نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وقع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة مع نظيرته الإيطالية جورجيا ميلوني صفقة وصفت بـ”التاريخية” تقدر بقيمة 8 مليارات دولار لتطوير قطاع الغاز والطاقة الشمسية ومشاريع لالتقاط الكربون بهدف تعزيز إمدادات الطاقة إلى أوروبا.
إلى جانب هذه الصفقة المهمة – التي من شأنها أن تكون انطلاقة لعودة الشركات الكبرى للاستثمار في ليبيا – كثّف الدبيبة تحركاته على المستوى الداخلي والخارجي، في مسعى منه لتسويق شخصه، استعدادًا لاستحقاقات سياسية قادمة.
عادة ما تكون هذه التحركات، مادة دسمة للواء المتقاعد خليفة حفتر وجماعته، لتخوين الدبيبة وكيل التهم إليه وإثبات سعيه للبقاء في السلطة على حساب الليبيين، لكن هذه المرة اختار حفتر الصمت على غير عادته، إذ لم نسمع له صوتًا.
لم يعتد المتابع العربي أو الليبي لمجريات الأحداث في هذا البلد العربي، صمت حفتر إزاء تحركات منافسيه، فهو لا يرضى أن يكون في الهامش، ما جعلنا نتساءل عن سبب هذا الصمت وأهداف اللواء المتقاعد من وراء ذلك.
تراجع الدعم الخارجي
قبل 3 أسابيع، التقى حفتر بمدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، في زيارة نادرة للمسؤول الأمريكي إلى ليبيا، إذ لم يزر مدير الـ”سي آي إيه” ليبيا منذ هجوم استهدف عام 2012 مقر البعثة الأمريكية في بنغازي وأسفر عن مقتل السفير الأمريكي وثلاثة أشخاص آخرين.
بعد هذا اللقاء، ركن حفتر قليلًا إلى الراحة، وبالنظر إلى مخرجات اللقاء وما تناوله، يمكن فهم سبب ذلك، إذ شدد المسؤول الأمريكي في هذا اللقاء على ضرورة ابتعاد اللواء المتقاعد عن العمل العسكري وترك المجال أمام السياسيين في المرحلة المقبلة للوصول إلى حل للأزمة في البلاد.
إلى جانب ذلك، جاءت أوامر أمريكية لحفتر بضرورة فك الارتباط مع جماعة فاغنر الروسية، وهو ما يفقده أبرز دعائم قوته العسكرية، ذلك أن فاغنر كانت تؤمن موانئ وآبار النفط، وساهمت بقوة في حرب حفتر على العاصمة طرابلس، وأشرفت على تدريب قواته.
ترى العديد من القبائل أن حفتر خان العهد وعجز عن تحقيق ما وعد به، فمكانتها في تراجع ونفوذها لم يعد كالسابق
تسعى واشنطن من وراء هذه التحركات، إلى ضرب روسيا ودفعها للخروج صاغرة من ليبيا، خاصة أنها تخشى من سيطرة فاغنر على العديد من حقول النفط والغاز، الذي يمنح موسكو نفوذًا جديدًا في سوق الطاقة العالمية.
أوامر فك الارتباط مع فاغنر، جاءت لحفتر من مصر أيضًا، إذ طلبت القاهرة من حليفها الأبرز في ليبيا إبعاد القوات الروسية من حدودها، خاصة أن الإدارة الأمريكية أعلنت في وقت سابق تصنيف مجموعة “فاغنر” منظمة إجرامية دولية، بسبب ارتكابها “فظائع وانتهاكات واسعة” لحقوق الإنسان.
ويُفسّر الطلب المصري بالضغوطات الأمريكية الممارسة عليه، فنظام السيسي يأمل في الحصول على مساعدات مالية وعسكرية أمريكية لدعم اقتصاد بلاده المتهالك، وهذا الأمر لا يتم إلا بأخذ مسافة عن الروس المتورطين في الحرب ضد أوكرانيا.
لكن من المهم التذكير بأن الدعم الروسي لحفتر في الفترة الأخيرة قد تراجع، في ظل تركيز موسكو على الحرب ضد أوكرانيا، فالإدارة الروسية منشغلة في الوقت الحاليّ بحسم المعركة هناك، فكل يوم إضافي يعني خسائر إضافية للروس.
وإلى الآن لم يتمكن الروس من حسم الحرب ضد أوكرانيا، في ظل المقاومة الأوكرانية القوية والدعم الغربي الكبير الذي تتلقاه كييف، إذ حصل الأوكرانيون على مساعدات عسكرية ناهزت قيمتها 35 مليار دولار منذ بداية الحرب السنة الماضية.
نفهم من هنا أن حفتر خسر حليفه المصري والروسي، وخسر أيضًا الحليف الفرنسي، ما زاد من متاعبه وحتم عليه الركون إلى الراحة بعض الوقت، فهذه المرحلة يتم فيها إعادة تقسيم الأدوار ولا يريد حفتر التهور حتى لا يخسر نفوذه المتبقي.
?رئيسة وزراء إيطاليا في ليبيا لإبرام صفقة غاز بقيمة 8 مليارات دولار pic.twitter.com/01csHszCi6
— أحداث عالمية? (@video_00) January 28, 2023
جاءت خسارة الحليف الفرنسي، نتيجة فشل السياسة الفرنسية في القارة الإفريقية، فماكرون لم يفلح في التعامل مع مجريات الأحداث في دول القارة السمراء، بما في ذلك ليبيا، ما أفقد باريس مكانتها هناك بدءًا من ليبيا مرورًا بمالي وإفريقيا الوسطى، وصولًا إلى تشاد والنيجر، دون أن ننسى المغرب.
