نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر صحبة وفد كبير، رغبة منه في الحصول على الغاز الجزائري بأقل الأثمان للظهور في ثوب “منقذ أوروبا” من شتاء بارد، نتيجة تقلص إمدادات الغاز الروسي.
بعد 3 أيام، عاد ماكرون إلى بلاده دون أن يحقق المرجو، فقد فشل في توقيع اتفاقيات جديدة تضمن بها باريس كميات إضافية من الغاز بأسعار تنافسية، ذلك أن الجزائر وجدت أسواقًا جديدةً تبيعها غازها بأسعار تحددها هي ولا تُفرض عليها.
مثّل ذلك، مؤشرًا على تراجع مكانة فرنسا في الجزائر وفي شمال إفريقيا ككل، فالعلاقات مع الجزائر محراب لعلاقات باريس مع باقي دول المنطقة لما يتمتع به قصر المرادية من نفوذ كبير في أوساط أنظمة حكم دول المغرب العربي.
في الوقت الذي تراجعت فيه مكانة فرنسا في شمال إفريقيا، ارتأت الحكومة الإيطالية العودة بقوة إلى المنطقة وتقوية نفوذها هناك، مستغلة قطاع الغاز وحاجة دول المنطقة لحليف آخر، بعيدًا عن باريس التي أثبتت سوء نيتها في تعاملها مع هذه الدول.
عودة الايطاليين لشمال إفريقيا
يظهر سعي إيطاليا للعودة إلى شمال إفريقيا من خلال العديد من المؤشرات التي ظهرت جلية في الفترة الأخيرة، بدءًا من الزيارات الرسمية المكررة لدول المنطقة وصولًا إلى الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة التي مست قطاعات كثيرة.
في البداية زارت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، الجزائر، يومي 22 و23 يناير/كانون الثاني الماضي، التقت خلالها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وكبار مسؤولي نظامه، وهي أول زيارة لميلوني خارج أوروبا، والزيارة الثالثة لرئيس وزراء إيطالي إلى الجزائر خلال عام واحد.
بعدها بأيام قليلة زارت رئيسة الوزراء الإيطالية ليبيا، ضمن “خطة ماتي لإفريقيا”، وأجرت خلال الزيارة محادثات مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أعلنت ميلوني أن حكومتها ستعيد “الدور الإستراتيجي” لبلادها في منطقة البحر الأبيض المتوسط، مقترحة خطة تعاون مع دول شمال إفريقيا أسمتها “خطة إنريكو ماتي”، وهو مؤسس مجموعة إيني للطاقة.
تراجع النفوذ الفرنسي لا يعود إلى فشل سياسات ماكرون فقط، إنما أيضًا إلى الماضي الاستعماري الوحشي لفرنسا الاستعمارية
خلال هذه الزيارات الرسمية رفيعة المستوى وقعت إيطاليا اتفاقيات وصفت بالتاريخية مع كل من الجزائر وليبيا، خاصة في مجال الطاقة ونخص بالذكر الغاز الذي عرفت أسعاره ارتفاعًا كبيرًا في السنة الأخيرة نتيجة تراجع إمدادات الغاز الروسي متأثرًا بالحرب الروسية ضد أوكرانيا.
وقبل ذلك، زارت ميلوني مصر، فيما زار العديد من الوزراء تونس، ما يؤكد عودة الاهتمام الإيطالي الكبير بدول شمال إفريقيا، بعد أن اختارت روما في وقت سابق البقاء في وضع المتفرج الذي لا تأثير له على مجريات الأمور في هذه المنطقة الحيوية والإستراتيجية من العالم.
وأظهر الترحيب الكبير الذي قوبلت به ميلوني في كل من ليبيا والجزائر والاحتفاء الرسمي والإعلامي بهذه الزيارة، أهمية روما بالنسبة لعواصم شمال إفريقيا، خاصة أن إيطاليا لم تتورط كثيرًا في إثارة الأزمات في هذه الدول على عكس جارتها فرنسا.
كما أنها أصبحت شريكًا اقتصاديًا قويًا لدول المنطقة، فمثلًا المبادلات التجارية بين الجزائر وإيطاليا ارتفعت من 8 إلى 16 مليار دولار ما بين 2021 و2022، ما يعني أن روما أزاحت بيكين من صدارة أكبر شركاء الجزائر التجاريين.
