كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء في مدينة أضنة التركية عن الزلزال الذي ضرب منطقة كهرمان ماراش. قال لي إنه استيقظ في الساعة الرابعة فجرًا ليلاحظ حركة غير عادية للطيور، كان الأمر غريبًا حقًّا لأن الطيور لا يفترض بها الطيران أصلًا في هذا الوقت وهذا الطقس البارد، فضلًا عن الطريقة التي تصرّفت بها.
بعد ذلك بوقت قصير، حصل الزلزال الذي أودى بحياة ما يقارب 5 آلاف شخص في كل من تركيا وسوريا حتى كتابة هذا التقرير، لكن السؤال: هل تملك الحيوانات قابلية توقُّع الكوارث قبل حصولها؟
الحيوانات كانت تعرف
في عام 2004، تسبّب تسونامي بسبب زلزال بقوة 9.1 درجة تحت سطح البحر قبالة إندونيسيا، في تدمير التجمعات السكانية الساحلية حول المحيط الهندي، ما أسفر عن مقتل 225 ألف شخص على الأقل، يعود سبب العدد الهائل للقتلى جزئيًّا إلى عدم تلقّي العديد من المجتمعات أي تحذير.
فشلت أنظمة الإنذار المبكّر من صنع الإنسان المحلية، مثل مستشعرات المد والجزر والزلازل، في إعلان أي إنذار واضح، كان العديد منها معطّلًا بسبب مشكلات الصيانة، في حين أن عدة مناطق ساحلية تفتقر إلى أي أنظمة تحذير من صفارات الإنذار من تسونامي. فشلت الاتصالات العشوائية أيضًا في توفير التحذيرات، حيث لم توصل العديد من الرسائل النصية إلى الهواتف المحمولة في المناطق المهددة أو لم تتمَّ قراءتها.
تعود أقدم إشارة مسجّلة لسلوك حيواني غير عادي قبل وقوع كارثة طبيعية إلى عام 373 قبل الميلاد
ومع ذلك، في الدقائق والساعات التي سبقت ارتفاع المياه التي وصلت إلى 9 أمتار، بدا أن بعض الحيوانات تشعر بالخطر الوشيك وتبذل جهودًا للفرار.
وفقًا لروايات شهود عيان، ركضت الأفيال إلى مناطق مرتفعة، وهجر طيور النحام التعشيش في المناطق المنخفضة، ورفضت الكلاب الخروج في الهواء الطلق. كما أفاد السكان المحليون في قرية بانج كوي الساحلية في تايلاند، أن قطيعًا من الجواميس على الشاطئ بدأ فجأة بالتحديق بالبحر، ثم اندفع إلى قمة تل قريب قبل بضع دقائق من وقوع كارثة تسونامي.
تقول إيرينا رافليانا، التي كانت في السابق جزءًا من مجموعة استشارية لاستراتيجية الأمم المتحدة الدولية لمخاطر الكوارث (UNISDR)، وهي الآن باحثة في معهد التنمية الألماني في بون: “العديد من الذين نجوا ركضوا مع هذه الحيوانات أو بعد ذلك مباشرة”.
تعود أقدم إشارة مسجّلة لسلوك حيواني غير عادي قبل وقوع كارثة طبيعية إلى عام 373 قبل الميلاد، عندما أبلغ المؤرخ اليوناني ثوسيديديس عن هجر الفئران والكلاب والثعابين وعائلات ابن عرس مدينة هيليس في الأيام التي سبقت وقوع زلزال كارثي.
تقارير أخرى تحدثت في كيف أن الثيران والأغنام والكلاب والإوزّ بدأت في إطلاق تحذيرات فيما بينها قبل دقائق من زلزال نابولي عام 1805، بينما قيل إن الخيول قد هربت في حالة ذعر قبل زلزال سان فرانسيسكو عام 1906.
