يقوم مشروع حكم قيس سعيد الأحادي على وجود “رئيس قوي” يُحكم سيطرته على كل مفاصل الدولة، ومؤسسات ضعيفة تأتمر بأمره، وترجع له في كل كبيرة وصغيرة، وهو ما يفسر حله لمجلس القضاء الأعلى وتعيين مجلس صوري مكانه، وأيضًا حل البرلمان والإصرار على انتخاب برلمان آخر يحل محله يشرف عليه الرئيس مباشرة.
بعد حل البرلمان، أشرف سعيد شخصيًا على تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، دون أن ينسى تغيير القانون الانتخابي وتقليص صلاحيات البرلمان، حتى يكون على نفس الشاكلة التي يطمح لها، أي برلمان صوري لا فائدة منه.
يريد سعيد أن يرجع البرلمان الجديد مباشرة إلى مؤسسة الرئاسة، وأن يكون دوره هامشيًا عكس ما كان عليه الوضع في السنوات الماضية، فدستور الثورة لسنة 2014، منح مجلس نواب الشعب صلاحيات كبرى، منها منح الثقة للحكومة وسحبها ومساءلة الحكومة ووزرائها وإمكانية سحب الثقة من الرئيس، الأمر الذي لم يرق لأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد.
نُظمت الانتخابات التشريعية في دورتين، وتم الاقتراع على الأفراد – كما يريد سعيد -، لكن يبدو أن النتائج لم تعجب الرئيس ولم تكن وفق المأمول، ما جعل فرضية إلغاء هذه النتائج أو تعطيل عمل البرلمان إلى حين تشكيل برلمان الجهات والأقاليم أمرًا واردًا، فهل يخطو سعيد هذه الخطوة؟
إمكانية توجه سعيد لإلغاء الانتخابات
تعتبر محطة الانتخابات التشريعية، مرحلة مهمة في مشروع قيس سعيد، وهو ما يُفسر تطويعه كل مؤسسات الدولة دون استثناء لإنجاح هذا الاستحقاق الانتخابي، رغم أن البلاد تشهد وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا حرجًا.
لكن درجة الاهتمام بالانتخابات قبل يوم الاقتراع لم تكن نفسها بعد الاقتراع، فالاهتمام تغير ونبرة الصوت أيضًا عند الحديث عن نتائج هذه الانتخابات تغيرت هي الأخرى، ما يؤكد أن أمرًا ما حدث لم يكن في حسبان الرئيس قيس سعيد.
من المتوقع أن يخرج سعيد على التونسيين مصدرًا قرارًا بإلغاء نتائج انتخابات مجلس نواب الشعب، للظهور في ثوب المنصت لقضايا الشعب ومطالبهم
بعد يوم من انتهاء الدور الأول للانتخابات وتسجيل نسبة تصويت ضعيفة، لم تتجاوز 11.22% من مجموع المسجلين، أطل الرئيس سعيد على التونسيين مبررًا ضعف نسب الإقبال على الاقتراع قائلًا: “نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول بل بالدورتين”.
لكن بعد انتهاء الدور الثاني وبقاء النسب على حالها، اعتبر سعيد، أن نسبة الإقبال على مراكز الاقتراع خلال الدورة الثانية للانتخابات التشريعية المبكرة يجب أن “تُقرأ بشكل مختلف”، قائلًا: “90% من التونسيين لم يُشاركوا في التصويت، لأن البرلمان لم يعد يعني لهم شيئًا”.
وأضاف “ينبغي أن نقرأ الأرقام لا بنسبة التصويت، بل بنسبة العزوف، ونتساءل لماذا رفض التونسيون المشاركة في الانتخابات، رغم تغيير طريقة الاقتراع”، أي أن سعيد يريد التركيز على نسبة المقاطعة والعزوف عوضًا عن نسبة التصويت على غير عادته.
وتابع الرئيس التونسي قوله “رفض التونسيون المشاركة في التصويت رغم تغيير طريقة الاقتراع لأن السنوات العشرة الماضية جعلت البرلمان مؤسسة داخل الدولة، مؤسسة عبثت بالدولة”، ما يؤكد تواصل رفض سعيد لمؤسسة البرلمان.
صباح الخير
انتخابات قيس سعيد غير شرعية ولا مشروعية لها ودورها الاول باطل والمواصلة فيها اهدار للمال العام وخداع للتونسيين.
— Khaoula Boukrim ? (@khaoulaboukrim) January 28, 2023
ضرب سعيد لدى اجتماعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن في مقر رئاسة الحكومة بالقصبة، مثلًا مثيرًا من التاريخ، إذ تحدث عن رفض بورقيبة لانتخابات الديوان السياسي للحزب الدستوري الحاكم حينها وتعويضه للقائمة المنتخبة بقائمة أخرى من عنده.
كلامه عن “قراءة مختلفة للنتائج” وحديثه عن واقعة بورقيبة مع انتخابات الديوان السياسي للحزب الحاكم، وعدم ترحيبه بنتائج الانتخابات، وأيضًا عدم تخصيص ميزانية لفائدة مجلس نواب الشعب في باب نفقات ميزانية الدولة، يُفهم منه إمكانية توجهه لإلغاء الانتخابات التشريعية أو تعطيل تشكيل البرلمان إلى حين تشكل مجلس الجهات والأقاليم.
