طيلة العقود الماضية، دعم الاحتلال الإسرائيلي العديد من الحركات الانفصالية في القارة الأفريقية، كما ساهم في تأجيج عدة حروب أهلية، مثلما حصل في جنوب السودان، لتعزيز نفوذه السياسي والأمني والاقتصادي.
استثمار الإسرائيليين في حالة الصراع الدائر بين الحكومة السودانية والحركة المسلحة في الجنوب، من أجل تعميقه وعدم ترك أي فرصة للسلام بين أبناء الوطن الواحد، هو خدمة لمصالحهم الخبيثة، إذ أقنعوا الجنوبيين بأن صراعهم ديني، وأنه يدور بين شمال عربي مسلم محتَلّ وجنوب أسود مسيحي.
كما عمدوا إلى تصوير الأزمة في الجنوب السوداني على أنها حرب بين الحضارة العربية والحضارة الأفريقية، بهدف زعزعة الثقة بين العرب والأفارقة وتعميق الفجوة بين الشمال والجنوب، وصولًا إلى هدف التفتيت ومن ثم الانفصال.
ما أن أعلنت حكومة جنوب السودان الانفصال في يوليو/ تموز 2011، حتى اعترف الكيان الإسرائيلي بالدولة الفتية، واعتبر الاحتلال ولادة هذه الدولة انتصارًا له وتتويجًا لاستراتيجيته في تفتيت وتجزئة الوطن العربي.
لم يكتفِ الإسرائيليون بذلك، بل ساهموا في الترويج لهذه الدولة الوليدة وتقديم جميع المساعدات المطلوبة لها، مستغلين المساندة القوية من اليمين المسيحي المتصهين في الولايات المتحدة لهذه الدولة، التي تأسّست بعد حرب أهلية أسفرت عن مقتل مليونَي شخص وتهجير 4 ملايين.
يعلم حكّام السودان الحاليون بكلّ هذه الوقائع، بل يعلمون ما هو أكثر منها، وهم على دراية كبيرة بالدور الإسرائيلي الخبيث في تقسيم بلادهم وإثارة الفتنة فيها وبثّ الفوضى والعنف هناك، مع ذلك هم يسارعون الخطى نحو تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الصهيوني.
تطبيع وشيك
يسارع حكّام السودان الخطى نحو تطبيع كامل مع الاحتلال الإسرائيلي، في ظلّ حكومة يمينية بقيادة بنيامين نتنياهو توصَف بأنها الأكثر تطرفًا في تاريخ “إسرائيل”، وفي ظلّ تواصُل الانتهاكات بحقّ الشعب الفلسطيني والمقدسات.
ضمن هذه الهرولة، التقى رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان، البرهان، أمس الخميس في مكتبه، وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في زيارة استمرّت لبضع ساعات، ولم يعلَن عنها مسبقًا، ونقلت وكالة الأنباء السودانية “سونا” أن اللقاء تطرّق إلى “سبل إرساء علاقات مثمرة مع “إسرائيل” وتعزيز آفاق التعاون المشترَك بين الخرطوم وتل أبيب في عدة مجالات، لا سيما الأمنية والعسكرية”.
وأفاد بيان صادر عن الخارجية السودانية بأن المباحثات “تطرّقت إلى تطوير علاقات البلدَين في المجالات المختلفة، خاصة الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم”، وأشار إلى أنه “تمَّ الاتفاق على المضيّ قدمًا في سبيل تطبيع علاقات البلدَين”.
يسارع حكّام السودان الخطى نحو استكمال خطوات التطبيع الرسمي والكامل مع كيان الاحتلال الصهيوني.
عقب هذه الزيارة، كشف وزير الخارجية الإسرائيلي عن تقديم تل أبيب مسودة اتفاق سلام مع السودان سيوقّع خلال هذا العام، وقال كوهين -بعد اللقاء-: “نعود من الخرطوم بـ”نعم” 3 مرات، للسلام وللمفاوضات وللاعتراف بـ”إسرائيل””، مشيرًا إلى أن اتفاق السلام مع السودان سيوقّع هذا العام.
