ترجمة وتحرير: نون بوست
من المقرر أن تدخل الأزمة السورية عامها الثالث عشر في آذار / مارس المقبل، وعلى الرغم من أن مستوى العنف في جميع أنحاء البلاد لا يزال منخفضًا نسبيًا اليوم مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أن الأزمة ما زالت بعيدة جدًا عن نهايتها. داخل سوريا؛ ما لا يقل عن ستة صراعات بارزة تشمل جهات فاعلة داخلية وحكومات أجنبية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا، وجميعها تُظهر علامات تصعيد أكثر من تهدئة.
ولا يزال البلد في حالة دمار ومجتمع ممزق، ولا يزال نظام بشار الأسد منبوذًا دوليًا. ويواصل كل استطلاع رأي للاجئين السوريين في الدول المجاورة لسوريا في التأكيد على الغياب المطلق لنيتهم بالعودة إلى سوريا التي يحكمها الأسد. وفي سنة 2022؛ ارتفعت موجة هجرة السوريين غير الشرعية إلى أوروبا بنسبة 100 في المائة. من المحتمل أن يكون هذا نذير شؤم لما سيحل في سنة 2023.
باستثناء الحملة المستمرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية؛ أصبحت سوريا مرحلة لاحقة بالنسبة لمعظم الناس. في السنوات الأخيرة؛ أصبح من الشائع بشكل متزايد سماع مزاعم بأن “الأسد قد انتصر” أو أن “الحرب قد انتهت”، سواء كان ذلك بسبب الوهن أو التحليل الفعلي، وهي الادعاءات التي كانت غير دقيقة سنة 2019 بقدر اليوم؛ فمع اقتراب موعد الانتخابات التركية والصراعات الروسية في أوكرانيا وأزمة الطاقة الإيرانية والأعمال العدائية الإقليمية المستمرة المرتبطة بإيران، فإن احتمالات حدوث تطورات كبيرة مزعزعة للاستقرار في سوريا هذه السنة كبيرة.
من المسلّم به أن التحذيرات من موجات فوضى جديدة في سوريا ليست بالشيء الجديد. لكن يبدو أن 2023 ستكون من المؤكد سنة من عدم الاستقرار المحتمل من شأنها أن تغير قواعد اللعبة، وعلى الرغم من أن التطورات الفريدة في تركيا وروسيا وإيران من المرجح أن تساهم في إحداث تغييرات كبيرة، فإن الديناميكية الأكثر تأثيراً تتعلق بالاقتصاد وبالأخص الوضع داخل مناطق النظام.
وعلى الرغم من أن السعي الشرس للأسد للبقاء القائم على اتباع أسلوب الأرض المحروقة قد وجه ضربة مدمرة للاقتصاد السوري منذ سنة 2011، إلا أنه كان على طريق الانهيار المستمر منذ سنة 2019 بسبب الآثار المدمرة لأزمة السيولة في لبنان على جارتها سوريا. وتم اختصار هذا المسار منذ ذلك الحين، أولاً بسبب جائحة كورونا، ثم الآثار العالمية للغزو الروسي لأوكرانيا، ومؤخراً بسبب التدهور الاقتصادي الحاد في إيران.
مع دخولنا لسنة 2023؛ يخرج الانهيار الاقتصادي السوري بسرعة عن نطاق سيطرة النظام، فلا يزال أكثر من نصف البنية التحتية الأساسية في البلاد مدمرًا، ويعيش 90 بالمئة من السوريين حاليًا تحت خط الفقر، ويعتمد 70 في المئة على المساعدات الخارجية. قبل سنة؛ كان الدولار الأمريكي الواحد يساوي 3600 ليرة سورية، لكنه الآن يساوي 6850 ليرة، وأصبحت الميزانية الوطنية لهذه السنة الأدنى في سوريا على الإطلاق. في محاولة لتقليل الضغط على العجز القومي، فرض النظام مزيدًا من التخفيضات على الإعانات الأساسية بقيمة حقيقية تبلغ 40 في المئة.
بعد مرور أكثر من عقد على ما كان يروج له النظام، أصبحت الظروف المعيشية الآن أسوأ في المناطق التي يسيطر عليها الأسد؛ حيث يعتبر وجود الكهرباء لساعتين أو ثلاث في اليوم في العاصمة دمشق بمثابة يوم “جيّد”، بينما يحرق الكثير من الناس الآن قشور الفستق الحلبي والمطاط وحتى البراز لتوفير الدفء في المنازل. مع وجود تضخم، يبلغ متوسط الراتب الشهري في دمشق اليوم 100 ألف ليرة سورية (حوالي 15 دولار)، لكن تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد تقدر الآن بين 2.8 مليون ليرة سورية (حوالي 427 دولار) و4 ملايين ليرة سورية (حوالي 611 دولارًا أمريكيًا)؛ بزيادة بلغت 5800 في المائة منذ سنة 2015.
