أزمة جديدة يواجهها المواطن العراقي المثقل بالهموم، وهذه المرة تتعلق بسعر صرف الدولار، إذ تراجعت قيمة الدينار العراقي منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي من 1480 دينارًا مقابل الدولار الواحد، حتى وصلت إلى 1660 دينارًا.
تذبذُب انعكس على أسعار المواد الأساسية في الأسواق، وفرض موجة غلاء لا تقوى معظم طبقات المجتمع على مواجهتها، لا سيما الفقيرة والمتوسطة منها، حيث تعددت أسباب تذبذب سعر صرف الدولار في العراق، لكن الخاسر الأكبر هو المواطن، فالأسباب الحقيقية لهذه الأزمة تأرجحت بين الفساد الذي يعاني منه العراق منذ سنوات، وفقدان الحكومة سيطرتها على سوق العملة، وتهريب الدولار خارج العراق.
رأت السلطات العراقية أن احتكار الدولار من قبل عصابات تسيطر على سوق العملة هو السبب الرئيسي لتذبذب سعر صرف الدولار، ونفّذت إثر ذلك حملة اعتقالات طالت العشرات ممّن وصفتهم بالمضاربين وتجّار العملة.
لكنّ المسؤولين الأمريكيين كان لهم رأي آخر، إذ علّلوا ارتفاع الدولار في العراق بالسياسة الجديدة التي اتّبعتها وزارة الخزانة الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي تجاهه، بهدف وقف الاستيلاء غير القانوني على الدولار الذي تقوم به بعض المصارف التجارية العراقية لمصلحة إيران ودول أخرى تواجه عقوبات.
إذ باشر الاحتياطي الفيدرالي بفرض ضوابط أكثر حزمًا على التعاملات البنكية العراقية منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وحظر إثرها 80% من تحويلات الدولار اليومية للعراق، بسبب عدم كفاية المعلومات الخاصة بوجهات الأموال وغموض اتّسمت به بعض البيانات المتعلقة بعمليات التحويل، وهي إجراءات قد تسرّع موعد زيارة رئيس الوزراء العراقي، محمد السوداني، إلى الولايات المتحدة، لبحثها والعمل على تخفيفها.
اضطرابات اقتصادية غلّفتها الحكومة بوعود خفض سعر الصرف، والعودة به إلى السعر الأول، في محاولة لامتصاص غضب الشارع الذي بدت عليه علامات الغليان، ما يهدد بعودة العراق إلى مشهد الاحتجاجات والمواجهات وعدم الاستقرار السياسي والأمني.
الأزمة المعيشية وتبعاتها
بعد أشهر من تسلُّم رئيس الحكومة محمد السوداني منصبه واتخاذه عددًا من الإجراءات التي وصفها بالإصلاحية، مثل تثبيت عقود عدد الموظفين، وكشف عدد من صفقات الفساد، ظهرت أزمة جديدة قد لا يقوى على حلّها، إذ بدأ سعر صرف الدولار مقابل الدينار بالارتفاع، وانعكس على أسعار السلع وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، الذين يتقاضى معظمهم رواتبهم بالدينار العراقي.
لم تقتصر أزمة المواطنين على ارتفاع أسعار السلع، بل تسبّب ارتفاع سعر الدولار في تلكُّؤ من لديه التزامات مدفوعات بالدولار عن سدادها، منها أقساط المنازل والسيارات إضافة إلى الالتزامات المرتبطة بخارج العراق، منها أقساط الجامعات للطلبة العراقيين الذين يدرسون في جامعات أجنبية.
تذبذُب أسعار العملة الأجنبية في العراق لم تطل أضراره المستهلك فقط، بل تهدّد مصالح تجار الجملة وأصحاب رؤوس الأموال
ارتفاع الأسعار الأخير وعجز المواطن عن تلبية احتياجاته، سيفاقمان المشاكل الاجتماعية التي يواجهها العراق منذ سنوات بسبب الأزمة الاقتصادية، إذ سجّل العراق 700 حالة انتحار خلال العام المنصرم وفق المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق.
كما تجاوزت حالات الطلاق خلال النصف الأول من العام الماضي الـ 29 ألف حالة، سجّلت بغداد النسبة الأعلى منها، وكان السبب الأول لهذه الظاهرة الضائقة المادية التي تعيشها فئة الشباب، لا سيما مع انتشار البطالة بشكل كبير وعجز الدولة عن حلّ هذه المشكلة التي تعتبَر ليست جديدة العهد.
تحديات اجتماعية أخرى يواجهها المجتمع العراقي بسبب انتشار الفقر، إذ تفشّت ظاهرة بيع الأعضاء البشرية وصل على إثرها سعر الكلية إلى 5 آلاف دولار أمريكي، وكشفت تقارير للشرطة العراقية اختفاء 450 طفلًا خلال الأشهر العشرة الأولى لعام 2022، يرجّح أن يكونوا ضحايا لعصابات الإتجار بالبشر.
