برزت في الآونة الأخيرة بالسودان دعوات لإجراء انتخابات رئاسية، من أجل إنهاء الأزمة السياسية، في ظل سعي محموم بين القوى الفاعلة في الشأن العام للوصول إلى السلطة عبر التوافق.
وبدأت هذه الأزمة السياسية نتيجة للانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، لتُبادر جهات محلية ودولية بالتوسط لحل هذه الأزمة، جميعها لم تجد قبولًا عدا مبادرة الآلية الثلاثية.
ونشطت مبادرة الآلية الثلاثية المؤلفة من بعثة الأمم المتحدة في السودان والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “إيغاد”، في عقد لقاءات فردية مع الأطراف الفاعلة، قالت إن الغرض منها تسهيل عملية حوار سوداني ـ سوداني من أجل استعادة الانتقال المدني.
عقدت هذه المبادرة مؤتمرًا في 8 يونيو/حزيران 2022، قاطعه ائتلاف الحرية والتغيير نظرًا لمشاركة القوى التي تقاسمت السلطة مع نظام الرئيس المعزول عمر البشير (1989 ــ 2019)، والقوى المؤيدة لاستمرار الحكم العسكري، وكانت منهجية هذا المؤتمر عقد حوار عسكري ـ مدني بغرض إنهاء الأزمة واستعادة الحكم المدني.
قاد هذا الفشل إلى إعلان الجنرال البرهان في 4 يوليو/تموز 2021، انسحاب المؤسسة العسكرية من عملية الحوار مع القوى المدنية، مع الاستعداد لتسليم السلطة إلى المدنيين حال توافقهم على تشكيل حكومة تنفيذية، مشترطًا ضمان هيمنته على العلاقات الخارجية وبنك السودان المركزي، ولاحقًا أضاف شرط عدم تدخل المدنيين في شؤون الجيش.
العودة لمربع الخلافات
في ظل هذا الوضع المضطرب، وضعت لجنة تسيير نقابة المحامين مشروع دستور انتقالي، وجد دعمًا محليًا ودوليًا كبيرًا، ما دعا الجيش والدعم السريع إلى الموافقة عليه ليكون أساسًا لعملية نقل السلطة، وبناءً على هذه الموافقة انخرطا مع ائتلاف الحرية والتغيير في حوار أدى إلى توقيعهما وقوى سياسية ومهنية أخرى اتفاقًا إطاريًا في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022.
خطوة إجراء انتخابات في ظل الوضع الراهن يمكنها أن تُفجر الأوضاع في السودان، نظرًا للعنف والصراع القبلي المنتشر في مناطق واسعة في البلاد، إضافة لوجود مناطق أخرى خارج سيطرة الحكومة.
يتوقع أن تكون خلاصة الورشة المنعقدة حاليًّا في العاصمة المصرية وثيقة تتضمن تقاسم السلطة مع الجيش، وذلك خلافًا للاتفاق الإطاري الذي نص على عودة العسكر إلى الثكنات
وتحدث هذا الاتفاق عن تسليم السلطة إلى المدنيين بعد التوافق على قضايا: تفكيك البنية الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية لنظام الرئيس المعزول عمر البشير وحل أزمة شرق السودان وإصلاح قطاع الأمن والدفاع وتقييم اتفاق السلام المُبرم بين الحكومة وجماعات مسلحة قاتلت نظام البشير في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
ومع بدء القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري مناقشة كيفية التوافق على هذه القضايا عبر مشاركة أطراف أخرى في مؤتمرات وورش عمل تُعقد للقضايا، وافق رافضو الاتفاق على مبادرة من النظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تتعلق بعقد ورشة في العاصمة القاهرة لبحث توافق سوداني ـ سوداني.
