لم تعد المساعدات العينية والمالية مجدية هذه الأيام لمن هم تحت الركام في الشمال السوري المنكوب بفعل الزلزال، إذ يقف الناس مذهولين من هول الموقف وفداحة الكارثة. المتطوعون كُثر، لكن 100 إنسان إن لم تتوفر لديهم المعدات والآليات لا يستطيعون إزاحة بناء سقط على أهله، فقتل منهم من قتل، وأبقى من ينتظر بصيص أمل. لسنا نتكلم عن حالة أو حالتَين، فآلاف العوائل في الشمال السوري ما تزال تحت الأنقاض، يقف ذووها الناجون على تلة الركام في طقس جليدي، عاجزون لا أدوات لديهم إلا أياديهم.
لا يكفي الجهد الفردي أو جهد المنظمات والفرق التطوعية المحلية، إذ إن المسعفين والمتطوعين يقفون عاجزين أمام هول المصيبة، يقول أحمد أبو الحسام، أحد متطوعي الدفاع المدني، في اتصال هاتفي معه: “يا أخي والله الكارثة كبيرة وبدها 10 دول تحملها، ما عنا شي ننقذ العالم فيه، عم نحاول نشيل الردم بإيدينا بس لو جبنا 100 واحد لنزحزح سقف مالح نقدر”، مضيفًا: “مبارح قلت لشاب تحت الأنقاض سامحني والله ما بعرف كيف ساعدك، قلي: بس زكاتك دخل أنبوب يعطيني هوا بلكي بضل عايش”.
كل المعدّات وآلات العمل التي تستطيع المساعدة في إزالة الأنقاض المتواجدة في شمالي سوريا لا تكفي بلدتَين أو ثلاثة، فكيف بهذه المأساة الكبيرة، يقول حسام النجار في حديثنا معه: “تأتي الجرافة إلى مكان الهدم فيتجمّع حولها الناس، كل له أقارب يريد أن يزيل الركام عنهم، يتحيّر السائق ماذا يفعل ومن أين يبدأ، والناس من حوله تستنجد بأي أحد يمكن أن يكون لديه أمل الإنقاذ أو النجاة لعوائلهم”.
يقول النجار، وهو مهندس معماري عامل في إحدى المنظمات الإنسانية: “إن تركيا بكل ما تملكه من أدوات وفرق وبنية تحتية إنسانية ومساعدات دولية وجسور جوية لم تستطع أن تتجاوز هذا الزلزال وتأثيراته، فكيف بنا نحن المنكوبون منذ 10 سنوات ولا أحد ينظر إلينا، لن يسمعنا أحد اليوم ولا غدًا، يجب على أيدينا أن تعمل كجرافات لكي نهدئ أنفسنا أمام هذا الكمّ من الضحايا، ومالي عارف هل حأرضي نفسي من هون لبعد 50 سنة أو لأ؟”.
الشمال يحتاج إلى استجابة عاجلة
في آخر إحصائية له، أعلن الدفاع المدني السوري العامل في مناطق الشمال السوري، ارتفاع حصيلة ضحايا الزلزال في مناطق عمله إلى أكثر من 810 حالة وفاة وأكثر من 2200 مصاب، وأوضحت المنظمة السورية أن العدد مرشّح للارتفاع أضعافًا بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض، وأن فرقها تواصل الإنقاذ وسط صعوبات كبيرة وحدوث هزات ارتدادية.
كما أطلقت العديد من المنظمات والمؤسسات السورية مناشدات لإرسال مساعدات وآليات إلى مناطق الشمال لإنقاذ الناس المتواجدين تحت الركام، وقال الدفاع المدني: “نناشد جميع المنظمات الإنسانية والجهات الدولية تقديم الدعم المادي، ومساعدة المنظمات التي تستجيب لهذه الكارثة ومساعدة ضحايا الزلزال بشكل عاجل”.
كما أعلنت الفرق والمنظمات العاملة في الشمال السوري أن الآلاف من البيوت إما تدمّرت كليًّا أو جزئيًّا وإما أن حالتها تنذر بالانهيار، فيما أعلنت عن آلاف البيوت المتضررة جزئيًّا، كل هذا يضاف إلى أن الوضع في عموم سوريا كارثي، حيث أعلن النظام السوري أن عدد القتلى نتيجة الزلزال في مناطق سيطرته وصل إلى أكثر من 812 قتيلًا بالإضافة إلى آلاف المصابين إلى الآن.
