ترجمة وتحرير: نون بوست
محمود طوالبة، شاب فلسطيني يافع ومهذب وهادئ يبلغ من العمر 17 عامًا، ولا يزال يضع تقويم الأسنان، يلعب التنس ويتعلم الإسعافات الأولية في أوقات فراغه، ويجلب القهوة والمياه لكبار السن في النادي الاجتماعي في مخيم جنين للاجئين بمساعدة أصدقائه. ومع ذلك؛ فإنه يرى أن الطريقة الحقيقية التي يتصورها هو وأقرانه لرد الجميل لوطنهم هي أن يموتوا شهداء؛ يقول: “دائمًا ما نتحدث عن الماضي وعن أصدقائنا الشهداء، ليس هناك أمل ولا فرصة في المخيم، نحن نعيش يومنا فقط”.
في بعض الأحيان؛ يتأمل طوالبة حسابات التواصل الاجتماعي للمراهقين الذين يعيشون حياة أسهل في أماكن أخرى، ويتمنى لو أن حياته مثلهم، لا سيما أن هذه الصور تذكير دائم بالحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية؛ حيث يضيف: “هناك شعور بأن الإسرائيليين لن يسمحوا لنا أن نعيش هذه الحياة”؛ وهو “شعور الاضطهاد”.
يُعد الصبية مثل طوالبة في قلب جولة التصعيد الأخيرة التي تعصف بالفلسطينيين والإسرائيليين؛ هم صبية بلا أمل، محبطون من آفاق حياتهم الضيقة ومن الوجود العسكري الإسرائيلي اللامتناهي، ومن السلطة الوطنية الفلسطينية الفاسدة وعديمة الجدوى. نشأ هؤلاء الصبية على الاعتقاد بأن الموت أثناء قتال اليهود هو شهادة ومجد أبدي. سُمّي طوالبة تيمنًا باسم عمه محمود طوالبة، قائد سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الذي استُشهد في سنة 2002 خلال الانتفاضة الثانية؛ حيث إن فكرة المقاومة المتوارثة عبر الأجيال تبدو واضحة على ابن أخيه.
هؤلاء الشباب مثل خيري علقم (21 عامًا)، الذي قتل سبعة مستوطنين يهود خارج كنيس عطيرت أفراهام في القدس الشرقية في 27 كانون الثاني/يناير، أو محمد عليوات (13 عامًا)، الذي أطلق النار وأصاب مستوطن إسرائيلي وابنه في سلوان في صباح اليوم التالي، وكان قد كتب قبل الهجوم: ” يا رب، النصر أو الشهادة”.
لا يعمل هؤلاء الشباب بالتنسيق مع باقي فصائل المقاومة الفلسطينية مثل حماس أو الجهاد الإسلامي، بل يتبعون اتجاه العمل الفردي المسلح، ويأخذون على عاتقهم السعي وراء القتل والاستشهاد، أو هم جزء من مجموعات مسلحة عابرة للفصائل، مثل منظمة عرين الأسود في نابلس، وهي فصيل شاب جديد يقض مضجع الجنرالات الإسرائيليين، ومن الصعب القضاء أو السيطرة عليها.
هناك شيء خطير يتصاعد في الأرض المقدسة؛ يتوقع البعض اندلاع انتفاضة ثالثة واسعة النطاق مماثلة لانتفاضتي الحجارة والأقصى المدمرتين في 1987-1993 و2000-2005، والبعض الآخر يتوقع فقط أن تتدهور جولة التصعيد الحالية أكثر لتصبح “أمرًا روتينيًا”؛ حيث وقُتل ما يصل إلى 180 فلسطينيًا وأكثر من 30 إسرائيليًا منذ بداية السنة الماضية.
يقول سامر سنجلاوي، الناشط في حركة فتح الفلسطينية: “أعتقد أن الانتفاضة الثالثة غدت أمرًا واقعيًا للغاية، لا سيما مع الجو السائد هناك، إن الانتفاضة قادمة لا محالة، ولا أحد يستطيع أن يتوقع متى أو كيف ستندلع”.