ومنذ سنة 2013، لم تتمكن أي دولة من التفوق على الصين من حيث حجم المبادلات التجارية التي تجاوزت في السنوات الأخيرة 9 مليارات دولار، معظمها صادرات صينية، لكن الإيطاليين تمكنوا من ذلك خلال السنة الماضية، بفضل الصادرات الجزائرية.
استغلال تراجع النفوذ الفرنسي
سارعت ميلوني لزيارة دول شمال إفريقيا، رغبة منها في استغلال تراجع الدور الفرنسي في المنطقة، إذ تلقت رئيسة الوزراء الإيطالية النتائج السلبية لزيارة ماكرون للجزائر وإمكانية تأجيل زيارته المرتقبة للمغرب، وأرادت استغلالها لفائدة روما.
وشهد النفوذ الفرنسي في شمال إفريقيا تراجعًا كبيرًا، كما هو الشأن في منطقة الساحل والصحراء، إذ لم يتمكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الحفاظ على مكانة بلاده هناك، نتيجة السياسات الخارجية الفاشلة التي ينتهجها منذ توليه رئاسة فرنسا سنة 2017.
بـ8 مليارات دولار.. رئيسة وزراء إيطاليا تزور ليبيا لإبرام صفقة غاز
وصلت رئيسة الوزراء الإيطالية “جورجا ميلوني”إلى العاصمة الليبية طرابلس،على رأس وفد حكومي رفيع المستوى؛ حيث من المقرر أن تُبرم صفقةَ غاز كبيرة تهدف إلى تعزيز إمدادات الطاقة إلى أوروبا على الرغم من تدهور الوضع الأمني pic.twitter.com/nljFz7ppue
— Maysara Bakkour (@maysarabakour) January 28, 2023
تراجع النفوذ الفرنسي لا يعود إلى فشل سياسات ماكرون فقط، إنما أيضًا إلى الماضي الاستعماري الوحشي لفرنسا الاستعمارية، فشعوب المنطقة لم تنس بعد جرائم الاستعمار الفرنسي في حقهم وحق أوطانهم، ولم تنس أيضًا دعم باريس لأنظمة الحكم الديكتاتورية في المنطقة.
لم يقتصر تراجع النفوذ الفرنسي هناك على الجانب السياسي فقط، وإنما مس أيضًا الجانب الاقتصادي، فالشركات الفرنسية الناشطة في دول المنطقة لم تعد تجد الحظوة ولا الامتيازات التي كانت تتمتع بها في وقت سابق وفقدتها لصالح شركات أخرى.
مؤخرًا أجبرت العديد من الشركات الفرنسية على مغادرة الجزائر والمغرب، كما تم تعطيل عمل عدد منها في ليبيا، دون أن يستطيع قصر الإليزيه القيام بأي شيء، فالأمور خرجت عن سيطرته ولم يعد هو المتحكم بمجريات الأمور في شمال إفريقيا.
التركيز على الغاز
كل دولة تعتمد على سلاح لزيادة نفوذها في منطقة ما، وسلاح روما في هذه المرحلة هو الغاز، صحيح أنها لا تنتج الغاز وإنما تستورده، لكنه سلاح أحسنت استغلاله لتنمية علاقاتها مع كل من ليبيا والجزائر وكلتاهما غنية بهذه المادة.
وتمثّل مجموعة “إيني” رأس حربة الإستراتيجية الإيطالية الجديدة في شمال إفريقيا، ما يفسر مرافقة المدير التنفيذي للشركة في كل زيارات رئيسة الوزراء الإيطالية للمنطقة، فروما تركز أكثر على الشراكة في مجال الطاقة من خلال التنقيب عن الغاز وإنتاجه واستيراده.
خلال زيارتها للجزائر، وقعت جورجيا ميلوني وتبون، اتفاقية بشأن بناء خط أنابيب غاز جديد، يمكنه نقل الهيدروجين أيضًا، وتم توقيع مذكرة نوايا بين مجمع “سوناطراك” والمجمع الإيطالي “إيني” (رئيسا شركات النفط والغاز الكبرى في البلدين).
من شأن استثمار إيني في ليبيا في مشروع بهذه الضخامة أن يشجع شركات عالمية أخرى في قطاع الطاقة للعودة إلى السوق الليبية
سيتم مد خط أنابيب غاز “غالسي” على طول قاع البحر الأبيض المتوسط إلى سردينيا، وسيبلغ طول قسمها البحري 284 كيلومترًا، وبعمق أقصى يبلغ 2880 كيلومترًا، كما سيتم بناء خط أنابيب غاز آخر من سردينيا، الذي سينقل الغاز إلى ساحل شبه جزيرة أبينين في توسكاني بيومبينو.