المتطوع أحمد أبو الحسام يقول لـ”نون بوست” إن “عدد القتلى في مناطق الشمال السوري مرشح لأن يكون بالآلاف لأن عدد العائلات المتواجدة تحت الركام كبير جدًّا، ونحن نعلن من خلال إحصاءاتنا فقط عدد الناس الذين ننتشلهم”، ويضيف أن الأمل بدأ يتضاءل بإنقاذ الأرواح بعد مرور أكثر من يوم ونصف، مشيرًا إلى أنه “رغم نفاد الوقت إلا أننا مستمرون بالجهود بما نستطيع”.
يضاف إلى الصعوبات التي تواجه عمليات الإنقاذ نقص الوقود، حيث حذّر الدفاع المدني السوري من نقص في المحروقات اللازمة لتشغيل معدّات وآليات إنقاذ المدنيين العالقين تحت الأنقاض في شمال غربي سوريا، وقال مدير المنظمة، رائد الصالح، في حديث صحفي إن “الفريق يستخدم احتياطي المحروقات منذ حوالي شهرَين، ما ينذر بكارثة جرّاء نقص المحروقات اللازمة في عمليات الإنقاذ”.
غياب النجدة
غابت المساعدات الخارجية العاجلة تمامًا عن الشمال السوري رغم سيل المناشدات التي أطلقتها المنظمات السورية وتوضيحها أن الأمر على قدر عالٍ من الكارثية، وممّا يمكن أن يساهم في زيادة حدة المأساة ما أعلنته الأمم المتحدة اليوم عن توقف تدفق مساعداتها الحيوية من تركيا إلى شمال غربي سوريا مؤقتًا، بسبب “الأضرار التي لحقت بالطرق وغيرها من القضايا اللوجستية المتعلقة بالزلزال الذي ضرب البلدَين”، بحسب وصفها.
يذكر أن الشمال السوري يعاني أصلًا من وضع مأساوي من ناحية دخول المساعدات الدولية، خاصة بعد أن ضغطت روسيا على الدول من أجل تخفيف عدد المعابر العاملة وجعلها تقتصر على معبر باب الهوى فقط، وفي الأصل فإن المساعدات التي تقتصر على السِّلال الغذائية لم تعد تكفي الناس في هذه الأيام، إذ إن الحالة الآن تستوجب دعمًا دوليًّا بالآليات والمعدّات والمنازل المتنقلة والمشافي الميدانية بشكل عاجل.
بدوره، صرّح مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس غيبريسوس، عن مواجهة المنظمة صعوبة في إيصال المستلزمات الطبية إلى سوريا وتركيا، مؤكدًا وجود مناطق في سوريا وتركيا لا معلومات عنها لحدّ الآن بعد وقوع الزلزال.
وقال غيبريسوس إن “أعداد القتلى في سوريا وتركيا لا تخبرنا بحقيقة الوضع الصعب الذي تواجهه العائلات”، محذّرًا من أن “فرص العثور على ناجين تتقلص مع مرور الوقت، ومن استمرار وقوع الهزات الارتدادية”.
إلى ذلك، نشر معبر باب الهوى بيانًا قال فيه إن الشريان الوحيد للشمال السوري من تركيا “مغلق حتى تاريخ اللحظة ولا يمكن لا شاحنات تجارية أو إغاثية ولا مسافرين ولا مرضى المرور”، ويذكر مسؤولو المعبر أن “الوضع كارثي، ولا يوجد أي حديث عن إرسال مساعدات دولية لمناطقنا”، ويعزو مسؤولو المعبر إغلاق المعبر من الطرف التركي إلى التضرر من الزلزال وعدم جهوزيته للخدمة.
مساعدات محتمَلة
رغم تأخُّر الاستجابة الدولية لشمالي سوريا، إلا أن بعض الدول أعلنت أنها تقيّم الوضع والاحتياجات في مناطق البلاد لإرسال المساعدات، ودعت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى فتح الحدود بين تركيا وسوريا، لتأمين تدفُّق المساعدات في ظل الكارثة الإنسانية التي تشهدها مناطق شمال غربي سوريا نتيجة الزلزال المدمّر.