هذا بالإضافة إلى ظاهرة التسول وعمالة الأطفال والاستغلال الجنسي، مشاكل اجتماعية سببها الأزمة الاقتصادية التي يشهدها العراق العائم على أنهار البترول، إذ قفزت صادراته للنفط خلال العام الماضي إلى 115 مليار دولار، بزيادة 52% عن عام 2021، وهو العام الذي سجّل أعلى نسب للفقر، في مفارقة لا تدلّ إلا على وجود فساد كبير ألقى المواطن العراقي إلى أحضان الفقر والتهميش.
مخاوف المستثمرين والتجّار
ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي مشكلة قد تضع العراق على حافة الركود الاقتصادي، حيث بدأ تجّار كبرى الأسواق في العراق بالحديث عن تراكم السلع التي يعتبرها المستهلك كمالية، وسط مخاوف من كسادها، بسبب خوف المواطنين من الإنفاق على هذه السلع وعدم مقدرتهم على شراء المواد الأساسية التي تشهد أسعارها قفزات متتالية.
تذبذُب أسعار العملة الأجنبية في العراق لم تطل أضراره المستهلك فقط، بل تهدّد مصالح تجار الجملة وأصحاب رؤوس الأموال، ما يهدّد الآلاف من موظفي القطاع الخاص بخسارة وظائفهم، وربما يفاقم ظاهرة البطالة، فقد يلجأ المستثمرون إلى الاستغناء عن بعض الموظفين بسبب الركود الاقتصادي الذي يهدد السوق، وعدم قدرتهم على دفع الرواتب.
لجأ عدد من التجار إلى الحد من بيع البضائع أو رفع أسعارها حتى إن اشتروها بالسعر القديم للدولار، وذلك لحماية تجارتهم من تقلُّب سعر الصرف
احتمالات الركود الاقتصادي ليست التحدي الوحيد الذي يواجهه التجار، إذ تسبّب تذبذب أسعار صرف الدولار في ظهور مشاكل أخرى مثل حصول هؤلاء التجار على العملة الصعبة لاستكمال تعاملاتهم التجارية، إذ توقف عدد كبير من مكاتب الصيرفة عن بيع وشراء الدولار بسبب عدم استقرار أسعاره، ما انعكس بطبيعة الحال على استقرار السوق ومدى ثقة التجار ببيع وشراء بضائعهم.
كما لجأ عدد من التجار إلى الحد من بيع البضائع أو رفع أسعارها حتى إن اشتروها بالسعر القديم للدولار، وذلك لحماية تجارتهم من تقلُّب سعر الصرف، وكل هذا ينعكس على المستهلك باختلاف إمكانياته المادية، ويتسبّب في موجة غلاء لا تتمكّن الحكومة من السيطرة عليها.
ومن جانب آخر، سيدفع استمرار تذبذب أسعار صرف الدولار بالتجّار إلى تحميل بضائعهم التي يستوردونها هامش هذا التذبذب لحماية أنفسهم من مخاطر الخسائر، وهي تكلفة سيتحمّلها المواطن الذي لم تحاول الدولة تحسين دخله أو تقديم أي نوع من الدعم له.
وحتى إن لجأت الحكومة إلى خيار زيادة رواتب الموظفين، فهذا الحلّ سيزيد من التضخُّم الذي سجّل زيادة بنسبة 0.3% في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، كما يتسبّب في موجة جديدة من الغلاء، ويفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد وقد يدخلها نفقًا جديدًا.
الحديث يدور دومًا حول الاستيراد، وذلك بسبب اندثار قطاعَي الصناعة والزراعة في العراق، وربما بشكل متعمّد، فالأسواق العراقية غارقة بمنتجات مستوردة على اختلاف أنواعها، رغم امتلاك العراق مصانع كبيرة تمَّ إهمالها وإغلاقها، مثل مصانع التعليب والألبان وحتى الأدوية، إضافة إلى إهمال الزراعة وهجرة الفلاحين إلى المدن بسبب التصحُّر وإهمال الدولة لهذا القطاع المهم، ما جعل العراق يعتمد بشكل كامل على الاستيراد الذي يعتمد بشكل أساسي على العملة الصعبة، لتكون الأسواق العراقية رهينة لتقلُّباتها.
