحديث صيغة مسار أستانة للمحادثات السورية، الذي يعد هو المسار السياسي الأطول من نوعه وإن كان لم يحرز أي تقدّم، وذلك بإشراك النظام السوري في الاجتماعات الثلاثية الإيرانية الروسية التركية وبذلك تصبح رباعية، الطرح الإيراني جاء في زيارة عبد اللهيان إلى أنقرة ولقائة بوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الشهر الماضي.
المستشار في وزارة الخارجية الإيراني، علي أصغر خاجي، قال لوسائل إعلام إيرانية: “يجري العمل على تحديث شكل محادثات أستانة بشأن سوريا، تماشيًا مع الظروف والمتغيرات الراهنة”، وأشار خاجي إلى إبلاغ النظام السوري بأهمية أن تصبح أستانة رباعية، وأنه “في الجولات القادمة التي سنقوم بها إلى دول أخرى من أعضاء في صيغة المسار، سنطرح هذه القضايا ونحاول أن نجعلها أكثر كفاءة وفاعلية مع إستراتيجية مناسبة ترتكز على الأوضاع الجديدة في البلاد”.
حتى إن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أكد على تحديث مسار أستانة خلال مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، حيث بيّن “أهمية تنفيذ عملية أستانة، التي توظف كآلية لتسوية الأوضاع في سوريا”.
الكاتب السوري المهتم بالشأن الإيراني عمار جلو يقول في سياق الحديث عن تحديث مسار أستانة: “بالنسبة لأستانة هي خط ثلاثي فرعي لجمع النظام مع المعارضة السورية، ورغم قناعتي بانتفاء أي حل سياسي عبره، لكن ممكن للأطراف الثلاث العمل على توسيع لقاءات طرفي الصراع عبره”، ويرى جلو في حديثه لـ”نون بوست” أنه “خلال ذلك الوقت يمكن تهميش طرف دون استبعاده، وهو ما جرى سابقًا، إذ هُمّشت طهران مطولًا إلى أن أُعيد تفعيل دورها في قمة طهران الصيف الفائت”.
إيران شعرت بأن المسار قد يكون عملية استبدال أستانة، تُستبدل فيه طهران بالمعارضة السورية، بحسب جلو.
وبيّن أنه “من هذا سعت طهران لتعطيل التقارب، من خلال الضغط على الأسد، وعدم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني باستهداف الأمن القومي التركي، وإعادة تموضع بعض مليشياتها أو القوى السورية الدائرة في فلكها، مثل تسليم الفرقة الرابعة معابر الحدودية، أو نقلها لعناصر مدربة من “حزب الله” إلى شمال شرق سوريا إلى مطالبة روسيا وتركيا باحترام اتفاقياتها الموقعة سابقًا مع الأسد، لترسل رسائل جليّة بعدم إمكانية تهميشها، وبدلًا من استبدالها تعمل على تطوير المسار ليضم حليفها (الأسد) إلى جانبها.
في ذات السياق، قال الصحفي السوري عقيل حسين لـ”نون بوست” إن انخراط المعارضة مع النظام في مفاوضات مباشرة جزء من أهداف مسار أستانة أو لنقل إنه الهدف الحتمي للمسار، وبالتالي عندما يحصل ذلك فلن تقف هذه الدول كثيرًا عند الشكل بل ستركز على الهدف والمضامين، وسواء كان مع مسار أستانة أم باستحداث إطار آخر فإن أنقرة وموسكو وطهران ستمضي في خطواتها حتى النهاية ما لم يحدث أمر يوقف ذلك”.
أما الأمر الذي يمكن أن يوقف ذلك فيتمثل -بحسب حسين- بالتدخل الأمريكي الفعال والمباشر الذي يعمل على قلب الموازين على الأرض، أو عبر مفاوضات غربية روسية تنهي المواجهة بينهما وتعيد ترتيب كل الملفات العالقة بما فيها الملف السوري، وقتها ستكون إيران إحدى الضحايا.
من جانبه يؤكد الكاتب بسام حجي مصطفى لـ”نون بوست” أن “ما يجري من تجاذبات وتنازع هو إعلان لموت مسار أستانة، والتمسك به كمن يتمسك بجيفة نتنة”.