تركزت الانتفاضة الثانية في جنين شمال الضفة الغربية، ويعد مخيمها رمزًا ومصدرًا للمقاومة الشرسة ضد إسرائيل، فيها نشبت معركة جنين في نيسان/أبريل سنة 2002؛ حيث توغلت الدبابات الإسرائيلية لسحق خلايا المقاومة، مما أسفر عن استشهاد أكثر من 50 شخصًا.
في الشهر الماضي؛ سادت أجواء تشبه ما كان يجري في سنة 2002؛ ففي ليلة 26 كانون الثاني/يناير، اقتحمت القوات الإسرائيلية المخيم وقتلت تسعة أشخاص، سبعة منهم مسلحون واثنان مدنيان. في 19 يناير/ كانون الثاني؛ قتلت القوات جواد بواقنة (57 سنة)، وهو أستاذ رياضة، خلال مداهمة المخيم.
عندما زرتُ المخيم بعد أسبوع؛ شعرتُ بالغضب العارم خارج منزل بواقنة، حيث امتلأت الجدران بصور الأب المبتسم لستة أولاد.
وتقول بناته إن أبيهنّ أُصيب برصاص جندي إسرائيلي بينما كان يحاول إسعاف مسلح أُصيب برصاصة على عتبة منزله، وقد شهدن وفاته، وقالت ابنته آلاء (34 سنة): “كان مرحًا وينبض بالحياة، كان شابًا في الروح ونسويًا”.
كان بواقنة يدرّس الرياضة في المخيم، ويقوم بتنظيم فرقة استعراضية. وفي المساء؛ كان يحب الاسترخاء ومشاهدة مباريات نادي برشلونة.
رحّبت بي ثلاث من بنات بواقنة الأربع في مطبخهن بالقهوة والابتسامات، وكنّ يرتدين ملابس الحداد، لكن كلامهن كان مفعمًا بالتفاؤل.
وقالت صديقة العائلة رحمة (25 سنة):”لا يريدون التعازي، يطلبون أن نقول مبارك”، وأردفت: “تحتفل أمهات الشهداء بموت أبنائهن في سبيل الوطن ويغنين الأغاني، هذه هي الطريقة التي يقاومون بها المحتل”.
كان حفيد بواقنة البالغ من العمر سنتين، واسمه جواد أيضًا، يركض بصخب حول المطبخ، وهو من مشجعي كرة القدم أيضًا؛ حيث قالت لي آلاء بفخر: “كانت كلمته الأولى كتيبة”، وهي اسم يُطلق على مجموعة المقاومين هناك.
يضج مخيم جنين بمتاجر الألعاب المحلية، فبجانب باربي ودمى الدببة، يوجد رف من سلاسل العنق عليها صور المقاتلين الذين استشهدوا، وتزخر الجدران خارج المحل بصور الشهداء، وملصقات جديدة موضوعة فوق الملصقات القديمة الممزقة.
يقع المخيم – الذي يقطنه حوالي 11000 شخص – تحت سلطة قضائية مختلفة عن مدينة جنين المجاورة، وهو ومهلهل إلى حد كبير، فكثير من سكانه ينحدرون من نسل لاجئي النكبة سنة 1948، وما زالوا يأملون في العودة يوما ما إلى حيفا ويافا.
طالما أن هذا المخيم موجود، فسيظل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل قائمًا، فبغض النظر عن عدد الجدران التي تم بناؤها وإطلاق طائرات الاستطلاع بدون طيار، سيستمر الاحتلال وسيجد غضب الأجداد دائمًا في طريقه، وسيكون المزيد من الدم هو الحل لتدفع ثمن ما تم إفساده بالفعل.
وقالت آلاء عن الهجوم الذي قتل مستوطنين إسرائيلين خارج كنيس عطيرت أفراهام: “الشعور بالانتقام لا يموت، شعرت بالهدوء لأنه كان نوعًا من الانتقام. لكنه كان انتقامًا عن جميع الفلسطينيين، وليس لأبينا فقط”.
