مشكلة الشيخ “القرضاوي” مع دولة العسكر أنه صاحب شعبية كبيرة في مصر وفي العالم كله، وهو شخص مستقل، لا يمكن الضغط عليه، فلا هو موظف عمومي ولا رجل أعمال، كما أنه يقيم خارج مصر أغلب وقته.
سماحة الشيخ القرضاوي رجل يتحرك كثيرًا، وله منابر في كل مكان في الكرة الأرضية، قضى عشرات السنين من عمره يسافر إلى أرجاء المعمورة، حتى أطلق عليه أحد الأفاضل لقب (الفقيه الطائر).
هذه الأسفار أفادته في فهم بيئة الجاليات الإسلامية في كثير من الدول؛ مما أعطاه قدرات أكبر على الفتوى، وما الفتوى إلا فهم للشرع ومراعاة للواقع، والقرضاوي أحسبه أكثر الفقهاء (في عصرنا) علمًا، وأعمقهم فهمًا للواقع.
كل ذلك أعطى لسماحة الشيخ القرضاوي مصداقية عظيمة عند ملايين المسلمين في العالم كله.
هذه المصداقية والشعبية الغير مدفوعة الأجر ولا المصطنعة بفعل وسائل الإعلام تضايق حاكم مصر، على مدار العصور كلها، كان حاكم مصر دائمًا في حالة (غيظ مكبوت) من هذا الرجل الذي يتحرك في العالم كله ثم يأتي إلى مصر فيلقي محاضرة أو محاضرتين كل عام؛ فتتوقف حركة المرور في عدة أحياء بسبب زحام الحاضرين لتلك المحاضرة!
مشكلة الشيخ مع دولة العسكر أنه يقف لوحده فردًا أمامهم فيهزمهم، برغم سائر المؤسسات التي تعمل لحسابهم، وتزور دين الله من أجلهم، في النهاية تنتصر مصداقية الشيخ القرضاوي على مؤسسات السلطان المسيسة.
سأروي قصة ذات مدلول حدثت مع سماحة الشيخ القرضاوي، لم يروها هو، ولا يعرفها أحد، لكي يعرف القارئ حقيقة المشكلة بين الشيخ وبين دولة العساكر المصرية التي لا توقر كبيرًا، بل هي تتفنن في إهانة كل كبير.
كان سماحة الوالد الشيخ “يوسف القرضاوي” يأتي إلى مصر عدة مرات سنويًا خلال حكم مبارك، وفي إحدى زياراته التي كانت بدعوة من شيخ الأزهر (في ذلك الوقت) لحضور مؤتمر الأزهر، الذي دعي إليه عدد كبير من المشايخ، واستقبل الشيخ الوالد في المطار، وكان له حضوره الواضح والفاعل والمشرف.
في أحد أيام المؤتمر أبلغ أحد ضباط الأزهر والدي بأن رئيس المباحث – مباحث أمن الدولة – يرغب في لقائه.
كان الدكتور “أحمد الطيب” في ذلك الوقت مفتيًا للجمهورية، وكان يقترب من سماحة الوالد كثيرًا، ويقول له: إن كتبك الثلاثة أو الأجزاء الثلاثة من فتاواك المعاصرة، هي أول ما اصطحبته حين عينت مفتيًا، تعرف أننا رجال العقيدة، حصيلتنا الفقهية ضعيفة، نقتصر على ما درسناه في المرحلة الثانوية من المعهد، وهذا لا يكفي” (الشيخ أحمد الطيب الذي يطرد الشيخ القرضاوي من الهيئات العلمية المختلفة بمنتهى البجاحة الآن، وأود أن أشكره على ذلك، فأنا لا يشرفني أن أرى الشيخ إلى جواركم).
وقد رأى الشيخ الطيب الوالد متضايقًا، فسأله ما الذي يضايقك؟ فقال له: بصراحة هذا الضابط الذي يرافقنا في مجيئنا وذهابنا أبلغني بكذا وكذا، صحيح أنه لم يحدد لي وقتًا، وقال: اختر أنت الوقت الذي تريده، ولكني غضبت في نفسي لهذا الأمر، ولا أحب أن ألقى هؤلاء القوم، وإن كنت أعلم أنهم سيرحبون بي.
قال الطيب: ولكنك ضيف الأزهر، وكان ينبغي أن يكلموا شيخ الأزهر الذي دعاك قبل أن يكلموك، وأنا سأبلغ الشيخ بذلك.
وكلمهم الشيخ الطيب، وكلم شيخ الأزهر الوالد، وقال: “لا تنزعج، إن كلماتك التي قلتها في المؤتمر يتغني الجميع بها، فكيف تلام من أحد؟ وعلى كل حال، أنا سأكلمهم وأطلب منهم أن يأتوا هم لمكتبي ليكلموك فيه”.