انطلقت أعمال ورشة القاهرة بمسمى “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع”، في 2 فبراير/شباط الحاليَّ وتنتهي أعمالها يوم 7 من هذا الشهر، وبختامها سيتوصل المؤتمرون إلى إعلان سياسي وإعلان دستوري وبرنامج لفترة الانتقال، وهذا يعني أن الأطراف المشاركة بصدد تشكيل تحالف جديد.
ويشارك في ورشة القاهرة قوى عديدة أبرزها الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية التي تضم زعماء عشائر وقوى سياسية تؤيد الحكم العسكري) وجماعات مسلحة مثل حركة تحرير السودان بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة بزعامة وزير المالية إبراهيم جبريل، إضافة إلى رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل.
ويتوقع أن تكون خلاصة الورشة المنعقدة حاليًا في العاصمة المصرية وثيقة تتضمن تقاسم السلطة مع الجيش، وذلك خلافًا للاتفاق الإطاري الذي نص على عودة العسكر إلى الثكنات.
وفي خضم هذه الخلافات بين قوى الاتفاق الإطاري ورافضيه، طرحت الحركة الاحتجاجية، أمس السبت 4 فبراير/شباط، النسخة النهائية لرؤيتها السياسية حيال أوضاع السودان، وهي التي ظلت تطالب بإبعاد العسكر عن الحكم ومحاسبتهم على جرم الانقلاب وقتل المحتجين.
محاولات جعل الانتخابات خيارًا جاذبًا
يعمل البرهان على استثمار خلافات القوى السياسية لضمان بقائه أطول فترة ممكنة في الحكم، وفقًا للمحلل السياسي عادل فاروق، الذي يقول لـ”نون بوست”: “البرهان يُساعد في إرباك الساحة السياسية عبر تداخلاته الداخلية والخارجية ليضمن بقائه في الحكم أو تعقيد الأزمة السياسية ليصبح الجميع أمام خيار الانتخابات المبكرة”.
ولم يستبعد فاروق أن تكون الورشة المنعقدة حاليًّا في القاهرة بإيعاز من البرهان، بغية تعميق الخلافات السياسية، لتهيئة الرأي العام لإجراء انتخابات رئاسية على الرغم من عدم الاستقرار، وأشار إلى أن إصرار البرهان على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، في هذا الوقت، هدفه إغراق الساحة السياسية في مواضيع حسمها السودان منذ عام 1967، عندما وضع لاءات: لا تفاوض ولا اعتراف ولا سلام مع “إسرائيل”.
ولا تزال مؤسسات الشعب السوداني متمسكة بموقف 1967، ويظهر هذا من رفض قوى سياسية بينها حزب البعث العربي الاشتراكي والمؤتمر الشعبي والكيانات المهنية مثل نقابة الصحفيين السودانيين، زيارة وزير خارجية الكيان الصهيوني إيلي كوهين إلى العاصمة الخرطوم.
وبحث البرهان وكوهين مسودة اتفاق سلام توقعه الحكومة المدنية المقبلة التي يضع الجنرال العقبات أمام تشكيلها، سواء بأفعاله مثل إطلاق يد عناصر الأمن والشرطة في قمع الاحتجاجات مع حصانة بعد مساءلتهم معززًا الإفلات من العقاب أم عبر تصريحاته.
وصرح الجمعة 3 فبراير/شباط الحاليّ، بأن الجيش لن يُفرط في البلاد ولا يريد أن يمضي في الاتفاق الإطاري مع جهة واحدة، وإنما يريد مشاركة الجميع في تنفيذه، لإدراكه ـ أي الجيش ـ لن يقبل أن تسوقه فئة معينة دون أن تشرك الآخرين.
وعن هذا التصريح، يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين مصعب محمد علي، إن الجنرال يمضي قدمًا في تهيئة الأوضاع لإجراء انتخابات رئاسية يترشح فيها، ومن ثم يُعين رئيس وزراء يترك له حرية اختيار حكومته، وربما لاحقًا تعقد انتخابات برلمانية، لكن السلطات ستكون بيد الحكومة التنفيذية.