حتى الدعم الخليجي، لم يعد كالسابق، فدول الخليج التي تأتمر بأوامر الإدارة الأمريكية، بدأت في رفع أيديها عن حليفها السابق حفتر، بعد تلقيهم الأوامر الأمريكية لذلك، وأيضًا لفشله في تحقيق الأهداف التي سُطّرت له مقابل تلقي الدعم.
تراجع دعم القبائل
إلى جانب ذلك، عرفت العلاقات بين اللواء المتقاعد خليفة حفتر والقبائل الليبية في الفترة الأخيرة تصدعًا، إذ سحبت أغلب القبائل البساط من تحت أقدام حفتر وأوقفت تعاونها معه، لعدم تمكنه من تحقيق الوعود التي أطلقها سنة 2014.
ترى العديد من القبائل أن حفتر خان العهد وعجز عن تحقيق ما وعد به، فمكانتها في تراجع ونفوذها لم يعد كالسابق، أيضًا لم تنس القبائل خسارتها للعديد من أبنائها في حرب حفتر ضد حكومات طرابلس، دون أن تجني أي فائدة من ذلك.
يعلم حفتر أن حلم الرئاسة أصبح صعب المنال، لذلك كان عليه أن يقدم ولده صدام حتى لا يخرج الحكم من البيت
وعرف دور القبائل في ليبيا، في الفترة الأخيرة، تراجعًا في الحياة السياسية وكذلك الاجتماعية، وقد أثر انحياز العديد منها إلى جانب حفتر في حربه ضد الحكومات الشرعية على حيادها، ولم يعد لها كلمة مسموعة، على عكس ما كان عليه الوضع قبل 3 سنوات من الآن.
يعلم حفتر أن تراجع دعم القبائل لقواته، له أن يؤثر سلبًا على نشاطه العسكري والسياسي، لذلك اختار الركون إلى الراحة الإجبارية، حتى لا تكون خسائره أكبر، فخسارة الروس والقبائل في وقت واحد تقتضي من حفتر إعادة التفكير أكثر في خطواته القادمة.
تصدير ابنه صدام لساحة الفعل
فضلًا عن هذه الأسباب الخارجية، هناك سبب آخر متعلق بحفتر وهو حالته الصحية، إذ عرفت الحالة الصحية لحفتر في السنتين الأخيرتين تدهورًا كبيرًا، حتم عليه في العديد من المرات البقاء في المستشفى لوقت طويل.
المرض وتراجع دعم الحلفاء والقبائل، دفع اللواء المتقاعد إلى محاولة تصدير ابنه لواجهة الفعل السياسي لتنفيسه وتخفيف الضغط عنه وإقامة تحالفات جديدة، إذ يطمح حفتر أن يأخذ نجله صدام مكانه ويواصل المشوار، حتى لا تفقد العائلة مكانتها في ليبيا، ولا يذهب سعي الأب سدى.
علا شأن صدام في السنوات الأخيرة، ويريد حفتر استثمار ذلك، وهو ما يُفسر منحه حرية الحركة في الجانب السياسي، بحثًا عن حلفاء جدد لإعادة رسم خريطة التحالفات في البلاد، وكانت مهمته الأخيرة نسج تحالفات مع عدوهم السابق، رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة.
انتهى منذ قليل إجتماع ضمّ كلاً من مدير مكتب القائد العام الفريق “خيري التميمي” و”عصام بوزريبة” وبحضور “صدام حفتر” ووكيل وزارة الداخلية”فرج قعيم” بمقرّ القيادة العامة .
وذلك لمناقشة الأوضاع الأمنية ، وسبل التعاون العسكري والأمني في فرض الأمن ومكافحة الجريمة. pic.twitter.com/NsJqqPsnRE
— مغاوير القيادة (@Ibnwatanlibya) January 24, 2023
كما أُسندت لصدام مهمة التنسيق مع بعض الدول لضمان مواصلة دعم مشروع والده، ودائمًا ما يتنقل نجل حفتر إلى الخارج، خاصة إلى الدول العربية، رغم أنه لا يحمل صفة رسمية تخول له ذلك، كما هو الشأن بالنسبة لوالده.
لم يكن نشاط صدام سياسي فقط، بل عسكري وأمني أيضًا، حيث أُوكلت له مهمة البطش بمعارضي أبيه والإشراف على سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها حفتر منذ عودته من منفاه الاختياري في الولايات المتحدة الأمريكية وسعيه للسيطرة على حكم البلاد وعسكرة ليبيا.
كما تم تمكينه من السيطرة على حقول النفط ومسالك الإنتاج، وتحويل جزء كبير من عائداتها المالية لحسابه الخاص، فضلًا عن حساب العائلة في إعادة لما كان يحدث زمن أبناء القذافي، إلى جانب وضع يده على جزء مهم من الأموال الموجودة في البنك المركزي لمدينة بنغازي.
يعلم حفتر أن حلم الرئاسة أصبح صعب المنال، لذلك كان عليه أن يقدم ولده صدام حتى لا يخرج الحكم عن البيت، وهو ما يذكرنا بمعمر القذافي، الذي عمل في سنواته الأخيرة لتهيئة الحكم من بعده لولده سيف الإسلام، لكن الثوار منعوه من ذلك، وأنهوا حكمه قبل أن يورثه لابنه.