وبينما ارتفعت تكلفة المعيشة في جميع أنحاء سوريا لبعض الفترات، فقد قفزت بشكل ملحوظ في مناطق النظام منذ أواخر سنة 2022 بعد قرار إيران بمضاعفة سعر النفط الذي توّرده إلى سوريا (إلى 70 دولارًا للبرميل) والمطالبة بالدفع المسبق بدلاً من الإقراض الآجل كما فعلت طوال الأزمة.
في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، استمر المتظاهرون سبعة أسابيع من المظاهرات الشعبية المتتالية في وسط المدينة، مطالبين بالتغيير السياسي والإصلاحات الاقتصادية والإفراج عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين والتوصل إلى تسوية سياسية تفاوضية
نتيجة لهذه السياسة (مدفوعة بالأزمة الاقتصادية المحلية لإيران)، انخفضت شحنات الوقود إلى سوريا بنسبة 52 في المائة بين تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وفي الأشهر الثلاثة التي تلت ذلك، زودت إيران سوريا بشحنات وقود أقل مقارنة بما قدمته في تشرين الأول/ أكتوبر 2022 وحده. وغادرت آخر سفينة إيرانية محملة بالنفط إلى سوريا في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ولا يبدو أن هناك المزيد من السفن المخطط لها الإنطلاق حتى آذار/ مارس، ما يشير إلى أن أزمة الوقود في سوريا في ذروة الشتاء لا تزال في بدايتها.
قدمت الميزانية السنوية 30 في المائة فقط من احتياجات سوريا من الوقود لسنة 2023، لكن ذلك كان مع تكلفة الإمدادات الإيرانية نصف ما تفعله اليوم؛ لذلك كان لهذا الانخفاض الكبير في العرض وفرض إيران شروط الدفع النقدي تأثير كارثي على مناطق النظام في سوريا، ففي غضون ثلاثة أشهر، ارتفعت تكلفة السلع الغذائية الأساسية بنسبة 30 في المائة وتكلفة الوقود 44 في المائة؛ حيث أصبح الراتب الشهري الكامل يشتري حاليًا حوالي 2 غالون من الغاز، بينما أصبح الناس غير قادرين بشكل متزايد على الوصول إلى العمل مع ارتفاع تكلفة النقل والكهرباء التكميلية، إضافة إلى غلق المصانع والمخابز أبوابها وانهيار صناعة الألبان وتخفيض أسبوع العمل إلى أربعة أيام. ولولا سرقة روسيا للحبوب الأوكرانية على المستوى الصناعي في سنة 2022، لكانت سوريا أيضًا في خضم أزمة عجز شديدة للقمح.
السوريون للأسف ليسوا حديثي العهد بالمعاناة، لكن ما يحدث اليوم داخل مناطق النظام غير مسبوق ويأتي في الوقت الذي وصلت فيه أعمال العنف إلى أدنى مستوياتها، وهو الوضع الذي يولد ضغوطًا كبيرة، خاصة مع اختفاء الطبقة الوسطى في سوريا وتزايد غياب السوريين العاملين بشكل جيد، وكما هو معتاد في اقتصادات الحرب، فإن المسلحون يستغلون الآن غيرهم، ويبحثون عن مصادر دخل إضافية، وهو ما تكشف عنه المصادر التي تعيش في مناطق النظام؛ حيث أشارت إلى الابتزاز “المنهجي” للشركات الصغيرة والمتوسطة وحتى الأكبر من قبل الأجهزة الأمنية للنظام، مدفوعة بالجشع والفساد، بالإضافة إلى حاجة النظام الملحة لملء خزائنه الفارغة؛ حيث تم “الاحتفاظ بفدية” مقدمة من المئات من نخبة رجال الأعمال في النظام بهدوء؛ حيث تم تهدديهم بالخراب وزعزعة أعمالهم منذ سنة 2020.
وتتصاعد حالة عدم الاستقرار؛ حيث تعتبر محافظة درعا الجنوبية المنطقة الأكثر اضطرابًا في سوريا، أما في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، استمر المتظاهرون سبعة أسابيع من المظاهرات الشعبية المتتالية في وسط المدينة، مطالبين بالتغيير السياسي والإصلاحات الاقتصادية والإفراج عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين والتوصل إلى تسوية سياسية تفاوضية للأزمة السورية، وفي حين يتصاعد التعبير العلني عن الغضب من فساد النظام وعدم كفاءته، ولا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى بعض الموالين المتشددين للنظام بدأوا التحقيق في قضايا الفساد؛ وبعضها اختفى لاحقا نتيجة لذلك.