ويؤكد مصعب أن هذه الخطوة يمكنها أن تُفجر الأوضاع في السودان، نظرًا للعنف والصراع القبلي المنتشر في مناطق واسعة بالبلاد، إضافة لوجود مناطق أخرى خارج سيطرة الحكومة.
وتسيطر الحركة الشعبية ـ شمال بقيادة عبد العزيز الحلو على أجزاء كبيرة من ولاية جنوب كردفان، جنوب السودان، كما تسيطر حركة تحرير السودان برئاسة عبد الواحد محمد نور على مناطق في جبل مرة بإقليم دارفور، غرب البلاد.
وفي 2022، تسبب العنف الأهلي في مقتل 991 شخصًا وتشريد 310 آلاف آخرين، ليرتفع بذلك عدد النازحين داخليًا إلى 3.8 مليون فرد، وهؤلاء يُطالبون بتحقيق العدالة للفظائع التي ارتكبت بحقهم وإعادتهم إلى مناطقهم التي فروا منها مع تعويضهم فرديًا وجماعيًا، وفي حال عدم تحقيق مطالبهم لن يدعموا خطوة جريئة مثل الانتخابات الرئاسة.
وثمة أمر آخر، إذا لم يُحل بطريقة مرضية للمجتمعات المحلية يستحيل معه تحقيق استقرار في السودان، وهو صراع الهوية في مناطق دارفور وشرق السودان.
وكشف فريق خبراء تابع لمجلس الأمن في الدولي في فبراير/شباط 2022، عن احتلال أجانب من تشاد وإفريقيا الوسطى ومالي والنيجر ونيجيريا، أراضٍ تعود ملكيتها إلى النازحين واللاجئين في دارفور، وهؤلاء يُعتقد على نطاق واسع أن قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية محمد حمدان “حميدتي” جلبهم، لضمان سيطرته المطلقة على الإقليم المضطرب.
أطراف أخرى تعمل على إجراء انتخابات مُبكرة
إضافة إلى البرهان، يخطط أنصار الرئيس المعزول عمر البشير وقوى شاركته الحكم وحركة تحرير السودان والعدل والمساواة، وفقًا لرئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي بابكر فيصل، للدعوة لعقد انتخابات عامة مبكرة حتى تنتهي الفترة الانتقالية دون إنجاز المهام المطلوبة للتأسيس الصحيح للتحول المدني الديمقراطي، حال اكتملت العملية السياسية وشكلت الحكومة القادمة.
وتابع: “كذلك اتفقت هذه الأطراف على الدعوة للانتخابات المبكرة في حال فشل جهودهم الرامية لتعطيل الاتفاق السياسي وتشكيل الحكومة”.
لا تزال الجماعات التي قاتلت نظام البشير ووقعت معها الحكومة اتفاق سلام في 2020، محتفظة بسلاحها
في المحصلة النهائية، لا يمكن تنظيم انتخابات دون إجراء تعداد سكاني وتفكيك بنية نظام عمر البشير وتحقيق سلام في جميع أنحاء السودان وحل الأزمات المجتمعية مثل إعادة النازحين إلى مناطقهم وأزمة شرق السودان، بجانب التوافق على قانون انتخابات وتأسيس هيئة مستقلة تشرف على العملية السياسية ودمج الجيوش المتعددة في الجيش.
ولا تزال الجماعات التي قاتلت نظام البشير ووقعت معها الحكومة اتفاق سلام في 2020، محتفظة بسلاحها، وبعد الانقلاب العسكري جرى الإعلان عن تنظيمات مسلحة جديدة في مناطق وسط وشمال وشرق السودان، وجميع قادة هذه الجماعات إن لم يجدوا تطمينات بالمشاركة في السلطة ربما يفجروا الأوضاع في البلاد لتصبح رسميًا دولة مليشيات.