ليلة 25 يوليو/ تموز 2021، أطل الرئيس التونسي قيس سعيّد على التونسيين، معلنًا تعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة رئيس الحكومة ووضع يده على النيابة العمومية، بحجّة إنقاذ البلاد من المأزق الذي وصلت إليه، وأرجع قراراته إلى الفصل 80 من دستور الثورة.
أغلب الأحزاب السياسية ورجال القانون الدستوري، وصفوا هذه “القرارات الاستثنائية” بالانقلاب على مؤسسات الدولة ودستور البلاد، وطالبوا الرئيس سعيّد بضرورة العودة إلى المسار الدستوري لتجنُّب ويلات ما قام به.
في المقابل، برز اسم الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يعتبَر المنظمة الأكبر في البلاد، كأبرز المرحّبين بقرارات سعيّد، صحيح أنه لم يصدر بيانًا رسميًّا يفيد الترحيب، لكن تصريحات قياداته وتدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد ذلك.
لم ترحّب قيادات المركزية النقابية بقرارات سعيّد الانقلابية فقط، إنما عملت جاهدة على تبييضها والترويج لها، وتصدّرت المنابر الإعلامية لذلك وخصّصت صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي للقيام بالمهمة على أحسن وجه، ضنًّا منها أن الرئيس سيمنحها منزلة مهمة، وأن مكانتها ستتدعّم أكثر.
استغلّ سعيّد هذا الأمر، وحاول جاهدًا أن يبقي اتحاد الشغل في البداية في صفه للاستقواء به في صراعه ضد منافسيه السياسيين، ذلك أن الاتحاد منظمة قوية لها أن تتحكم في موازين القوى بفضل موقعها المريح كوسيط وحكم بين فرقاء السياسة.
بعد أن حقّق مراده، وتمكّن من بسط سيطرته على أغلب مؤسسات الدولة بشقَّيها المدني والعسكري، وجّه سعيّد اهتمامه نحو اتحاد الشغل، ليس لمكافأته على ما قدّمه له إنما لتقليم أضافره ووضع يده عليه، كما فعل مع غيره من المنظمات والمؤسسات.
استهداف المؤسسات والقوى الفاعلة في البلاد
قبل أن يوجّه سعيّد اهتمامه نحو الاتحاد، استهدف أغلب المؤسسات والقوى الفاعلة في البلاد، سواء كانت أحزاب سياسية أو منظمات وطنية وجمعيات فاعلة، بهدف تعبيد الطريق أمامه لفرض مشروع حكمه الأحادي.
البداية كانت بالبرلمان، فقبل تعليق عمله وحلّه إثر انقلاب 25 يوليو/تموز، ركّز سعيّد على ضرب مجلس نواب الشعب وتشكيك التونسيين في الجدوى من بقائه، حتى أنه أرجع نسبة المقاطعة القياسية للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها -والتي أشرف هو شخصيًّا على تنظيمها- إلى عدم ثقة التونسيين بمؤسسة البرلمان، بسبب “العبث” الذي حصل فيه خلال العقد الماضي، رافضًا اعتبار ذلك دليلًا على تراجع شعبيته.
بالتوازي مع استهداف البرلمان، استهدف سعيّد الأحزاب السياسية -حتى التي تدعمه-، ما جعل أغلبها يركن إلى الراحة الإجبارية، فالرئيس التونسي يرى أن عهد الأحزاب مرحلة وانتهت في التاريخ، ويرى أن الأحزاب التونسية عاجزة عن قيادة المرحلة التي تمرّ بها البلاد.
تضمّ المنظمة النقابية مئات الآلاف من المنخرطين معظمهم في القطاع العام، الأمر الذي يفسّر سعي الرئيس لاستهدافها.
بعد ذلك وجّه سعيّد نظره صوب القضاء، فهو يعلم أنه لا يستطيع تطبيق برنامج حكمه في ظلّ وجود قضاء لا يأتمر بأمره، فجمّد مجلس القضاء الأعلى وعيّن مكانه مجلسًا “صوريًّا”، كما أعفى عشرات القضاة من عملهم دون تهم واضحة.
أكمل مهمته مع القضاء، وتوجّه في الأثناء إلى الصحفيين، إذ عمد نظام سعيّد استعمال أبشع الأساليب للتضييق على الصحفيين، من ذلك اعتقال عدد منهم وملاحقتهم قضائيًّا، وتعيين أنصار الرئيس على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية، وتجميد عمل لجنة إسناد بطاقات الصحفي المحترف، وغيرها من الممارسات التي أثّرت على مناخ الحريات في البلاد.
كما استهدف نظام قيس سعيّد المنظمات الوطنية على رأسها الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، ولاحق قياداته لعدم تزكيتهم انقلاب سعيّد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، وحتى أمينه العام لم يسلم وتمَّ استبداله في تجاوز للقانون.
استهداف المركزية النقابية
إلى جانب هذه المؤسسات والمنظمات، استهدف سعيّد المركزية النقابية، وكانت البداية باستعمال القضاء والتعجيل بقضية المؤتمر الأخير في محاولة لإبطال هذا المؤتمر، وهو ما أكّده رئيس جمعية القضاة أنس الحمادي في ندوة صحفية مؤخرًا، إذ قال: “من بين القضاة المعفيين القاضية المتعهّدة بقضية مؤتمر اتحاد الشغل، التي رفضت طلب وزيرة العدل تعيين القضية في دائرة بعينها وبتاريخ محدد”.
