ترجمة وتحرير: نون بوست
تعدّ مدينة الخليل في الضفة الغربية، التي تبعد أقل من ساعة بالسيارة عن القدس، مكانا فريدا من نوعه لأنها المدينة الفلسطينية الوحيدة التي يعيش فيها المستوطنون اليهود بين السكان المحليين وليس في مجتمعات منفصلة.
لهذا السبب، رغم انسحاب الجيش الإسرائيلي من مدن الضفة الغربية الأخرى في منتصف التسعينيات كجزء من اتفاقيات أوسلو للسلام، إلا أنه أبقى سيطرته على المركز القديم في الخليل الذي يضم الموقع المقدس للمسجد الإبراهيمي، وهو المكان الذي دفن فيه النبي إبراهيم. وتُعرف المنطقة باسم “خ 2” وهي منطقة حضرية خاضعة لأحد أطول احتلال عسكري مباشر في العالم، وهي حقيقة يمكن لأي زائر إدراكها على الفور حيث أن المحلات التجارية مغلقة وحركة الفلسطينيين مقيدة بشدة بينما تنتشر الجدران الخرسانية والأسلاك والكاميرات الأمنية والحواجز ونقاط التفتيش في كل مكان.
بعد أن خدمت في الخليل كضابط مشاة شاب في التسعينيات، أشعر بارتباط خاص بهذه المدينة. لقد عدت إليها في السنوات اللاحقة كصحفي، ومؤخرا، عملت مع المخرج الوثائقي الإسرائيلي المخضرم إيديت أفراهامي على فيلم يؤرخ تاريخها الحديث، مستخدمين أصوات الجنرالات الإسرائيليين الذين حكموا المدينة لسرد قصة السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية.
عُرض فيلمنا بعنوان “مختبر الاحتلال “خ 2” في تل أبيب في أيار/ مايو الماضي وبثته القناة الوثائقية الإسرائيلية، لكن خلال الأسابيع الأخيرة تعرض فيلمنا الوثائقي للهجوم واُلغيت العروض، وشنت حملة تشويه ضدنا على الإنترنت. لقد ساءت الأمور منذ أن تولت الحكومة الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو السلطة في كانون الأول/ ديسمبر.
اتهم وزير الثقافة الجديد، ميكي زوهار، فيلمنا وفيلما وثائقيا جديدا آخر بعنوان “طفلان في اليوم” يركز على اعتقال الجيش للقصر الفلسطينيين، بتشويه سمعة “إسرائيل” والإضرار بسمعة الجيش. وقبل أن يشاهد هذه الأفلام حتى، أعلن زوهار أن مكتبه يدرس الإجراءات المحتملة التي ستتخذ ضدها، بما في ذلك إجبار المخرجين على سداد أي تمويل حكومي سابق، وهو مطلب من شأنه أن يفرض غرامة كبيرة على شركات الإنتاج، علما بأنه تم إنفاق الأموال المعنية بالفعل.
يأمل زوهار أيضًا أن يمنع أي مشاريع مماثلة من خلال مطالبة صانعي الأفلام الذين يسعون للحصول على منح حكومية بالتعهد بأن أعمالهم لن تضر بسمعة “إسرائيل”. ونتيجة للسيطرة الجديدة التي يحظى بها الجناح اليميني على البرلمان، فإن مقترحات زوهار يمكن أن تصبح حقيقة واقعة قريبًا. بالإضافة إلى ذلك، من شأن اعتماد صناعة السينما الإسرائيلية على دعم دافعي الضرائب أن يجبر العديد من صانعي الأفلام على توقيع مثل هذا التعهد أو المخاطرة بعدم إكمال مشاريعهم.
عمومًا، لا يحب المجتمع الإسرائيلي مناقشة موضوع الاحتلال، وبالتالي أصبحت التقارير الإخبارية المحلية حول هذا الأمر نادرة في السنوات الأخيرة. وفي أغلب الأحيان، تُروى هذه المواضيع من منظور “القضية الأمنية” مع إعراض عن طرح مسألة حقوق الإنسان أو غياب الحقوق السياسية للفلسطينيين.
مع ذلك، ظل المشهد الوثائقي الإسرائيلي المزدهر فضاءً رئيسيًا لتعريف الجمهور بالواقع الذي تعيشه الأراضي المحتلة، والثمن الذي يدفعه المجتمعان مقابل ذلك. لا يستمر صانعو الأفلام في توثيق ما يحدث في الضفة الغربية فحسب، بل ينجحون أحيانًا في إشراك المجتمع في الوقت الذي تفشل فيه الأساليب الأخرى. تخلق الأفلام عالما خاصا بها، لذا فهي تمتلك القدرة على تجنب الروايات والأيديولوجيات المهيمنة، لخلق تواصل على المستوى العاطفي، وليس فقط على المستوى الفكري؛ كما أنها تروي قصة وغالبًا ما تقدم فرصة لمواءمة منظور جديد.
