بدأ في بريطانيا الأربعاء 1 فبراير/شباط 2023 إضراب عمالي هو الأكثر زخمًا ومشاركة منذ عشر سنوات تقريبًا، حيث أعلنت 5 نقابات عمالية نيتها الاشتراك في هذا الاحتجاج، تنديدًا بالأوضاع المعيشية المتدنية والمطالبة برفع الأجور والرواتب في ظل موجات الغلاء والتضخم التي تضرب الاقتصاد العالمي خلال السنوات الأخيرة.
وتشدد النقابات الخمسة المشاركة في الإضراب (نقابات معلمي المدارس وسائقي القطارات والحافلات وحراس الأمن والمحاضرين الجامعيين وموظفي الخدمة المدنية) على ضرورة استجابة الحكومة لمطالبهم التي يرونها مشروعة ومنطقية في ضوء الصعوبات المعيشية التي يواجهها ملايين البريطانيين منذ 2019 وحتى اليوم.
ويشهد الشارع البريطاني منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي موجة احتجاجات عارمة، تختلف عن سابقتها خلال الأعوام الثلاث الماضية من حيث عدد المشاركين والزخم الشعبي والجماهيري والإعلامي، وسط إصرار حكومي على الالتزام بالسياسات المتبعة وعدم الاستجابة لتلك المطالب، الأمر الذي أطاح قبل ذلك بثلاث حكومات متتالية (تيريزا ماي – بوريس جونسون – ليز تراس).
وبعد مرور مئة يوم على توليه المسؤولية، يبدو أن رئيس الحكومة ريشي سوناك ما زال متمسكًا بخطته الاقتصادية التي لاقت ترحيبًا كبيرًا خلال حملته الدعائية ومهدت الطريق نحو الفوز برئاسة الحكومة، التي تشدد على ضرورة السيطرة على التضخم من خلال عدم رفع الأجور، غير أن الوضع اليوم بات مختلفًا، فالصعوبات الاقتصادية ومعاناة المواطنين تتفاقم يومًا تلو الآخر، الأمر الذي ربما يضع حكومة المحافظين والحزب الحاكم في مرمى الانتقادات اللاذعة وسط ترقب من المعارضة اليسارية.
الأكبر منذ عقد
بحسب ما تناقلته وسائل إعلام بريطانية ودولية فإن قرابة نصف مليون مواطن يشاركون في هذا الإضراب (300 ألف معلم و100 ألف موظف حكومي وقرابة 100 ألف من الأكاديميين الجامعيين والعاملين في قطاع النقل البري والسكك الحديدية وأطقم التمريض والإسعافات في عدد من المدن).
وقد أثارت القفزات الجنونية في معدلات التضخم حفيظة المواطنين الذين وجدوا صعوبات بالغة في الحياة الكريمة في ظل تلك الأجواء غير المعتادة بالنسبة لهم، محملين حكومة المحافظين مسؤولية هذا الوضع، ففي نهاية العام الماضي وصل معدل التضخم إلى 11.1% على أساس سنوي، وهو أعلى مستوى له منذ 40 عامًا، جراء الضغوط التي تتعرض لها لندن بسبب أسعار الطاقة وندرتها الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية التي قاربت على العام.
وتتصاعد المخاوف من حدوث شلل تام في الأداء العام جراء تلك الإضرابات التي بدأت بالفعل بغلق نحو 23 ألف مدرسة في مختلف الأنحاء بجانب توقف خدمات السكك الحديدية، وتعطيل العمل في بعض الأقسام – غير الحرجة – داخل المستشفيات، بجانب مئات المتاجر التي أغلقها أصحابها تضامنًا مع تلك الاحتجاجات.
ووجه اتحاد “يونيون” (Union) – أكبر اتحاد لموظفي القطاع العام -، رسالة تحذيرية إلى وزير الخزانة جيريمي هانت، بأنه إن لم يتم الاستجابة لمطالب المضربين ورفع الأجوار والرواتب، فإن الإضرابات لن تتوقف وستستمر بصورة تصاعدية، وسط توقعات بانضمام آلاف المواطنين لتلك التظاهرات الاحتجاجية التي تستهدف التوجه نحو مكتب رئيس الحكومة في ويستمنستر للضغط من أجل تنفيذ طلباتهم.
شيطنة النقابات.. إستراتيجية المحافظين في المواجهة
حزمة من القوانين تُجهز الآن داخل المطبخ السياسي لحكومة المحافظين لمواجهة هذا التصعيد النقابي العمالي، لكنها وعلى عكس العادة لا تسعى إلى حل الأزمة من خلال مناقشة مطالب الغاضبين قدر ما هي سوط جديد سيتم رفعه في مواجهة كل من يفكر في المشاركة في مثل تلك الاحتجاجات، القانون باختصار يتعلق بإقالة كل من يصوت بشكل قانوني للإضراب.
قادة النقابات المشاركة في الإضراب نددوا بهذا التفكير السلطوي للحكومة، الذي يتعامل مع المطالبين بتحسين أوضاعهم المعيشية كخصوم وأعداء، ليحولوا الدفة من التفكير في حلول عملية إلى اللجوء لسياسة الترهيب والتهديد إزاء حق قانوني دستوري متعارف عليه في كل المواثيق الدولية، كما جاء على لسان الأمين العام لمؤتمر نقابات العمال وهو الذي يضم تحت رايته عددًا من النقابات الفرعية حين قال: “بدل التخطيط لطرق جديدة لمهاجمة الحق في الإضراب، يجب على الوزراء رفع الرواتب على مستوى القطاعات الاقتصادية مع البدء بزيادة مناسبة لرواتب العاملين في القطاع العام”، لافتًا أن معظم العاملين في قطاعات الدولة المختلفة يعانون من تدهور شديد في مستوياتهم المعيشية ويتأهبون لمزيد من البؤس بسبب الأجور.
