تُثار العديد من علامات الاستفهام حول الأسباب الرئيسية التي تقف خلف التحرك الأخير للبنك الفيدرالي الأمريكي من أجل منع عمليات تهريب الدولار من العراق إلى الخارج، وتحديدًا إيران، رغم أن عمليات التهريب نحو إيران كانت مستمرة منذ عام 2003 وحتى اليوم.
والأكثر من ذلك، منحت الإدارة الأمريكية العراق العديد من التسهيلات المالية في التعامل مع العراق، وتحديدًا في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، ودخول عقوبات الضغوط القصوى الأمريكية على إيران حيز التنفيذ، عبر السماح للعراق بمنح إيران المستحقات المالية نتيجة استيراده للطاقة من إيران.
ممّا لا شكّ فيه أن نظرة بسيطة إلى التوقيت الذي يقف خلف الخطوة الأمريكية الأخيرة، قد تُعطينا تصوّرًا واضحًا لطبيعة السياسات التي اعتمدها البنك الفيدرالي الأمريكي حيال العراق، وبالشكل الذي ساهم في خلق هزّات اقتصادية عانت منها سوق الأوراق المالية في العراق، وجعلت المواطن العراقي يعيش حالة من القلق الاقتصادي على مستقبل بلاده المجهول، في ظل سياسات اقتصادية ومالية عاجزة اعتمدتها حكومة محمد شياع السوداني في إنهاء هذه الأزمة أو الحدّ منها.
ورغم رسائل التطمين التي بعثتها مفاوضات إسطنبول بين محافظ البنك المركزي، علي محسن العلاق، ومساعد وزير الخزانة الأمريكية، براين نيلسون، الجمعة الماضية، إلّا أنها مفاوضات محدودة بشروط محدودة، وقد تعود الأزمة الاقتصادية إلى الظهور مرة أخرى، حسب التزام الجانب العراقي بالتعهُّدات التي قدّمها للجانب الأمريكي.
كشف موقع “إيران انترناشيونال” المعارض مؤخرًا عن شبكة تهريب واسعة إلى حسابات الحرس الثوري في إيران تديرها طهران من العراق بالتعاون مع السفارة الإيرانية ببغداد.
إذ وجدت الولايات المتحدة أنه في مرحلة ما بعد نجاح قوى الإطار التنسيقي في تشكيل الحكومة الجديدة، ارتفعت معدلات تهريب الدولار إلى إيران، وهي مؤشرات أكّد عليها نيلسون في محادثاته مع العلاق.
وفضلًا عن ذلك، أشارت العديد من التقارير الاستخباراتية إلى أن إيران مارست ضغوطًا عديدة على قوى الإطار التنسيقي للاستمرار بعمليات تحويل الدولار إلى إيران، عبر مزيد من النشاط في مزاد العملة الذي تسيطر عليه شبكة من البنوك ورجال الأعمال المرتبطين بأحزاب مقرّبة من إيران.
كما عملت إيران خلال الفترة الماضية على تشجيع عمليات فتح المزيد من مكاتب الصرافة في بغداد والمحافظات، من أجل وضع يدها على أكبر قدر من الدولار المتواجد في السوق العراقية.
وفي هذا السياق أيضًا، كشف موقع “إيران انترناشيونال” المعارض مؤخرًا عن شبكة تهريب واسعة إلى حسابات الحرس الثوري في إيران تديرها إيران من العراق بالتعاون مع السفارة الإيرانية ببغداد، ووفقًا للموقع فإن محمد تجن جاري، المدير المالي للوحدة 400 في قوة القدس التابعة للحرس الثوري، يودع المبلغ المطلوب في حساب هذه الوحدة بفرع “الشهيد آقا بابائي” لبنك الأنصار عن طريق الباسيج السريع في طهران.
وفي العراق، يدير هذه الشبكة محمود حسني زاده، أحد النشطاء القدامى في قوة القدس، بمساعدة مواطنَين عراقيَّين هما ميثم حمزة قاسم دراجي وميثم صادقي، والذراع الميدانية لتجن جاري في العراق هو مصطفى باك باطن، موظف في سفارة إيران وعضو في قوة القدس، والذي يتلقى الدولارات من مكاتب الصرافة في العراق بعد إصدار شهادة إيداع أموال في طهران.
