لعلّها السلطة تريد أن تحافظ على امتيازها فتخضع خانعة أمام الاحتلال، أو لعلّه الاحتلال الذي رأى في زراعة الأعوان وسيلة ناجعة لإخماد أي ثورة، إذ يرى الاحتلال الإسرائيلي دومًا وحليفته الأولى الولايات المتحدة الأمريكية في السلطة الفلسطينية وسيلةً لإحكام القبضة على الفلسطينيين، لا غايةً لتحقيق دولتَين فلسطينية وأخرى إسرائيلية كما يزعم عقد التأسيس الذي تبنّته أوسلو عام 1993.
وبينما يحمّل الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا تراجع أداء السلطة الفلسطينية كأحد الأسباب في تصعيد عمليات المقاومة المستمرة في الضفة المحتلة، فإن تخوفًا واضحًا لا تخفيانه كلتاهما من اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، طابعها التسليح والانغماس العميق لمختلف الاتجاهات الفلسطينية فيها من أبناء حركات فتح وحماس والجهاد الإسلامي واليسار الفلسطيني، وهو ما توقّعه معهد دراسات الأمن القومي لدى الاحتلال الإسرائيلي قبل أيام فقط من الزيارة.
المعهد ذاته خرج في توصياته بأن الاحتلال يجب عليه إقامة حوارات أمنية لتقوية السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية، والتعهُّد بتقليل اقتحامات جيش الاحتلال لمدن الضفة في حال قامت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالعمل ضد المقاومة، ويجب مساعدة السلطة الفلسطينية لتقوية أجهزتها الأمنية بالتعاون مع الأردن والمنسّق الأمني الأمريكي.
حرص دايتون على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرُّب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى “صناعة الفلسطيني الجديد” الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له.
وكأن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، يكشف موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين أن زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الأخيرة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة والاحتلال الإسرائيلي، كانت للضغط على رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، لقبول “خطة أمنية تعيد سيطرة السلطة على مدينتَي نابلس وجنين، وتدريب قوة فلسطينية خاصة لمواجهة المسلحين (أي المقاومين) في الضفة الغربية المحتلة”.
منذ كشف “أكسيوس” عن خبره، علّق الفلسطينيون بشكل لا إرادي ودون اتفاق مسبق على تسمية ما يجري بـ”دايتون 2″، حيث تشابهت ظروف الأمس بمجريات اليوم، وأعادت الذاكرة إلى مارس/ آذار 2005، حين شكّلت الولايات المتحدة مجلسًا لتنسيق التعاون الأمني بين السلطة و”إسرائيل” بقيادة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، الذي تولّى شخصيًّا مهمة الإشراف على إعداد وتدريب أجهزة السلطة الأمنية، لتحسين قدرتها على إحباط العمليات المسلحة للمقاومة.
حينها، حرص دايتون على أن تسهم دورات التدريب التي أشرف عليها في فرض عقيدة أمنية جديدة على المؤسسة الأمنية في السلطة، بحيث يفضي تشرُّب منتسبي الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلك العقيدة إلى “صناعة الفلسطيني الجديد” الذي يرى في إحباط العمل المقاوم ضد الاحتلال مصلحة وطنية له.
لماذا شمال الضفة؟
ركّزت الولايات المتحدة الأمريكية ومبعوثها أنتوني بلينكن والاحتلال الإسرائيلي بشكل خاص على مدن شمال الضفة الغربية، ولجنين ونابلس فضاءاتهما التي يصعب على الاحتلال التوغُّل فيها بشكل مستمرّ لضيق أزقتها، كالبلدة القديمة في نابلس ومخيم جنين، ما يعني تكبّده خسائر فادحة -وإن لم يعلن عنها- في أي اقتحام ينوي تنفيذه، فلا بدَّ أن يدفع بالأجهزة الأمنية الفلسطينية لتقوم بالمهمة بدلًا عنه.
لكن على عكس ما تشتهي السفن، تفقد السلطة الفلسطينية نفوذها وسيطرتها تدريجيًّا على هذه المدن، بسبب القاعدة الشعبية الواسعة لأبناء حركة فتح الذين ما زالوا يعتقدون أن الكفاح المسلح هو طريق النضال، ويشكّلون بيئة حاضنة لأي مجموعة مقاومة مسلحة يمكن أن تنمو بذورها بينهم، ما ساعد في ظهور هذه المجموعات جغرافيًّا في شمال الضفة المحتلة.
في دايتون 2005، كان الهدف ضرورة قيام السلطة الفلسطينية بمهام أمنية، مثل تجريد المقاومة الفلسطينية من السلاح وملاحقة المقاومين، وتدمير البنى التحتية للإرهاب، وكان الاحتلال حينها ما زال يرثي قتلاه في انتفاضة الأقصى التي شارك فيها أفراد من الأجهزة الأمنية.