سيسمح خط الأنابيب الجديد لإيطاليا بتوزيع موارد الطاقة على أوروبا بأكملها، وفقًا للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، كما سيسمح بنقل الأمونيا والكهرباء أيضًا، وليس فقط الغاز والهيدروجين الأخضر، وهو تطور كبير.
وعرفت إمدادات غاز الجزائر إلى إيطاليا ارتفاعًا إلى 25 مليار متر مكعب في 2022، ومن المرتقب أن تبلغ 30 مليار متر مكعب بين 2023 و2024، ما يعني أن إيطاليا سيكون لديها ما يكفي من الغاز في عامي 2023 و2024، من دون انقطاعات.
ستكون عائدات هذه الاتفاقيات كبيرة بالنسبة للجزائر، وستنمي موارد موازنة الدولة وتمكنها من جني أموال كثيرة لها أن تستثمرها في تطوير البنية التحتية في البلاد وإقامة المشاريع لتحسين الاقتصاد والتخلص من التبعية للطاقة.
نفس الطريقة اعتمدتها إيطاليا في ليبيا، فقد وقعت حكومة جورجيا ميلوني اتفاق تطوير حقلين بحريين باستثمارات مشتركة تقدر بـ8 مليارات دولار من شأنه توفير مداخيل سنوية بنفس الرقم وإيرادات صافية لليبيا بـ13 مليار دولار.
ويهدف الاتفاق إلى رفع الإنتاج في الحقلين الغازيين إلى 750 مليون قدم مكعبة يوميًا، بداية من 2026، وتخصيص ثلث الإنتاج لتصديره إلى إيطاليا، وفق شركة إيني ومؤسسة النفط، وهو الاتفاق الأول من نوعه منذ نحو 20 عامًا ومن شأنه تشجيع شركات الطاقة العالمية للعودة للاستثمار في ليبيا.
فضلًا عن العائدات المالية التي ستجنيها حكومة الدبيبة من وراء هذا الاتفاق، ستتمكن أيضًا من تطوير قطاع الغاز في البلاد، خاصة أن ليبيا عرفت في الفترة الأخيرة تراجعًا في إنتاج الغاز نتيجة تقادم الحقول ونقص الاستثمارات لتطويرها.
مضت رئيسة وزراء ايطاليا الحالية “جورجيا ميلوني” في إغواء تبون و الدبيبة و دفعهم للتنازل على غاز و بترول الجزائر و ليبيا بدون مقابل و بالتالي ضمان حصة الأسد لشركة المحروقات الايطالية “إيني إنيرجي ” لتصبح أول مستثمر في المجال داخل شمال أفريقيا. pic.twitter.com/HOO8tZenOz
— كريم سيف الحجاج (@Karimsa21312371) January 30, 2023
من شأن استثمار إيني في ليبيا في مشروع بهذه الضخامة أن يشجع شركات عالمية أخرى في قطاع الطاقة للعودة إلى السوق الليبية والمشاركة في تطوير مشاريع للنفط والغاز، ويعطي صورة أكثر استقرارًا ومطمئنة لقطاع المال والأعمال في البلاد.
هذا بالنسبة إلى ليبيا، أما بالنسبة إلى إيطاليا فهي ستضمن أولًا الكميات المطلوبة من الغاز وستكون مصدرًا لإعادة توزيعه في أوروبا، أي أنها ستكون مصدرًا للغاز نحو السوق الأوروبية التي تعاني منذ بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
كما ستفتح لها هذه الصفقات أبواب ليبيا على مصرعيها وأبواب شمال إفريقيا ككل، فالأنظمة في هذه الدول تسعى لإبرام اتفاقيات واستقطاب استثمارات دون وصاية ولا تحكم في القرار السيادي للدول، ما عجزت عنه فرنسا.
صحيح أن إيطاليا بدت جدية في مسعاها لإزاحة فرنسا من شمال إفريقيا، لكن هناك قوى أخرى تغلغلت في المنطقة ويصعب إزاحتها في الوقت الحاليّ، خاصة روسيا وتركيا، ما يعني أن المشوار ما زال طويلًا أمام روما لفرض قوتها وكلمتها في المنطقة.