ضرورات إيرانية
إن الواقع الاقتصادي الذي تمرُّ به إيران اليوم، والذي يأتي مترافقًا مع توقُّف تامّ للمحادثات النووية، يدفعها إلى إيجاد بدائل اقتصادية تجعلها قادرة على انتشال النظام من أزمة الاحتجاجات التي ما زالت مستمرة في إيران.
فإلى جانب توقُّف دعم إيران لحلفائها في الشرق الأوسط، فإنها اضطرت مؤخرًا رفع الدعم الاقتصادي عن العديد من البرامج الاجتماعية والخدمية في الداخل الإيراني، وفي الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة تمارس ضغطًا أكبر على إيران، عبر منع العديد من الدول، كالعراق وكوريا الجنوبية، إرسال حوالات مالية إلى إيران كمستحقات مالية نتيجة استيرادها للطاقة، فإن إيران تواجه معضلة اقتصادية كبيرة لا يمكن حلّها.
وفي هذا الإطار، تعوّل إيران على عمليات تهريب الدولار من العراق للمضيّ قدمًا في عملية إعداد الموازنة العامة في البلاد، والتي تبدأ عادةً مع بداية شهر مارس/ آذار من كل عام حسب التقويم الفارسي.
إذ تطمح إيران وعبر مزيد من عمليات تهريب الدولار والحصول على مستحقات مالية من العراق، تدعيم موازنتها العامة بالعديد من البرامج الاجتماعية التي يمكن أن تساهم في تخفيف وطأة الاحتجاجات في الداخل الإيراني، خصوصًا الحشود التي تطالب بمطالب خدمية واقتصادية، ولم تخرج بدوافع سياسية أو اعتراضًا على تضييق النظام على الحريات الاجتماعية.
الولايات المتحدة وعبر تلويحها بورقة الاقتصاد، وإيران عبر تلويحها بورقة الفصائل المسلحة، جعلتا العراق الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، وبالشكل الذي انعكس سلبًا على واقع المواطن العراقي.
إذ تدرك الولايات المتحدة إنه وعبر مزيد من الضغط على إيران، سواء عبر إيقاف عمليات تهريب الدولار من العراق، ودعم الاحتجاجات في الداخل، وتشجيع الحوارات الإقليمية ضد إيران، أن تثمر بالنهاية عن دفع النظام الإيراني نحو تقديم مزيد من التنازلات على مستوى الاتفاق النووي.
فما يهمُّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن هو تهذيب سلوك النظام في إيران، دون الاضطرار إلى دفعه لممارسة مزيد من الفوضى في المنطقة، فحتى الدعم الأمريكي للهجمات التي تشنّها “إسرائيل” اليوم في الداخل الإيراني هو دعم محدود لأهداف محدودة، دون أن تدفع إيران إلى الردّ الانتقامي.
تواجه حكومة السوداني موقفًا معقّدًا للغاية في كيفية انتشال العراق من معادلة الصراع الأمريكي الإيراني الذي تعددت صوره وأبعاده، وهي معضلة واجهت رؤساء الوزراء السابقين في العراق، ولم يتمكّن أي منهم في وضع العراق على مسافة واحدة من الولايات المتحدة وإيران، فكلا القوتَين تحاولان حسم اللعبة المزدوجة في العراق، وبالشكل الذي يجعل الساحة العراقية فرصة لإضعاف نفوذ الآخر.
فالولايات المتحدة وعبر تلويحها بورقة الاقتصاد، وإيران عبر تلويحها بورقة الفصائل المسلحة، جعلتا العراق الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، وبالشكل الذي انعكس سلبًا على واقع المواطن العراقي الذي بدأ يواجه واقعًا صعبًا للغاية، خصوصًا أنه كان المتضرر الوحيد من الأزمة الأخيرة عبر الانخفاض الكبير الذي أصاب الدينار العراقي، ما جعل القوة الشرائية للعديد من الفئات الاجتماعية ضعيفة للغاية، هذا إن لم تكن معدومة.