إن الأفلام الوثائقية المشهورة التي تم إنتاجها على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، مثل “القانون في هذه الأجزاء” وفيلم “المحامي” الحائز على جائزة إيمي والفيلمين المرشحين لجوائز الأوسكار “حراس البوابة” و”5 كاميرات مكسورة“، قد سلطت الضوء على الممارسات القاسية التي تستخدمها “إسرائيل” في الضفة الغربية وأثارت نقاشات عامة شرسة.
ساهمت أعمال أخرى مثل “الصندوق الأزرق” و”طنطورة” بأكثر من ذلك، من خلال تقديم فحص نقدي للرواية الرسمية بشأن جذور الصراع العربي الإسرائيلي. ومن غير المستغرب أن تولد هذه الأفلام الوثائقية بالفعل الانزعاج ورد فعل عنيف. والآن، يرى اليمين الإسرائيلي، الذي سعى منذ فترة طويلة إلى نزع الشرعية أو حتى تجريم انتقاد الاحتلال، فرصة لإلغاء مثل هذه الأفلام.
قبل بضعة أسابيع، ألغى مجلس المدينة فجأة عروض فيلمنا التي كانت مقررة في قاعة عامة في برديس حنا-كركور في شمال تل أبيب، بحجة غريبة مفادها أن الأماكن العامة لا يمكن أن تستضيف أحداثًا مثيرة للجدل سياسيا.
لا يمكن لـ”إسرائيل” أن توفّر الديمقراطية لمواطنيها من جهة، والدكتاتورية العسكرية لغير مواطنيها من جهة أخرى، دون أي عواقب. ومع أنها تمكنت من تفادي ذلك لفترة طويلة، إلا أن لحظة الحقيقة قد حانت الآن
كما هدد أعضاء مجلس المدينة في القدس بقطع ميزانية “المكتبة السينمائية في القدس” في حال عُرض فيلمنا الوثائقي. (رغم ذلك، قام المركز بعرضه). نُظّمت مظاهرات في المكاتب السينمائيّة في ضواحي تل أبيب في هرتسليا وحولون حيث عُرض فيلم “طفلان في اليوم”. ونُشر رقم الهاتف الخاص لرئيس بلدية حولون في مجموعات على واتساب من قبل ناشط يميني، وانتشرت الميمات والرسائل المتداولة بين الجماعات اليمينية التي اتهمتني واتهمت مديري المشارك بمعاداة السامية وبأنني أحد نشطاء حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
بقدر ما يمكن أن تكون الهجمات الشخصية مرهقة، فإن التطورات الأكثر إثارة للقلق تتجاوز ما نعيشه في حياتنا. يعتمد إنتاج الثقافة والصناعة الإبداعية في “إسرائيل” على المساعدة الحكومية، وتقدم العديد من الصناديق، إلى جانب اليانصيب الوطني، منحًا لصانعي الأفلام. ومن خلال تسييس هذا الدعم والتهديد بمنع صانعي الأفلام اليساريين من تلقي المنح وإخضاع المشاريع إلى إشراف سياسي، يبدو أن الحكومة الجديدة تسعى إلى تحويل صناعة السينما إلى وسيلة دعاية للدولة والاحتلال والحكومة.
في الواقع، تتجاوز المشكلة ميزانيات الأفلام إذ يسعى وزير الاتصالات الجديد، شلومو كارهي، إلى إغلاق هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية “كان”، وهي واحدة من أكبر المستثمرين في المحتوى الأصلي في إسرائيل. ووفقًا للتقديرات الشائعة في الصناعة، فإن الحكومة تنوي تحويل جزء من ميزانية “كان” على الأقل إلى الشبكات التجارية، وخاصة إلى قناة إخبارية صغيرة يمينية متشددة تعتبر على نطاق واسع المنصة الناطقة باسم نتنياهو وأنصاره.
علاوة على ذلك، قدّم تحالف نتنياهو مقترحات من شأنها أن تجعل الصحافة النقدية والعمل الوثائقي شبه مستحيل. ومن شأن مشروع قانون أن يمنع بث التسجيلات التي تتم دون موافقة أصحابها، بينما يحظر مشروع قانون آخر تسجيل الجنود أثناء العمل، أو حتى مشاركة مثل هذه الفيديوهات عبر الإنترنت. يندرج استيلاء الحكومة على صناعة الثقافة والإعلام ضمن الجهود المبذولة للحد من سلطة المحاكم.
يركّز فيلمنا على فكرة أن ما يحدث الآن في الخليل يمكن أن يحدث وسيحدث في مكان آخر؛ أولاً في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ثم داخل “إسرائيل”. لهذا أطلقنا عليه اسم “مختبر الاحتلال”. وبالفعل، فإن طريقة استقبال هذا الفيلم والجهود الأخيرة المبذولة لقمعه قد أضافت ثقلا لهذه الفكرة، لكن القصة الكامنة هنا أكبر من مصير الفيلم، وأكبر حتى من صناعة الأفلام بأكملها. لا يمكن لـ”إسرائيل” أن توفّر الديمقراطية لمواطنيها من جهة، والدكتاتورية العسكرية لغير مواطنيها من جهة أخرى، دون أي عواقب. ومع أنها تمكنت من تفادي ذلك لفترة طويلة، إلا أن لحظة الحقيقة قد حانت الآن.
المصدر: نيويورك تايمز