الضفة الغربية هي الأكبر بين قطعتين من الأرض مصنفة من قبل حكومة المملكة المتحدة على أنها الأراضي الفلسطينية المحتلة. من الناحية النظرية؛ تسيطر فتح عليها، لكن القوات الإسرائيلية والآلاف من المستوطنين الإسرائيليين ما زالوا هناك، وتحكم حماس قطاع غزة الواقع على ساحل البحر المتوسط بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منه في سنة 2005، لكن إسرائيل تفرض عليها حصارًا مشددًا.
أحد أسباب تنامي قوة المقاومين الشباب في الضفة الغربية هو ضعف السلطة الفلسطينية في رام الله ممثلة برئيسها محمود عباس البالغ من العمر 87 سنة والمريض؛ حيث تتراجع شعبية السلطة على نحو متزايد، ويُنظر إليها على أنها فاسدة وذات مصالح ذاتية، وأنها دمية تحركها قوات الأمن الإسرائيلية، وهي غالبًا ما تكون كذلك. وبينما يغيب عباس ببطء عن المشهد السياسي، يركز خلفاؤه المحتملون على صراعات السلطة الداخلية أكثر من التركيز على مقاومي جنين.
من جانبه قال سنجلاوي إن “القيادة الفلسطينية الحالية فقدت الاتصال بالواقع”، مضيفًا أن “المقاومة داخل الضفة الغربية أصبحت جسداً بلا رأس. ولا أحد يؤثر على ما يحدث في الشوارع”.
في الوقت نفسه؛ منذ انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر، وهي الخامسة في ثلاث سنوات، تمتلك إسرائيل الآن أكثر حكوماتها يمينية، حيث نُصّب المتشدد بنيامين نتنياهو رئيسًا للوزراء مرة أخرى. والآن من المأمول أن يجبر أعضاء اليمين المتطرف في ائتلافه على اتباع سياسات وسطية، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
قام بن غفير بجولة استفزازية حول الحرم القدسي، الذي يعد أحد أكثر المواقع الدينية المتنازع عليها بشدة في البلاد. وهو الآن وزير الأمن المسؤول عن قوة الشرطة الإسرائيلية التي تسعى للسيطرة على التوترات بين الشعبين العربي واليهودي، وهو ما يشبه إلى حد ما قيام تومي روبنسون [ناشط يميني بريطاني متطرف] بإدارة برنامج مناهضة الإرهاب في بريطانيا.
ومع عدم قيام السلطة الفلسطينية بدور الحارس الفعال، صعّد الإسرائيليون من توغلاتهم في الضفة الغربية، الذين يرون أن محاربة حماس شيء ووقف المراهقين اليائسين شيء آخر. من جانبه زعم ريتشارد هيخت، من جيش الدفاع الإسرائيلي، أن “هؤلاء الأطفال الذين يشعرون بالملل والساخطين بعد موجة فيروس كورونا يحبون “تيك توك”، بحيث إذا وضعت صورة لك مع مسدس، فأنت رائع وأنت رجل، وستصبح ترندًا”، على حد قوله.
قد تستقر الأمور فيما بعد؛ وقد يتم الوصول إلى توازن جديد، لكن الجيش الإسرائيلي قلق بشكل خاص من انتفاضة كاملة في أوائل نيسان/ أبريل، الذي يتداخل فيه عيد الفصح ورمضان، كما يزعم أن إيران، التي تواجه اضطرابات داخلية خاصة بها، تدفع حلفاءها في الضفة الغربية – الجهاد الإسلامي وحماس – إلى تصعيد الإجراءات ضد إسرائيل، كما أن انتفاضة ثالثة من شأنها أن تؤدي إلى عقد اتفاق بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وهو ما يسعى إليه الإسرائيليون ويخشاه الإيرانيون، ولكن من الصعب للغاية التوصل إليه.