الخطوات تتلاحق لإتمام التطبيع الكامل للعلاقات بين عسكر السودان وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، فقبل نحو سنتَين أعلنت “إسرائيل” والسودان تطبيع العلاقات بينهما، بعد تعهُّد الرئيس الأمريكي السابق آنذاك، دونالد ترامب، بإزالة اسم البلد العربي عن قائمة ما تعتبرها واشنطن “دولًا راعية للإرهاب” وتقديم مساعدات للخرطوم، لكن إلى الآن لم يوقّع الطرفان رسميًّا على اتفاقية إبراهام.
قبل سنة من هذه “الرحلة السياسية التاريخية” وفق الخارجية الإسرائيلية، تحديدًا يوم 26 يناير/ كانون الثاني 2021، زار كوهين الخرطوم بصفته وزيرًا لشؤون الاستخبارات في حكومة بنيامين نتنياهو آنذاك، وكان أول وزير إسرائيلي يزور السودان.
كما سبق أن التقى البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في مدينة عنتيبي الأوغندية في فبراير/ شباط 2020، واتفقا حينها على بدء حوار من أجل “تطبيع العلاقات”، دون أن يعود البرهان إلى المجلس الوزاري الذي يعمل معه.
?لفتني في تطبيع عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانقلابي العسكري في #السودان تفاخر وزير خارجية الاحتلال الصهيوني”عدنا من زيارة تاريخية ب3 نعم
1-نعم للسلام
2-نعم للمفاوضات”
3- نعم للاعتراف بإسرائيل
?واسفاه على السودان وقمة اللاءات الثلاث عام 1967:لا صلح لا تفاوض لا الاعتراف pic.twitter.com/6nsJQEAjyR— عبدالله الشايجي Prof (@docshayji) February 3, 2023
بالتزامن مع ذلك، ألغت الحكومة السودانية في أبريل/ نيسان 2021 قانون مقاطعة “إسرائيل”، الذي ظلَّ ساريًا في البلاد منذ عام 1958 وينصّ على منع أي سوداني من عقد أي اتفاق من أي نوع مع هيئات أو أشخاص مقيمين في “إسرائيل”، أو مع هيئات أو أشخاص يعلم أنهم ينتمون بجنسيتهم إلى “إسرائيل” أو يعملون لحسابها.
كما يحظر القانون المقرر إلغاؤه التعامل مع الشركات والمنشآت الوطنية والأجنبية التي لها مصالح أو فروع أو توكيلات عامة في “إسرائيل”، ويمنع تصدير السلع السودانية إلى البلاد التي تعيد تصديرها إلى “إسرائيل”.
دوافع حكومة البرهان من وراء التطبيع
بلد صديق وشقيق وحامل للقضية الفلسطينية، ومُضيف لحركتَي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتَين، وكان أيضًا معبرًا مفتوحًا للأسلحة والإمدادات التي تُمرَّر إلى قطاع غزة، وشارك في عدة حروب ضدّ الكيان الصهيوني، أصبح اليوم صديقًا للإسرائيليين.
حرص خلفاء عمر البشير على توطيد علاقاتهم مع الاحتلال وكسب ودّه وتحقيق الاستفادة من ذلك، فهم يعلمون أن تبييض صورتهم خارجيًّا يتم عبر تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، رغم الرفض الشعبي الكبير لهذا التوجه.
وفي ظلّ سعيهم نحو توفير موارد نقدية جديدة لإدارة أزمة اقتصادية قاسية، ولتحقيق الاستقرار في مجال سياسي دائم التقلُّب، رأى حكّام السودان ضرورة وأهمية تطبيع العلاقات مع الإسرائيليين، فهم الماسكون بزمام القرار الدولي.