استهداف الاتحاد العام التونسي للشغل يظهر أيضًا من خلال المنشور الذي صدر من رئيسة الحكومة نجلاء بودن، والذي وجّهته إلى الوزراء والمتعلق باستخلاص معلوم الانخراط للأعوان العموميين لعدد من المنظمات النقابية عام 2023، والمتمثلة في الكونفدرالية العامة التونسية للشغل، واتحاد عمّال تونس، والمنظمة التونسية للشغل، واتحاد نقابات النقل، والنقابة الوطنية لأعوان وإطارات العدلية، والاتحاد التونسي للمربّين.
#تونس ??: عصام الشابي في رد على قيادات إتحاد الشغل.#يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/LeomI7BDjr
— Tayari Mouadh ?? (@TayariMouadh) February 1, 2023
يعني هذا أن الحكومة تنوي قطع جزء مهم من الموارد المالية لاتحاد الشغل وتقديمه لباقي المنظمات النقابية، صحيح أن هذا المنشور قانوني وطالبت به كلّ النقابات في وقت سابق، لكن تفعيله في هذا الوقت يأتي في سياق حرب الرئيس سعيّد ضد الاتحاد.
يظهر الاستهداف أيضًا في إلقاء قوات الأمن الأربعاء القبض على أنيس الكعبي، كاتب عام نقابة الطرقات السيارة التابع للمنظمة العمالية، بسبب دعوته للإضراب في القطاع الذي يقوده، ما اعتبره الاتحاد بداية حرب ضده.
تزامن اعتقال الكعبي مع اتهامات من سعيّد للمركزية النقابية، إذ قال الرئيس التونسي خلال اجتماعه مساء الثلاثاء بقيادات الحرس الوطني في ثكنة العوينة: “الحق النقابي مضمون بالدستور لكن لا يمكن أن يتحول إلى غطاء لمآرب سياسية لم تعد تخفى على أحد”، في إشارة إلى الاتحاد.
تعتبر المنظمة النقابية صاحبة دور حاسم في الأزمات التي شهدتها تونس منذ استقلالها، وكان آخرها عام 2013.
تأكّد الاستهداف من خلال تعيين النقابي السابق محمد علي البوغديري كوزير للتربية، في إطار تحوير وزاري أعلن عنه سعيّد بداية هذا الأسبوع، وهذا النقابي في عداء مع القيادة الحالية للاتحاد العام التونسي للشغل، خاصة أمينه العام.
أسباب هذا الاستهداف
يعلم قيس سعيّد أن للاتحاد القوة على التصدي لمشروعه الأحادي إن أراد ذلك، ذلك أن هذه المنظمة النقابية لها قوة ميدانية تستطيع من خلالها قلب موازين القوى متى أرادت ذلك، حيث تضمّ مئات الآلاف من المنخرطين معظمهم في القطاع العام، الأمر الذي يفسّر سعي الرئيس لاستهدافها.
ويعتبر الاتحاد، إلى جانب جبهة الخلاص المعارضة وعمادها حركة النهضة، أبرز القوى على تعبئة الشارع وشلّ الحياة اليومية متى أرادت ذلك، وقد رصدنا هذا الأمر في العديد من المرات، رغم أن قوة الاتحاد في تراجع مستمر.
يرى سعيّد ضرورة إضعاف قوة اتحاد الشغل، خاصة أن هذا الأخير أبدى معارضته لأغلب قرارات وتحركاته في الفترة الأخيرة، وزادت هذه القناعة بعد سعي المركزية النقابية لتقديم مبادرة تبحث إيجاد حلّ للأزمة التي تكاد تعصف بالبلاد.
غلاف جريدة الشعب الناطقة باسم اتحاد الشغل في #تونس: خطاب (الرئيس قيس سعيد في) ثكنة العوينة “إعلان حرب”. pic.twitter.com/QRByvyOmXJ
— Alaeddine Zaatour علاء زعتور (@alazaatour) February 2, 2023
تعتبر المنظمة النقابية صاحبة دور حاسم في الأزمات التي شهدتها تونس منذ استقلالها، وكان آخرها في عام 2013 عندما نُظّم حوار وطني -بمعية 3 منظمات أخرى- بين الفرقاء السياسيين بعد موجة الاغتيالات السياسية والهجمات الإرهابية التي شهدتها البلاد، وأفضى ذلك الحوار إلى المصادقة على دستور البلاد.
مؤخرًا، أكّد الاتحاد أنه بصدد القيام بمشاورات لتقديم مبادرة وطنية لحلّ الأزمة في البلاد ستقدَّم بداية للرئيس سعيّد، لكن من المؤكد أن سعيّد سيرفض هذه المبادرة لذلك استبق الأمر وكثّف من استهداف الاتحاد حتى يضعف قوته، عملًا بمبدأ هاجم قبل أن تدافع.
هذه المبادرة زادت قناعة سعيّد في إضعاف الاتحاد وإرجاعه إلى حجمه ودوره الطبيعي، فالرئيس التونسي يعتبر المنظمة النقابية جزءًا من المنظومة السابقة، ويجب أن يقتصر دورها على العمل النقابي والاجتماعي دون التدخُّل في الحياة السياسية.
في ظل هذا الاستهداف المتواصل، لسائل أن يسأل كيف سيكون ردّ فعل اتحاد الشغل؟ هل سيلجأ إلى خيار المواجهة ويتجه هو الآخر نحو التصعيد، أم سيختار المناورة ويركن إلى الراحة، كما فعلت عديد المنظمات والأحزاب، خوفًا من مزيد استهدافه؟