لعدة قرون، وصف الناس سلوكًا غير عادي للحيوانات قبيل الأحداث الزلزالية: الكلاب تنبح باستمرار، والأبقار توقّف حليبها، والضفادع تقفز من البرك. حاول عدد قليل من الباحثين إثبات وجود ارتباط، ففي دراسة أُجريت عام 2013، صوّر علماء من ألمانيا نمل الخشب الأحمر الذي يعشّش على طول خط الصدع بالفيديو، ووجدوا أنه غيّر روتينه المعتاد قبل الزلزال، وأصبح أكثر نشاطًا في الليل وأقل نشاطًا خلال النهار.
لكن معظم هذه المحاولات اعتمدت إلى حد كبير على الأدلة القصصية والملاحظات الفردية، وفقًا لمراجعة نشرة جمعية علم الزلازل الأمريكية لعام 2018، والتي فحصت 180 دراسة سابقة.
يقول باحثون في معهد ماكس بلانك لسلوك الحيوان وجامعة كونستانز، إنهم تمكنوا من قياس النشاط المتزايد بدقة في مجموعة من حيوانات المزرعة قبل النشاط الزلزالي. ورغم عدم إثبات الرابط النهائي بعد، يقول العلماء إن النتائج التي توصلوا إليها هي خطوة مهمة إلى الأمام في البحث عن قدرة الحيوانات على التوقع.
حيوانات المزرعة بدت وكأنها تتوقع الهزات في أي مكان من ساعة إلى 20 ساعة قبل ذلك
استخدم الباحثون أدوات حسّاسة للغاية تسجّل حركات متسارعة تصل إلى 48 حركة كل ثانية، وخلال فترات منفصلة بلغ مجموعها حوالي 4 أشهر في عامَي 2016 و2017، قاموا بتوصيل هذه المستشعرات البيولوجية وأجهزة استشعار GPS بـ 6 أبقار و5 أغنام وكلبَين في مزرعة في منطقة معرّضة للزلازل في شمال إيطاليا. حدث ما مجموعه أكثر من 18 آلاف هزة خلال فترات الدراسة تخلّلها زلزال بقوة 6.6 درجة وتوابعه.
أخذ التحليل الإحصائي للورقة في الاعتبار الحركات والتفاعلات اليومية الطبيعية للحيوانات، وأظهر أن نشاطها زاد بشكل ملحوظ قبل الزلازل التي بلغت قوتها 3.8 أو أكثر عندما تمَّ وضع الحيوانات معًا في إسطبل، لكن ليس عندما كانت في الخارج في المراعي.
يقول مؤلف الورقة، مارتن ويكيليسكي، إن هذا الاختلاف يمكن أن يكون مرتبطًا بالتوتر المتزايد الذي تشعر به بعض الحيوانات في الأماكن الضيقة.
يزعم الباحثون أن تحليل الحركات المتزايدة ككل أظهر إشارة واضحة للسلوك الاستباقي قبل ساعات من الهزات، ويقول ويكيليسكي: “إنه نوع من نظام التأثير المتبادل، في البداية تجمّدت الأبقار نوعًا ما في مكانها لكن الكلاب تصرفت بطريقة أكثر انفعالًا، لتلحق بها الأبقار، ثم تغيّر سلوك الخراف، وهكذا”.
يقول الباحثون إن حيوانات المزرعة بدت وكأنها تتوقع الهزات في أي مكان من ساعة إلى 20 ساعة قبل ذلك، وكان رد فعلها مبكّرًا عندما كانت أقرب إلى مركز الزلازل.
يؤكد المؤلفون أن هذه النتيجة تتفق مع فرضية أن الحيوانات تشعر بطريقة ما بإشارة تنتشر في الخارج، ففي الأيام التي تسبق وقوع الزلزال، تضغط الصفائح التكتونية المتحركة على الصخور على طول خط الصدع، ما يتسبّب في إطلاق الصخور للمعادن التي تطرد الأيونات في الهواء، واقترح مؤلفو ورقة بحثية في عام 2013 أن “الحيوانات تتفاعل بعد ذلك مع هذا الإحساس الجديد”.