مع عدم ظهور أي علامات على التباطؤ في الانهيار الاقتصادي في سوريا، فإن الأشهر المقبلة مليئة بعناصر احتراق خطيرة للنظام؛ فليس لديه أوراق يلعب بها لتحسين الوضع
وبينما يدفع الانهيار الاقتصادي السوريين في ظل النظام إلى حافة الهاوية، فإن النظام نفسه أصبح أكثر ثراء مما كان عليه في أي وقت مضى؛ حيث لا يزال النظام المعاقب دوليًا يتلقى عشرات الملايين من الدولارات من أموال الأمم المتحدة، وذلك على الرغم من تقارير التحقيق المتكررة؛ حيث كشفت إحدى الدراسات الحديثة أنه تم صرف ما لا يقل عن 140 مليون دولار من أموال المشتريات التابعة للأمم المتحدة في سنتي 2019 و2020 لكيانات مملوكة ومرتبطة بشخصيات مثل ماهر الأسد ونزار الأسد وسامر فوز وفادي صقر، وجميعهم فُرضت عليهم عقوبات لتورطهم في جرائم الحرب وارتباطهم بها.
وتحول النظام إلى المخدرات كمصدر للدخل غير العادي، وذلك مع عزل النخبة المحسوبة على الأسد بشكل متزايد عن الاقتصاد العالمي، لتصبح دولة مخدرات ذات أهمية عالمية. ففي سنة 2021؛ صادرت السلطات في جميع أنحاء الشرق الأوسط ومناطق بعيدة مثل السودان وماليزيا ونيجيريا ما لا يقل عن 5.7 مليار دولار من الأمفيتامين المصنع في سوريا والمعروف باسم الكبتاغون؛ حيث تمثل المضبوطات 5-10 في المائة فقط من إجمالي تجارة المخدرات السورية، وفقًا لمسؤولي المخابرات الإقليمية، مما يعني أن قيمة تجارة 2021 كانت 57 مليار دولار على الأقل، أي ما يقرب من تسعة أضعاف ميزانية سوريا وأكبر بكثير من الإيرادات المجمعة للكارتلات المكسيكية، وبطبيعة الحال، لا تصل أي من هذه الأموال إلى الشعب السوري؛ فهي تملأ فقط جيوب النخبة الثرية الموالية للأسد.
وتبرز نخبة الفرقة الرابعة في النظام السوري بسرعة ككيان ذي قوة هائلة لا منازع له، وذلك بسبب دورها الريادي في تجارة الكبتاغون الضخمة هذه؛ حيث بدأت الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر شقيق بشار الأسد، في الأسابيع الأخيرة، توسيع نفوذها بشكل كبير في مناطق النظام، بفرض السيطرة الفعلية على جميع طرق النقل التي تربط لبنان والأردن بسوريا، بالإضافة إلى جميع الطرق الرئيسية في غرب وجنوب سوريا، في حين أن هناك حملة تجنيد جماعية جارية لإدارة نقاط التفتيش التي تتقاطع مع شبكة الطرق الواسعة هذه، مما يضمن طرق عبور المخدرات ولكن أيضًا احتكارًا فعليًا للرشوة الروتينية المطلوبة للسفر في جميع أنحاء البلاد.
ومع عدم ظهور أي علامات على التباطؤ في الانهيار الاقتصادي في سوريا، فإن الأشهر المقبلة مليئة بعناصر احتراق خطيرة للنظام؛ فليس لديه أوراق يلعب بها لتحسين الوضع، كما أن إيران وروسيا ليسا في وضع يُمكنهما من إنقاذها، وهو ما يفسر إلى حد ما حرص روسيا على استكشاف إعادة الارتباط مع تركيا، لأن تحقيق مثل هذا الارتباط سيغير قواعد اللعبة في تفكيك عزلة الأسد. ومع ذلك، على الرغم من كل الخطاب العام والرؤى التي تشير إلى التقارب، فلا يوجد سبب لتصور تطبيع جوهري للعلاقات.
بمعنى آخر، يبدو أن المسار الرهيب اليوم سيستمر، ومن المحتمل أن يتسارع أكثر، وفي حين أن العودة إلى الحرب المباشرة لا تزال غير مرجحة إلى حد كبير، فإن الوضع الراهن غير مستدام على الإطلاق وسيتغير لا محالة.
المصدر: فورين بوليسي