توريط تركيا
في الأساس، لا تعارض إيران التقارب التركي مع النظام السوري خاصة أنها تريد تعويمه إقليميًا، لكن ما كانت تخشاه هو أن يتم الأمر بمعزل عنها، وبالطبع فإن ذلك سيؤدي إلى إضعاف دورها في سوريا على حساب أنقرة وموسكو، وهو ما جعلها تستخدم نفوذها كي لا تبقى خارجًا، وهنا يقول الكاتب عمار جلو: “منذ دخول المليشيات الإيرانية الجغرافية السورية أصبحت طهران طرفًا لا يمكن استبعاده في أي حل سوري، إلا أنها تسير بمنطق الطرف المعطل لا الطرف المساهم في الحل”.
يضيف جلو “في الحديث الأخير عن تطبيع تركي أسدي بوساطة روسيا، توجست طهران من هذا التطبيع الذي قد يكون على حسابها، لذا نقل وزير خارجيتها في زيارته للأسد مؤخرًا رسالة ضغط مفادها معارضة أي حل في سوريا لا تكون طهران فيه، وسبق الزيارة عمليات ضغط اقتصادي كان أبرزها وقف مد نظام الأسد بالنفط عبر خط الائتمان المتفق عليه بين الطرفين، والمطالبة بسعر للنفط موازي للسعر العالمي والدفع الكاش”، ويشير حلو إلى أن “المراقب للشأن الإيراني يدرك قدرة إيران على تعطيل أي حلول سياسية في الدول المخترقة إيرانيًا، من العراق إلى لبنان إلى اليمن”.
قالن: #تركيا مرتاحة لمشاركة #إيران في اتصالات #التطبيع بين #أنقرة ودمشق
قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، إن بلاده تعرب عن ارتياحها لقرار إشراك إيران في المفاوضات الجارية بمشاركة #موسكو، بشأن تطبيع العلاقات بين أنقرة و #دمشق. pic.twitter.com/XBNUW3sh8Q
— manar30years (@manar30years) February 1, 2023
من جانبه لا يعتقد الصحفي عقيل حسين أن “إيران كانت مستبعدة تمامًا من هذه المفاوضات، فهي أول من فتح باب التواصل وإعادة التطبيع بين دمشق وأنقرة، وكلنا نذكر زيارة وزير الخارجية حسين عبد اللهيان لأنقرة ودمشق بداية تموز يوليو الماضي من أجل هذه الغاية، لكن بسبب انشغال النظام الإيراني بملفاته الداخلية والخارجية الكثيرة فقد ترك الملف لحلفائه الروس كي يكملوا به”، يضيف حسين “ما أراه هو أن التطورات بملف المصالحة التركية الأسدية سارت بشكل أسرع مما كانت تتصور إيران، لذلك عادت لتنخرط بشكل أكبر ومباشر في هذا الملف”.
طهران ستعمل على “مصالحة مفيدة لها بين دمشق وأنقرة”، وأن تكون المصالحة مفيدة يعني أن تستفيد سياسيًا واقتصاديًا، وأن لا تتأثر مصالحها وطموحاتها في سوريا، غير ذلك لن تسمح طهران بإنجاز أي مصالحة وفقًا لحسين.
يتفق الكاتب بسام حجي مصطفى مع حسين بأن إيران بادرت إلى جعل التطبيع مع النظام تحت عباءتها لأسباب تخدم المصالح الإيرانية والاحتلال الايراني”، ويذهب حجي مصطفى إلى أن “مصير المشروع الإيراني لن يكون أفضل من مصير الروسي”.
ويضيف “تحاول إيران هذه المرة توريط تركيا بمنحها جزءًا من النفوذ في دمشق الذي يمكن تركيا من تنشيط نقل بضائعها برًا إلى الخليج مع احتمال نيل حصص في مشاريع إعادة الإعمار وامتيازات اقتصادية وسياسية محددة تحت العباءة الإيرانية التي أحكمت سيطرتها على نظام الأسد وجيشه وأجهزة مخابراته وتظن أن الاحتماء بالوجود التركي يصعب استهداف وجودها في سوريا من أمريكا وإسرائيل”.
بالمحصلة فإن السلوك الإيراني واضح في مشاريعها الإقليمية، الوجود بداية في الحل ثم العمل على توجيهه، سواء بالوسائل السلمية أم العنفية، ومن ثم الاستحواذ عليه وجعله رهينة لقرارها، وهو ما يمثل الحالة السورية، وفي التقارب التركي مع الأسد.