ويصف الكاتب البريطاني فيل ماكداف في مقاله المنشور بصحيفة “إندبندنت” طريقة تعامل حكومة المحافظين مع المضربين بـ”اللعبة التاتشرية القديمة” التي تستند في الأساس إلى توجيه اللوم والإدانة للعمال بوصفهم كيانات جشعة تستهدف تعطيل الصالح العام وتجميد الاقتصاد.
ويشير ماكداف إلى فشل إستراتيجية “شيطنة العاملين” في تحقيق الأهداف المرجوة، إذ تصاعد التعاطف الشعبي مع تلك الإضرابات بشكل دفع مواطنين غير عاملين إلى المشاركة فيها، ما أجبر رئيس الوزراء على التفكير في إستراتيجيات بديلة وفي أسرع وقت، كان أبرزها استخدام عصا التهديد بفصل العاملين المشاركين أو المؤيدين لمثل تلك الممارسات، فيما ذهب أبعد من ذلك حين منع قطاعات معينة من تشكيل نقابات لها، عقابًا على دعمها أو مشاركتها في الإضرابات التي تشهدها البلاد خلال الآونة الأخيرة.
ويحمٍل الكاتب في مقاله الحكومة وسياساتها مسؤولية التفاوت الكبير في مستويات المعيشة داخل بريطانيا، حيث اتساع الهوة بين الأثرياء ومتوسطي الدخول، لافتًا إلى أن الفكر الذي تتبناه الحكومات يقود في النهاية إلى إنعاش خزائن قلة من الأغنياء في مقابل بقاء السواد الأعظم أسرى أجور لا تغطي فواتيرهم، فضلًا عن الانتهاكات التي يتعرضون لها داخل منظومات العمل التي تفتقد للحد الأدنى من المساواة والعدالة بين موظفيها.
السؤال الأبرز الآن الذي تطرحه الصحيفة البريطانية: ما غرض سوناك من هذه الإستراتيجيات والقوانين التي يتم مناقشتها الآن لتمريرها في أسرع وقت في مواجهة الإضرابات العمالية؟ وتجيب بأن الهدف واضح “تجويف الدعم للنقابات بالتهديد بالفقر”، فالحكومة تستخدم عصا الإنذار للنقابات بأنه في حال الإبقاء على المشاغبين من العمال الداعمين للإضرابات فإن الدعم الحكومي لها سيتوقف، والعكس صحيح، وهو ما قد يضع النقابات في مواجهة أبنائها وأعضائها.
هل تصمد رؤية سوناك؟
“فيلم رعب اقتصادي تعيشه المملكة المتحدة”.. كان هذا وصف محرر الشؤون السياسية في قناة “آي تي في” (ITV) البريطانية روبرت بيتسون، للحالة الاقتصادية التي تمر بها بريطانيا حاليًّا، الدولة التي أعلن بنكها المركزي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بأنها سوف تدخل أطول ركود في تاريخها، ربما يمتد إلى منتصف عام 2024، مؤكدًا أنها تواجه أسوأ أزمة منذ 30 عامًا.
ولدى سوناك منذ قدومه تصور كامل عن تلك الوضعية الحرجة التي تحتاج إلى معجزة بحسب وصف خبراء، كما أنه كان من أشد المعارضين للإجراءات التي اتخذتها تراس لتهدئة الشارع وإرجاء خطط الإصلاح، الأمر الذي زاد من تفاقم الوضع الاقتصادي، لذا تعهد في خطابه الأول الذي كشف من خلاله عن بعض ملامح خطته الاقتصادية بأنه سيتخذ قرارات صعبة ومؤلمة لإنعاش الاقتصاد.
لكن خلال الأشهر الثلاث منذ تولي سوناك السلطة وحتى اليوم، الوضع يزداد سوءًا، والأحوال المعيشية تنزلق إلى مستنقعات التدهور، فيما تتصاعد الأصوات المنددة، وتزداد وتيرة الاحتجاجات التي يخشى أن تغادر دائرتها السلمية إذا ما تطورت الأمور على الساحة الملتهبة بطبيعة الحال.
هناك بالفعل تغيرات واضحة في خطاب رئيس الحكومة بشأن الأزمة مقارنة بما كان عليه بداية توليه السلطة، حيث أشار إلى أن الحوار والجلوس على مائدة النقاش هو الحل، لكنها رسائل الطمأنة الجوفاء من أي تحركات عملية تحسن الوضع، لا سيما إذا تم قراءتها في ضوء إستراتيجية الترهيب والتخويف التي يتبناها مع النقابات.
قد يجد سوناك وحكومة المحافظين دعمًا وتأييدًا من النخبة ورجال الأعمال وأصحاب المناصب المرموقة، لكن تبقى القدرة على مواجهة العمال والنقابات والمرجح أن تنضم المعارضة إليهم، – إما بالمشاركة بشكل مباشر وإما بتأجيج الوضع وتسخين الأجواء -، مسألة غير محسومة بعد.
إذًا هي حرب باردة من نوع آخر، بين النقابات والحكومة، النقابات التي نجحت قبل ذلك في فرض كلمتها وأطاحت بثلاث حكومات سابقة، تواجه اليوم اختبارًا صعبًا أمام رئيس وزراء متشبث برؤيته الاقتصادية التي جاءت به إلى سدة السلطة، ويجد نفسه في مأزق حقيقي، إما التشبث برؤيته وتحمل الضغط العمالي وهو ما قد يضعه في مواجهة الشارع وإما التراجع عنها ليجد نفسه في مواجهة مصير تراس التي دفعت ثمن التراجع عن سياستها بأن أطيح بها من المشهد.