الطيور التي تغلّبت على نظام الأرصاد الأمريكي
استخدم البشر سلوك الطيور للتنبؤ بالطقس منذ فترات مبكرة في التاريخ، رغم ذلك أجريت القليل من الأبحاث العلمية لمعرفة قدرة ودقة الطيور على التنبؤ بالأعاصير، لكن في السنوات الأخيرة وجدت دراستان أن الطيور قد تكون بالفعل قادرة على التنبؤ بالعواصف.
في عام 2014، اكتشف فريق من جامعة كاليفورنيا أن مجموعة من طيور ذات الأجنحة الذهبية قد فرّت من أراضي تكاثرها في الولايات المتحدة شمال شرق ولاية تينيسي، قبل وقت طويل من حدوث عواصف خارقة مدمِّرة مكوَّنة من 84 إعصارًا أودت لاحقًا بحياة 35 شخصًا.
اعتمد الباحثون على أجهزة صغيرة لتحديد الموقع الجغرافي (GPS) لتتبُّع حركة الطيور وخط مسارها. اعتادت الطيور أن تقضي وقت الشتاء في غابات الأمازون بأمريكا الجنوبية، وتقضي فصل الصيف للتكاثر في الولايات المتحدة، لكن الدراسة في ذلك العام اكتشفت أن الطيور قررت الهجرة مرة أخرى بشكل مفاجئ عائدة من حيث أتت رغم أنها قطعت 2500 كيلومتر لتوّها، وكان عليها أن تطير 900 كيلومتر أخرى.
في ذلك العام، حصلت سلسلة الأعاصير المدمرة. كانت المفاجأة ليست في التوقيت وحسب، إنما في أن الطيور اتخذت مسارًا أفضل للطيران، يتحاشى الرياح العالية والأمطار.
أظهرت دراسة أخرى في عام 2018 أن طيورًا أخرى تتمتع بقدرة على التنبؤ بالطقس، وأنها قادرة على التنبؤ بالعواصف ليس فقط بأيام ولكن قبل أشهر. درس الدكتور كريستوفر هيكشر من جامعة ولاية ديلاوير طيور الفرّي لمدة 20 عامًا، وهو نوع صغير من الطيور يعيش في أمريكا الشمالية، وكان هيكشر يجمع البيانات لمعرفة كيف ترتبط عادات تعشيش الطيور بشدة مواسم الأعاصير.
حتى الآن، لا يعرف العلماء على وجه الدقة كيف يمكن للطيور أن تشعر بوجود عاصفة قادمة
يعشّش طير الفرّي في الغابات شمال الولايات المتحدة وجنوب كندا، ويقضي الشتاء في منطقة الأمازون في أمريكا الجنوبية، أثناء هجرته بين المنطقتَين يجب أن يتعامل مع العواصف حول المحيط الأطلسي وخليج المكسيك.
في عام 2018، قام الدكتور هيكشر بالتنبؤ بناءً على سلوك الطيور بأن موسم الأعاصير في ذلك العام سيكون أقوى من المتوسط بناءً على طاقة الأعاصير المتراكمة بمقياس ACE الذي يقيس شدة العواصف بين 70 و150 درجة.
كانت التوقعات العامة تشير إلى أن الموسم سيكون أقل من المتوسط بدرجة تتخطى الـ 60 على مقياس ACE، بينما جاءت النتائج الحقيقية وقت الإعصار مقاربة جدًّا لتوقعات الدكتور هيكشر بناءً على تنبؤ الطيور بـ 129 درجة على مقياس ACE.
حتى الآن، لا يعرف العلماء على وجه الدقة كيف يمكن للطيور أن تشعر بوجود عاصفة قادمة، لكنهم يعتقدون أن الطيور كانت قادرة على التقاط الموجات فوق الصوتية المرتبطة بالطقس القاسي.
ومهما يكن من أمر، لا تزال الأبحاث متواصلة لاستخدام هذه الإمكانية من أجل توقُّع الكوارث الطبيعية، خاصة في الأماكن التي تشهد حصولها بصورة دائمة ومستمرة، على أمل تقليل أضرار الكوارث التي تحصد أرواح الآلاف سنويًّا.