تبحث “إسرائيل” عن إقامة علاقات قوية مع حلفاء جدد حتى تكسب مزيدًا من القوة والمكان.
يعتقد عسكر السودان أن الحصول على الأموال الكفيلة لإنقاذ الاقتصاد يمرّ حتمًا عبر بوابة التطبيع، فهو مفتاح الحصول على قروضٍ جديدة، ومفتاح رضا الأمريكيين على الحكومة السودانية، رغم ما تعلق بها من انتهاكات تمسّ حقوق الإنسان.
أولى ثمرات التطبيع كانت إلغاء الولايات المتحدة رسميًّا توصيف السودان باعتباره “دولة راعية للإرهاب”، وتمَّ ذلك في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2020، أي قبل 3 أسابيع من إبرام صفقة التطبيع في 7 يناير/ كانون الثاني 2021 في الخرطوم بتوقيع وزير العدل السوداني، نصر الدين عبد الباري، ووزير المالية الأمريكي السابق، ستيفن منوشين.
كما قدّمت الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن مساعدات مالية للسودان في مارس/ آذار 2021 بقيمة 1.15 مليار دولار على شكل قروض، للمساهمة في تمكين البلاد من تسديد متأخّرات مستحقة عليها للبنك الدولي، مشيدة بـ”إصلاحات حكومية”.
بعدها بـ 3 أشهر، أقرَّ صندوق النقد الدولي قرضًا بقيمة 2.5 مليار دولار للسودان، وأبرم اتفاقًا تاريخيًّا مع البنك الدولي يقضي بتخفيف قدره 50 مليار دولار من ديون هذا البلد الفقير، مكرّسًا بذلك خروجه من عزلته المالية والسياسية التي بدأتها واشنطن.
إلى جانب الاعتراف الدولي وفتح أبواب القروض والمساعدات، يطمح عسكر السودان إلى تعزيز موقفه الأمني، خاصة أنه يعيش في محيط تسوده الفوضى والاقتتال وانعدام الاستقرار، ويأمل السودانيون في الحصول على التقنيات العسكرية والأمنية المتطورة للقيام بذلك.
مساع إسرائيلية
في مقابل ذلك، يتنزّل تطبيع العلاقات مع السودان ضمن نفس أهداف عمليات التطبيع السابقة بالنسبة إلى الإسرائيليين، ذلك أن الاحتلال الإسرائيلي أدرك أن غيابه عن مجريات الحدث الدبلوماسي والسياسي في القارة الأفريقية قد يصبُّ في صالح القضية الفلسطينية داخل المحافل الدولية والإقليمية، لذلك يسعى جاهدًا إلى إقامة علاقات قوية مع دول القارة حتى يضمن مساندتها.
#كاريكاتير
تطبيع السودان مع الكيان pic.twitter.com/rTaE7wMMjn— مبارك حزام العسالي (@Mubarak4Hezam) February 2, 2023
تبحث “إسرائيل” عن إقامة علاقات قوية مع حلفاء جدد حتى تكسب مزيدًا من القوة والمكانة، وتستميلهم إلى صفّ الكيان خدمةً لقضاياه ومشروعه الذي يهدف إلى القضاء على الفلسطينيين، خاصة أن السودان كان يميل إلى فلسطين على حساب الكيان الإسرائيلي.
استغلَّ الاحتلال الإسرائيلي استعداد العسكر السوداني للتخلي عن بعض المبادئ من أجل الفوز بوعود الدعم السياسي والأمني والاستثمار والتكنولوجيا، التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية في إطار سعيها إلى توطيد وجودها كدولة طبيعية ذات سيادة، وقد حصلت على ذلك.
يعلم كيان الاحتلال أهمية مكانة السودان في المنطقة العربية وأيضًا في شرق القارة الأفريقية، لذلك ركّز جهوده لإنجاح عملية التطبيع معه، وكسب حليف جديد في المنطقة يفتح له أبواب التمكين في المنطقة العربية وفي القارة الأفريقية.