الظهور في ثوب المنصت لمشاغل الشعب
من الممكن أن يتحجج سعيد بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم، ويعطل أشغال البرلمان إلى حين انتخاب هذا المجلس، لكن إلى الآن لم يتحدد موعد إجراء انتخابات هذا المجلس، ولم ينص قانون المالية لسنة 2023 على تخصيص ميزانية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم.
ونص دستور قيس سعيد على أن المجلس الوطني للجهات والأقاليم يتكون من نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم، وينتخب أعضاء كل مجلس جهوي ثلاثة أعضاء من بينهم لتمثيل جهاتهم بالمجلس، وينتخب الأعضاء المنتخبون في المجالس الجهوية في كل إقليم نائبًا واحدًا من بينهم يمثل هذا الإقليم في المجلس.
يمثل فشل أصدقاء سعيد في الوصول للبرلمان ضربةً موجعةً لسردية الرئيس وأنصاره بشأن شعبيته المزعومة
يمكن لسعيد أن يتعلل بهذا المجلس حتى يعطل عمل البرلمان، ويمكن أن يعطله مباشرة بحجة عدم الحاجة له وأن غالبية الشعب التونسي لم يشارك في الانتخابات التشريعية المبكرة لعدم حاجته للبرلمان بقدر حاجته لرئيس قوي “يحارب الفساد”.
من المتوقع أن يخرج سعيد على التونسيين مصدرًا قرارًا بإلغاء نتائج انتخابات مجلس نواب الشعب، للظهور في ثوب المنصت لقضايا الشعب ومطالبهم، خاصة أن فئة كثيرة من التونسيين لم تنس بعد “عبث” مجلس النواب في السنوات السابقة.
يريد سعيد أن يؤكد من وراء إلغاء نتائج البرلمان، إنصاته للشعب التونسي ومواصلة العمل على تحقيق مطالبه، رغم أن الجميع يعلم أن مصالح الشعب ومطالبه آخر اهتمامات الرئيس قيس سعيد منذ توليه رئاسة الجمهورية في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
الأسباب الحقيقة وراء هذه الخطوة إن تمت
لا نستغرب إقدام سعيد على إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية أو تعليق عمل البرلمان الجديد، خاصة إذا علمنا أن أغلب أنصاره فشلوا في حشد الشارع خلف مسارهم السياسي، ولم يتمكنوا من الوصول إلى مقاعد البرلمان رغم التسهيلات الكبيرة التي منحت لهم.
خلال الاستحقاق الانتخابي الأخير، لم يمنح الناخبون أصواتهم لجماعة قيس سعيد، وقطعوا طريق باردو أمامهم، لعدم اقتناعهم ببرنامجهم، أي برنامج سعيد، فأبرز أصدقاء الرئيس، أحمد شفتر، المدافع عن فكرة “البناء القاعدي”، فشل في الحصول على أغلبية الأصوات، ولم يتجاوز عدد المصوتين له آلفي شخص.
“وديت الشعب فين يا سعيد؟”.. انتخابات نظمها #قيس_سعيد ليشرعن بها انقلابه وصرف عليها 70 مليار دينار والبلد على حافة الإفلاس، فقاطعها كل التونسيين!#الانتخابات_التونسية pic.twitter.com/kmlBiXhKc9
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) January 30, 2023
يمثل فشل أصدقاء سعيد في الوصول للبرلمان ضربةً موجعةً لسردية الرئيس وأنصاره بشأن شعبيته المزعومة وتعرية فشلهم لا شعبيًا فقط بل على كل الأصعدة، ما يحتم على أستاذ القانون الدستوري إعادة التفكير في جدوى البرلمان القادم.
سقوط أغلب مرشحي قيس سعيد وتأكيد العديد من المنتخبين في البرلمان الجديد نيتهم عدم الالتزام بما نص عليه دستور سعيد في خصوص عمل البرلمان، وتوجههم للعمل وفق دستور 2014، يمثل مصدر قلق كبير للرئيس، فهو لم يكن يتمنى تشكل البرلمان بهذه الطريقة.
يخشى سعيد أن ينافسه البرلمان القادم ويعطل عمله، خاصة أن نتائجه والأسماء التي أفرزتها الانتخابات من الممكن ألا تنصاع لأوامره وتسبب متاعب له، أي أن التشكيلة البرلمانية الجديدة لم يكن ينتظرها سعيد.
لا يمكن أن نستغرب شيئًا من قيس سعيد، فهو الذي أقسم بين نواب البرلمان على احترام الدستور الذي أوصله إلى قصر قرطاج، لكنه خان العهد، وهو الذي ساهم في تقسيم الشعب التونسي وأضر بمصالحه في الداخل والخارج، وفي الحقيقة، فإن إلغاء نتائج الانتخابات لا يمثل شيئًا أمام ما اقترفه سعيد منذ وصوله للحكم.