أما اليوم، فالمعادلة، وإن تشابهت، فيها مفارقة كبيرة تكمن في التفاصيل، حيث ينضمّ عدد من كتائب شهداء الأقصى، الذراع العسكرية لحركة فتح، بشكل رسمي إلى مجموعات المقاومة المسلحة عرين الأسود في نابلس وكتيبة جنين في مخيم جنين.
ويجدر الإشارة إلى أن كتائب شهداء الأقصى أصدر فيها رئيس السلطة الفلسطينية ورأس حركة فتح، محمود عباس، مرسومًا رئاسيًّا يقضي بحلّها عام 2007، وعفت “إسرائيل” بموجب اتفاقية مع رئيس الوزراء آنذاك، سلام فياض، عن 180 مقاتلًا من كتائب شهداء الأقصى مقابل تسليم السلاح والحصول على وظائف في الأجهزة الأمنية.
نابلس.. الأجهزة في العرين
في عام 2022، انخرط الأفراد المحسوبون على كتائب شهداء الأقصى وحركة فتح وحتى المتفرغين في الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل كبير في عرين الأسود بمدينة نابلس، وبحسب حديث لجنة أهالي المعتقلين السياسيين لـ”نون بوست”، فإنه ومنذ بروز عرين الأسود، خاصة بعد اعتقال مصعب اشتية، اعتقلت السلطة الفلسطينية أكثر من 35 من أبناء الأجهزة الأمنية وكتائب شهداء الأقصى بتهمة حيازة سلاح غير مشروع.
وتضيف اللجنة أن بعضهم جرحى وتمَّ اعتقالهم من داخل غرف المستشفى، مستذكرةً الجريح براء ازحيمان أحد قادة مجموعات عرين الأسود، الذي كان في المشفى العربي التخصصي ونقل إلى سجن الجنيد في نابلس، والمطارد علاء حموضة أبرز أعضاء مجموعات فارس الليل، الذي تواصل اعتقاله في سجن أريحا المركزي، والجريح خالد صلاح من مرتبات الأمن الوطني في الأجهزة الأمنية، والمعتقل بتهمة حيازة سلاح غير مشروع.
حتى إن شرارة الانتفاضة من داخل الأجهزة الأمنية وصلت مدينة الخليل، التي شهدت اغتيال الناشط الفلسطيني نزار بنات، إذ تقول اللجنة: “بعد أكثر من 50 يومًا من الاعتقال والتعذيب، قررت المحكمة العسكرية في الخليل الحُكم على المحرّر والجريح أحمد عادل الطيطي بالسجن لمدة 12 شهرًا، بدعوى حيازة سلاح غير مرخّص والتخطيط لضرب أهداف إسرائيلية، مع الإشارة إلى أن الطيطي أحد عناصر مرتبات الشرطة الفلسطينية، وشقيق الشهيد محمود عادل الطيطي من مخيم الفوار جنوب الخليل”.
أبو رعد.. حالة ثورية من قلب الأجهزة
كانت إحدى الصفعات الكبرى التي تلقّتها السلطة الفلسطينية في مدينة جنين، ظهور أبو رعد خازم كرمز ثوري، وإن كثرت رموز الشعب الفلسطيني الثورية إلا أن أبو رعد كان حالة خاصة، فهو ابن الأجهزة الأمنية وخرج من صلبها ليؤيّد المقاومة والفعل المناضل، وقد ودّع ابنين شهيدَين ارتقيا في تنفيذ عمليات فدائية، رعد خازم منفّذ عملية ديزنغوف في 7 أبريل/ نيسان 2022، وعبد الرحمن خازم الذي ارتقى في اشتباك على حاجز الجلمة في 8 سبتمبر/ أيلول 2022.
رثى أبو رعد خازم شهيده الأخير عبد الرحمن موجّهًا رسالة للأجهزة الأمنية الفلسطينية، للوقوف إلى جانب شعبها وأن تنحاز إلى المقاومة، قائلًا: “أدعوكم إلى أن تنحازوا إلى نهج أبو عمار وشيخ المجاهدين أحمد ياسين وشيخ المقاومين الشقاقي وإلى القادة الأبطال وإلى الحق والوطن وإلى أبناء وطنكم”.
وفي وقت سابق، في سبتمبر/ أيلول 2022، الذكرى الـ 22 لانتفاضة الأقصى، أشار موقع “نون بوست” إلى أن “الفلسطيني الجديد” يقاوم دايتون والاحتلال، وبعكس ما يصدر هذه الفترة من انتهاكات الأجهزة الأمنية، إلا أن بعض كوادرها لا يزالون يؤمنون بحقهم في مقاومة الاحتلال وتنفيذ عمليات ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا مع تصاعُد الجرائم الإسرائيلية في الضفة، وهو ما دقّ جرس الخطر في البيت الأبيض والاحتلال الإسرائيلي.