فقال له سماحة الوالد: هذا أمر طيب، وعلى كل حال أنا مسافر غدًا، ولن نستطيع ذلك في هذه المرة، قال: تسافر بالسلامة، وسنرتب الأمر بعد ذلك.
وحين جاء الوالد في الصيف، اتصل به شيخ الأزهر، وقال: “القوم يطلبون لقاءك، ويؤكدون أنه لقاء تعارف، وليس فيه أدنى شيء”.
قال الوالد: وهل يكون في مكتبك؟
قال: أنا عرضت عليهم ذلك، ولكنهم فضلوا أن يكون اللقاء في مكتبهم، وسأكون معك ضيفًا عليهم، فقال الوالد له: لا بأس بذلك.
وحدد اليوم وساعة اللقاء: الساعة العاشرة والنصف صباحًا.
وقال الشيخ: يمكنني أن أمر عليك، وآخذك معي.
فقال الوالد له: جزاك الله خيرًا، أنا سأمر عليك بسيارتي، ونذهب معًا في سيارتك إلى مكتبهم في لاظوغلي.
وفعلاً وصل الوالد إلى الشيخ في المكتب، ووجدهم مستعدين، شربوا القهوة ومضوا ودخلوا ومعهم أحد موظفي أمن الدولة من الذين يعملون مع الشيخ في الأزهر.
ظن الوالد أن أحدًا سيكون في انتظارهم في الدور الأرضي، ويصحبهم إلى مكتب القائد، إن لم يكن القائد نفسه، لكن ذلك لم يحدث، وصعدوا إلى مكتب الرئيس (رئيس مباحث أمن الدولة).
حاول الوالد أن يدفع الشيخ بقوة ليدخل قبله، ولكن كان من أدب الشيخ معه دائمًا ألا يتقدم عليه أبدًا، فدخل أبي قبله على مكتب الرئيس، وهو يقول لهم مضاحكًا: إن فضيلة شيخ الأزهر، يأبى إلا أن يقدم صاحب السن الأكبر، وأنا أكبر منه بأربع سنوات، فقال: بل بسنتين فقط.
في الجلسة سألوا سماحة الوالد بعض الأسئلة عن السنة والشيعة، فذكر ما بيننا وبينهم من وفاق وخلاف، وجاء ذكر المسيحيين والمسلمين، فذكر الروابط الأساسية التي تجمع بين الأقباط والمسلمين.
خلال الحوار حدث استطراد، وذكر اسم الداعية (فلان الفلاني)، فما كان من السيد رئيس مباحث أمن الدولة إلا أن قال بصفاقة أمن الدولة المعهودة: “احنا مسجلين عليه حاجات مشينة جدًا”!، وظن أن ذلك سيحرج الشيخ، فقال له الشيخ “لكن ذلك لا يجوز، وتجسسكم على الناس حرام شرعًا وممنوع قانونًا، ولو كانت هناك دولة لحاسبتكم على هذا الأمر، إنها جريمة”، فسكت الرجل، ثم حاول تبرير الموضوع بخزعبلات الأمن القومي المعتادة، فما كان من الشيخ إلا أن أعطاه (على دماغه)، مصممًا على الكلام نفسه، وعلى حرمات الناس، وعلى أن ذلك تجاوز قانوني، (كل ذلك وشيخ الأزهر ساكت).
من ضمن ما قيل في هذه الجلسة، أن السيد رئيس مباحث أمن الدولة تفاخر بمسألة “مراجعات الجماعة الإسلامية”، فقال له سماحة الشيخ: “هذا إنجازي وليس إنجاز أمن الدولة”.
فتعجب الرجل، فقال له الشيخ: “لقد اقتبستم من كتبي عشرات الصفحات وأخذتم منها فصولاً كاملة، ولولا ذلك لما استطعتم أن تتموا هذه المراجعات، هذه المراجعات لا يمكن أن تتم إلا بالاستعانة بأهل العلم، ولا يمكن أن يكتبها ضابط”، ثم أضاف “ويجب أن تعلموا محاصرة الإسلام الوسطي هو أول وأهم أسباب انتشار التطرف، وتأكدوا أنكم مهما فعلتم لن تستطيعوا أن تحاصروا الإرهاب والتطرف إلا بكتبنا نحن دعاة الإسلام الوسطي، خصوصًا في ظل التراجع الكبير لدور الأزهر”، كل ذلك وشيخ الأزهر ساكت.
تناول اللقاء عددًا من القضايا، وكان القوم يسجلون كل ما يقوله الوالد، ولو كان مزحًا، وقالوا: نراك شيخا للشعب كله، ونحن نستفيد منك، ولا تظن أننا طلبناك لأي شيء آخر”، وودعوه وانصرف.