من جانبه؛ قال النائب السابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي، عيران ليرمان، إن “لدى الإيرانيين رغبة قوية لتأليب الأجندة ضد إسرائيل”، وسيجد السعوديون صعوبة في المضي قدمًا في صفقة في هذا المناخ.
يوم آخر؛ وبيت حداد آخر، وهذه المرة منزل مورالي في نيفي يعقوب، بجوار الكنيس حيث وقع هجوم 27 كانون الثاني/ يناير، وحيث قتل آشر مورالي، 14 عامًا، برصاص خيري علقم، وهذه المرة لم تكن هناك ابتسامات، ولا قبول قدري للخسارة والموت، في الطابق السفلي، صلى الرجال وبكوا وأكلوا البيتزا، وفي الطابق العلوي؛ قدمت النساء عزاءً خافتًا وبكين دموعا هادئة.
ألقى والد آشر، هارون، خطبة طويلة عن ابنه، مشيرا إلى صور ملائكية له وهو يصلي وينفخ البالونات؛ حيث كانت عيون هارون مشرقة وبرية، وكان يدخن بشكل رجولي، ويسكب الرماد على قميصه الذي كان ممزقًا وفق العرف اليهودي “شيفا” الذي يتم خلال أسبوع الحداد، وقال: “لقد كان مثل هذه الروح يا ابني، إنه أمر لا يصدق أنه ليس هنا، لقد أراد أن يكون طيارًا، أو أن يكون لديه مزرعة في التلال يربي فيها الماعز والأبقار”.
وصفت والدة آشر، تشايا، ابنها بأنه صبي روحي درس بجد، مليئًا بالخير، وهو الأكبر بين ثمانية أشقاء، وقالت: “أفتقده بشدة”.
على الجدران خارج الكنيس المجاور؛ علقت لافتة مشؤومة تقول: “لا ينبغي التخلي عن الدم اليهودي”، وبعد وقت قصير من زيارتي؛ حضر بن غفير إلى منزل شيفا ووعد “بحرب شاملة” ضد الإرهاب، ولكن هل تسعى تشايا للانتقام أيضًا؟ قالت: “لا أشعر بالغضب، ولكن الألم فقط”.
لقد سئم العالم من هذا الصراع وهذا الألم، ولا يزال عدد قليل من الحكومات العربية يعطي الأولوية للقضية الفلسطينية، وفي معظم الأحيان؛ يسعى معظم الإسرائيليين إلى التقليل من وجودها، ويستمرون ببساطة في حياتهم. ومع تركيز الولايات المتحدة على روسيا والصين وتضاؤل وجودها في المنطقة؛ لا يقدم البيت الأبيض سوى كلمات جوفاء حول استئناف عملية السلام، لكن لا توجد عملية سلام، ولا يوجد سوى “الوضع” اللامتناهي الذي يجذب جيلا آخر إلى قبضته المهووسة: سرقة آشر مورالي من حياته الشابة، ودفع محمود طوالبة وأصدقائه إلى دائرة الاستشهاد، ووضع جواد بواقنة البالغ من العمر عامين على طريق المقاومة المسلحة.
لا يرى الإسرائيليون أي شخص على الجانب الفلسطيني يمكنهم حتى الاقتراب من الحديث عن صفقة معه، فالفلسطينيون يرون أراضيهم محتلة ومعتدى عليها، وحجب حقوقهم وحظر مستقبلهم؛ هما شعبان منقسمان بسبب الكراهية والتاريخ لدرجة أن لا أحد يزعج نفسه بالحديث عن السلام بعد الآن؛ مجرد “إدارة الصراع”.
مع عزل الضفة الغربية إلى حد كبير بسياج أمني تم بناؤه أثناء الانتفاضة الثانية وبعدها، فإن القدس هي الشق الحالي في الهجوم الإسرائيلي، ولهذا السبب وقعت معظم الهجمات الأخيرة هناك. القدس؛ حيث بدأ كل هذا، وحيث – في يوم من الأيام – يجب أن ينتهي بالتأكيد، ولكن الله وحده يعلم متى.
المصدر: التايمز