وقالت مديرة الوكالة، سامانثا باور، إن الوكالة تتواصل مع مدير الدفاع المدني السوري حول كيفية استخدام المساعدات وإيصالها إلى مَن هم في أمسّ الحاجة إليها، وأضافت باور في تغريدة على حسابها في تويتر أن هناك حاجة إلى أن تظلَّ الحدود بين تركيا وسوريا مفتوحة لتدفُّق المساعدات الضرورية.
أفادت “وكالة الأنباء القطرية” بأن أمير البلاد، تميم بن حمد آل ثاني، أصدر تعليماته بإطلاق جسر جوي لتركيا، وقالت الخارجية القطرية إنه تمَّ تقديم 10 آلاف منزل متنقّل ضمن جهود الإغاثة المقدمة للمتضررين من كارثة الزلزال في سوريا وتركيا، ومن المعلوم أن قطر تساهم منذ سنوات بدعم الشمال السوري، وقد أطلقت جمعيات قطرية خيرية حملات استجابة فورية لمتضرري الزلزال في الشمال السوري كجمعية قطر الخيرية.
وقال مجلس الاتحاد الأوروبي إنه فعّل آلية الاستجابة السياسية المتكاملة للأزمات، بهدف تنسيق إجراءات دعم الاتحاد لتركيا وسوريا اللتين ضربهما زلزال مدمّر.
وطالبت منظمة العفو الدولية “أمنستي” النظام السوري بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى متضرري كارثة الزلزال شمال غربي سوريا “من دون قيود”، مشددة على المجتمع الدولي “بتعبئة الموارد فورًا لدعم جهود الإنقاذ شمالي سوريا”، وأوضحت العفو الدولية “أن السوريين في مناطق الشمال التي دمّرتها سنوات الصراع يواجهون تحديات إضافية”.
كيف هو حال المناطق في الشمال السوري؟
– انتشرت صور كثيرة على مواقع التواصل لاعتماد الأهالي على حفر مقابر جماعية لدفن قتلى الزلزال، وكانت أبرز الصور هي لدفن نحو 50 شخصًا في مقبرة جماعية، بعد أن قضوا في الزلزال المدمّر في منطقة ترحين في منطقة حارم بريف إدلب.
– كما انتشرت مقاطع وصور مؤلمة تبيّن حجم الكارثة من خلال افتراش عشرات الجثامين لساحات وممرّات المشافي بعموم الشمال السوري، خاصة تلك المتواجدة في ريف حلب الشرقي وعفرين.
جثث تملئ أرض مشفى #عفرين ومعظمها مجهول الهوية لأن عوائل بأكملها ماتت اليوم
أكثر من 150 جثة مجهولة
المحرر منكوب بالكامل pic.twitter.com/qbN0VZKiXI
— مزمجر الثورة السورية (@mzmgr941) February 6, 2023
– وفي حين تركّزت معظم جهود المنظمات والجهات في الشمال السوري على إنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لا تزال مئات العائلات في الطرقات والأماكن العامة وسط استمرار العاصفة الثلجية وتدني درجات الحرارة، وقال الدفاع المدني السوري إن عاصفة هوائية قوية مترافقة بأمطار غزيرة وثلوج ضربت شمال غربي سوريا، تزامنًا مع استمرار الهزات الارتدادية، محذّرًا من زيادة احتمال انهيار المباني.
– نشرت بعض المواقع والحسابات المحلية على وسائل التواصل قائمة ببعض المواد المطلوبة لإغاثة الناس المنكوبة، والمواد هي: ألبسة وبطانيات وخيّم ومعلبات وخبز، بالإضافة إلى التبرُّع بالمواد العينية للعوائل التي تتواجد في العراء.
ويطالب المسؤولون الصحّيون في المشافي والمراكز الصحية بتوفير سيرومات سكّرية وملحية، ومعقّمات (كحول، بوفيدون)، إضافة إلى جبائر، وشاش معقّم، ومضادات حيوية، وخافضات حرارة مثل السيتامول وريدي، كما طالبوا بتوفير كفوف معقمة وخيوط جراحية.
وعلى أية حال، فإنّ المحنة في الشمال السوري تستحق تحركًا دوليًا، كبيرًا وجادًا وآنيًا، بدل التذرّع بسوء البنية التحتية وصعوبة الوصول إلى المناطق المتأثرة بالزلزال كحجة للمماطلة، فتَحْتَ تلك التلال من الركام والأنقاض أرواح تلفظ أنفاسها، ويمكن إنقاذها، إن أسرعنا بما فيه الكفاية.