حين حكي لي سماحة الشيخ الوالد عما دار، قلت له “ولكنك حزين لسبب آخر … ما الذي جرى بالضبط يا أبي؟”.
فقال لي: “أنا حزين لأنني رأيت الأزهر يهان أمام عيني”.
سألته: كيف ذلك؟
فأجاب: “لقد زرت غالبية دول العالم، ولم أزر مسؤولاً إلا ووجدته يقف بنفسه أمام باب وزارته، بعضهم كان يفتح لي باب السيارة بنفسه … أتعرف يا عبدالرحمن أين استقبل رئيس مباحث أمن الدولة شيخ الأزهر؟”.
سألته: أين؟.
فأجاب بحسرة: “على مكتبه!! لقد ظننت أن دخول شيخ الأزهر لمبنى أمن الدولة سيقلب المبنى، ظننت أنني سأرى (تشريفة) لاستقبال شيخ الأزهر، ظننت أن رئيس مباحث أمن الدولة سيفتح باب السيارة بنفسه للشيخ، ويستقبله استقبالاً رسميًا، ففوجئت بمعاملة مهينة، لم أكن أتخيل أن تحدث منهم، ولم أكن أتخيل أن يقبل أي شيخ للأزهر هذه المعاملة”.
هكذا تُعامل أكبر العمائم في دولة الاستبداد!!!
وإذا تجرأ عالم على أن يقف في وجه هؤلاء قائلاً “لا”، فإنه بمنتهى البساطة سيصبح إرهابيًا، حتى لو كانت هذه الدولة قد اقتبست من كتبه فصولاً كاملة لكي تقاوم الإرهاب الذي عجزت عن مقاومته بالمدرعات!
اليوم … تحاول هذه الدولة أن تلصق صفة الإرهاب بفضيلة الشيخ القرضاوي، وتتهمه في قضية “وادي النطرون”، وتتهمه بتهريب المساجين وسرقة المواشي، في وقت كان فيه خارج البلاد، ثم تستخدم حيلها لتضع اسمه على قوائم الإنتربول، والحقيقة أن الرد على هذا النظام الحقير مضيعة للوقت، فهم أتفه وأحقر من أن يرد عليهم.
منذ عشرات السنين وهم يتقولون على سماحة الشيخ القرضاوي بالباطل، ومازال الشيخ يزداد اسمه رفعة، ويزداد رصيده عند الناس، ومازالوا هم في تسفل وانحطاط.
إن مشكلة الشيخ القرضاوي مع نظام العسكر أنه ليس شيخًا تحت الطلب، ولم يقبل في يوم من الأيام إلا أن يكون “يوسف القرضاوي” الشيخ المستقل المحترم، إنه الشيخ الذي يستقبله العالم كله باحترام، حتى الدول التي منعته من دخولها (أمريكا مثلاً) أرسلت له سفيرها خصيصا لكي يبلغه بإلغاء التأشيرة التي مُنحت له.
الدولة الوحيدة التي تتعامل مع الدكتور يوسف القرضاوي وسائر العظماء عن طريق أمناء الشرطة هي الدولة المصرية!، وسيظل ذلك عارًا على حكام هذا البلد إلى الأبد !
ولم تكن مواقف سماحة الشيخ القرضاوي منذ بداية الثورة – والتي أراد الله أن يشهد إرهاصاتها بعينيه في مصر – وحتى الآن إلا امتدادًا لمواقفه المشرفة التي انحاز فيها دومًا إلى حريات الشعوب تحقيقًا لمقاصد الشريعة، وسائر خطب الشيخ (الذي يتهمونه الآن بالإرهاب) تحث المتظاهرين على التزام السلمية التامة مع ضباط الشرطة، ودأب على تذكيرهم بأنهم أيضًا ضحايا النظام الفاسد.
ربما لو دعا سماحة الشيخ الضباط إلى قتل المتظاهرين الخوارج لربما وضعوه على قوائم “الشرف” بدلاً من قوائم الإنتربول.
في النهاية … ستظل الكلاب تعوي قائلة “شيخ الإرهاب”، وستظل كتب الشيخ تدعو للوسطية، وتدعم مقاومة الشعوب للاحتلال، وتجهر بالحق في وجه الطغاة.
حكم العسكر زائل قريبًا، وحينها ستظهر حقائق كثيرة، أما اليوم … فيكفينا أن أكبر إرهابيًا في تاريخ مصر يتهم فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بالإرهاب!
أيها السادة … أزيلوا أجهزة التنصت من مكاتبكم أولاً، ثم التفتوا بعد ذلك إلى اتهامات فارغة تكيلونها للآخرين، بالبلدي (شوفوا خيبتكم الأول وبعدين اتكلموا) !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ..
المصدر: مصر العربية