“وفى عليه الرأي”.. يستعمل التونسيون هذه العبارة للحكم على شخص تودّع من ملكاته، فهو في حكم غير العاقل. وخروج المنقلب ليلة الفاتح من فبراير/ شباط 2023 لتقييم نتيجة انتخاباته كشفت أنه وفى عليه الرأي.
هناك مساحة واسعة لعلماء النفس لتحليل الخطاب وقراءة حركات الوجه واليدَين ونبرة الصوت، لكني أراهم ينتهون إلى أنهم أمام شخص وفى عليه الرأي، وهذا الاختصار السريع يضعنا في مشكلة ليست أقل من صعوبة العثور على موضوع محترَم للكتابة فيه.
لقد أفقدنا المنقلب موضوعنا بعد أن ركّزنا الحديث طويلًا عن الاحتمالات السياسية الكامنة والظاهرة في سلوكه، ومصيره ومصيرنا تحت حكمه الذي يستمرّ بلا أفق.
المسلّمات التي استقرّت عندنا
نختصر هنا مرة أخرى المسلّمات التي وصلنا إليها تحت حكم الانقلاب.
أولها أنه في حكم المنتهي، وأنه لم يعد قادرًا على تقديم فكرة أو طرح مشروع يمكن أن يعيد تأليف الناس من حوله (على فرضية جدلية بحتة أنه كانت له أفكار تناقَش، وأن هناك فعلًا أنصارًا له ظهروا ليلة الخامس والعشرين).
وثانيها أنه باقٍ فوق الرقاب بضعف معارضيه وتشتُّتهم وتكايدهم السياسي (على فرضية جدلية أخرى أن لهؤلاء المعارضين بدائل قادرة على تجميع الناس وتحفيزهم للخروج ضد الانقلاب وإنهاء المهزلة).
وثالثها أن الخلافات التي تشقّ المعارضات فتضعفها هي خلافات استئصالية غير قابلة للتجسير، وقد حكمت على الثورة بالفشل ومهّدت للانقلاب، ولا تزال توفّر له فراغات يتحرّك فيها وإن وفى عليه الرأي.
ورابعها، وهي الأسوأ، أن مصير البلد لم يعد بيد أبنائه، وأن فاعلين آخرين يجدون لهم مصالح في البلد أو يخشون من انهيار البلد على مصالحهم (لنفكر فقط في مخاطر الهجرة السرّية وأعبائها على بلدان الاستقبال)، فيقيّمون الوضع بوسائلهم ويتدخلون كل حسب مصلحته لتوجيه الداخل أو تجاوزه والفرض عليه بقوة المال والسلاح (وهو احتمال مستبعَد لكنه ليس مستحيلًا).
وماذا بعد؟
المسلّمات السابقة تغلق باب الحديث في المستقبل. فكأننا نقول لم يعد هناك موضوع للكتابة في تونس. ما لم تظهر مؤشرات على انحناءة الرئيس للواقع المحبط الذي بثّه في البلد، وما لم تعلن المعارضات نقدًا ذاتيًّا شجاعًا يمهّد لحوارات حقيقية وجادّة تصنع مخارج من الأزمة، وتعيد بناء ما انهار من السياسة والاقتصاد.
ولأننا واثقون بالتجربة أن المعارضات لن تتفق وتنقد أخطاءها، وأن المنقلب لن يتراجع خاصة بعد ما سمعناه من تقييمه لنتائج الانتخابات (يحب أن نقول إن لفظ الانتخابات لا ينطبق على ما قام به، لكننا نستعمل اللفظ كمجاز لتسهيل تركيب الجمل)، فإننا نصل إلى حالة من الخجل أمام من قد يقرأ لنا كلمة، فلا نروّج له بشائر مستقبل احترامًا لعقله.
نملك فقط أن نتحدث عن نذر كارثة تتعاظم، وأن نصوغ الأمر على قاعدة الضارة النافعة، وأن ما يقوم به الانقلاب هو عملية حرق غابة هرمة ستسمح الطبيعة بقوانينها غير الإنسانية بتجديدها إذا هطلت أمطار بالبلد، إذ يبدو أن الطبيعة تعادي تونس فتصبّ الأمطار على البحار القريبة، ولا نراها إلا في النشرات المناخية.