إذ يقدَّر حجم استيراد العراق من تركيا خلال العام الماضي بـ 10.5 مليارات دولار، بينما أعلن مدير عام الجمارك الإيرانية، محمد رضواني فر بان، أن استيراد العراق من السلع غير النفطية الإيرانية خلال الـ 10 أشهر الأخيرة بحوالي 9 مليارات دولار، باستثناء صادرات الخدمات الفنية والهندسية والكهرباء، ووصل استيراد العراق من الأردن خلال العام الماضي نحو 797 مليون دولار، ليحلَّ بالمرتبة الثانية عربيًّا في قائمة المستوردين من الأردن بعد المملكة العربية السعودية.
قرار إعفاء محافظ البنك المركزي، مصطفى مخيف، من منصبه محاط بكثير من الغموض، إذ أجرى مخيف عددًا من اللقاءات الرسمية في مكتبه حتى اللحظات الأخيرة
الحلول التي تخرج العراق من عنق الزجاجة تحتاج إلى قرارات قد لا تقوى الحكومة على اتخاذها، لأنها ستضعها في مواجهة مباشرة مع صنّاع الأزمة المقرّبين من صنّاع القرار، فجميع الأزمات في هذا البلد العربي تدور في فلك واحد، وهو الفساد وعجز الدولة عن اتخاذ قرارات مستقلة تخدم الصالح العام.
فما يُسمّى بمزاد العملة يُدار من قبل شخصيات متنفّذه تملك سلطة قد تطغى على سلطة الدولة، ومن يدير عمليات تهريب الدولار إلى خارج العراق هي شخصيات تملك نفوذ في الدولة لن تتمكن الحكومة من مواجهتها، أما السيطرة على أسعار السوق ومنع التجار من احتكار البضائع أو تسعيرها بشكل عشوائي فيحتاج إلى إجراءات حازمة، لا تتمكّن السلطة من اتخاذها في ظلّ الفوضى الأمنية والسياسية التي يعيشها العراق.
هذه كلها عوامل تحرم المواطن من فرصة عودة الأسعار إلى سابق عهدها، هذا إن لم يكن مهددًا بموجة غلاء جديدة إذا استمرت قيمة العملة العراقية بالتراجع أمام الدولار الأمريكي.
إعادة تدوير الأزمات
بعد مرور عامَين على إقالته من منصبه، يعود اسم محافظ البنك المركزي العراقي السابق، علي العلاق، إلى الواجهة، وذلك بعد إعادته إلى منصبه من قبل رئيس الحكومة محمد السوداني، وسط وعود قطعها العلاق بإعادة سعر صرف الدولار مقابل الدينار إلى ما كان عليه.
خطوة استفزت مشاعر العراقيين الغارقين في المشاكل المتعلقة بالفساد، إذ ارتبط اسم علي العلاق، الذي شغل منصب محافظ البنك المركزي العراقي في فترة 2014-2020، بقضية تلف نحو 7 مليارات دينار عراقي عام 2018، بعد تسرُّب مياه الأمطار إلى داخل البنك المركزي حيث كانت مخزّنة تلك الأموال.
حادثة تضاف إلى قائمة إخفاقات وتُهم تلاحق العلاق خلال فترة إدارته للبنك المركزي، لعلّ أبرزها قضية مستندات الاستيراد الوهمية التي تمَّ بموجبها الحصول على العملة الصعبة من مزاد العملة في البنك المركزي، دون أن تستورد الشركات التي وردت أسماؤها في مستندات الاستيراد أي مواد من خارج العراق.
قرار إعفاء محافظ البنك المركزي، مصطفى مخيف، من منصبه محاط بكثير من الغموض، إذ أجرى مخيف عددًا من اللقاءات الرسمية في مكتبه حتى اللحظات الأخيرة، ولم تكن هناك مؤشرات على استقالته، كما أعلن رئيس الحكومة محمد السوداني أن مصطفى مخيف استقال بناءً على رغبته الشخصية، لكن يبقى قرار تعيين علي العلاق يحتاج إلى عرضه على البرلمان وتمريره، كونه منصبًا خاضعًا لمعايير ما يُسمّى بالدرجات الخاصة، وهو بذلك سيتخذ بُعدًا سياسيًّا.
تغيير محافظ البنك المركزي لا يبعث بالتفاؤل بالنسبة إلى خبراء الاقتصاد، الذين علّلوا ارتفاع سعر الدولار في العراق باستحداث منصة تحويل الدولار، إذ يتعيّن على المصارف العراقية تقديم التحويلات إلى البنك المركزي عبر المنصة الجديدة لتتمَّ مراجعتها، ومن ثم إلى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو ما يعرَف بنظام السويفت الخاص بأحكام مراقبة غسيل الموال وتمويل الإرهاب، نظام جديد لم تعتَد عليه المصارف العراقية وسبّب لها إرباكًا، وفي أحيان كثيرة تأخير عمليات التحويل، ما انعكس على حركة العملة الصعبة في العراق وتذبذُبها.