هل نسلّم بضرورة الحريق؟
الحريق أو مسح الطاولة على طريقة ديكارت تبدو فكرة ثورية، وإذا سلّمنا بسلامتها فإننا نعود إلى أول السطر ونطرح السؤال عن أخطاء الثورة، ومن تصدّى للحكم ومن تصدّى للمعارضة مند البداية، ونعيد ترتيب سلسلة الأخطاء التي أوصلت إلى الانقلاب ومكّنت شخصًا “وفى عليه الرأي” من التحكم برقبة البلد.
فالأخطاء الأولى نسفت المكاسب المحتملة وصنعت اللحظة الانقلابية، والتي من أجلها تمَّ ترحيل القضايا الأساسية على أمل أن تحلَّ نفسها بنفسها، أو أن تمهّد لحلول جذرية بتقدُّم الوقت وتراكم المكاسب.
لم تصمد المكاسب أمام الأخطاء المؤجّلة، لكن هل يمكن حسم الخلافات الأيديولوجية وهي بوابة تخريب قبل بدء البناء على أسُس ديمقراطية؟ هل كان ذلك سيتمّ دون دم لا يمكن تقدير حجمه ولا نتائجه؟
سيكون للمؤرّخين رأي في الموضوع بعد زمن لا ندريه، ويمكن لعلماء النفس الاجتماعي أن يخوضوا على هواهم في طبيعة الشخصية التونسية، وأن ينظروا إلى ميلها إلى اجتناب العنف المباشر أو ميلها إلى بناء التوافقات/ الصفقات السياسية على حساب الحلول الجذرية (الثورية)، وهذه مواضيع لا يمكن الكتابة فيها بسرعة وتحتاج بحثًا عميقًا في النفس والاجتماع والتاريخ.
نحن نعيش اللحظة السياسية التي بُنيت على هذه التوافقات فانتهت إلى انقلاب، وهناك الآن قوم مغرمون بتحميل الأخطاء يطلقون النار على الجميع في كل اتجاه، دون أن يحددوا وجهة يمكن الاطمئنان إليها.
احتمال ديمقراطية من دون ديمقراطيين؟
سيؤدي بنا هذا إلى خلاصة مرّة: لا يمكن بناء ديمقراطية من دون ديمقراطيين. نعم هناك من يخشى الديمقراطية ولا يمكنه أبدًا تخيُّل فوائدها له وحوله.
هناك جملة نسمعها تتردد كل يوم: “ما دام الانقلاب يحرم أعدائي من السلطة، فليخرب البلد”، هذه الجملة هي القفل الذي يغلق باب الديمقراطية، ويمكننا القول دون خشية إن الذين يرددونها هم الخائفون من الديمقراطية، وهم من خرّب احتمالات ترسيخها ومن يمنعون عودتها.
مرة أخرى ينغلق الأفق، إذ لا حلّ فيما يبدو مع الكافرين بالديمقراطية إلا بانتظار فعل الطبيعة فيهم، أي فعل الزمن والآفات، وهي عوامل لا تخضع للاجتماعي، لكن لا بدَّ من موضوع يجنّبنا عار الحديث عن انقلاب هو العار كله.
هل كان الانقلاب تعبيرًا واقعيًّا أي طبيعيًّا عن فقر الشعب إلى الوعي بفوائد الديمقراطية وجدواها؟ وهو السؤال الذي يؤدي إلى آخر بالقوة: هل ننتظر أن ينضج وعي شعبي بذلك (هذا وعي ينزل كالوحي السماوي)؟ وفي الانتظار ماذا نفعل لنعيش بأقل الأضرار الناجمة عن الحكم الفردي الغبي؟
هذا الذي تودّع منه حملَنا دون رغبة منه إلى لحظة وعي حادة بأنه لا يمكن بناء ديمقراطية دون ديمقراطيين، ما يجعلنا نعود إلى المقدمات الضرورية: العمل الطويل النفس على ترسيخ فكرة أن فوائد الديمقراطية إمكان لا خيال.
لقد كشف الانقلاب بجهل صاحبه ضعفنا، وتلك هي الفائدة الوحيدة، غير أن علاجها سيطول وسنقول في الطريق إلى حالة فكرية وسياسية لا يمكن الانقلاب عليها أو تخريبها من داخلها كما قال المعري في محبسه: “مشيناها خطى كُتبت علينا/ من كُتبت عليه خطى مشاها/ فإن منيتنا بتونس/ ولن نموت في أرض سواها”.